كأن يونيو صار شهر النوازل والنكسات، منذ أصبحت الهزيمة الكبرى في عام 1967 عنوانا له، وقد شاءت المقادير أن تضاف إليها نكستان أخريان هذه الأيام؛ إحداهما تمرير اتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير في مصر، والثانية حصار قطر ومقاطعتها. وإذا قال قائل بأن الخطب أفدح وأننا في زمن النكسات والانكسارات فسأوافقه على الفور؛ إذ حين يتم تدمير سوريا والعراق ويلحق التدمير اليمن الذي تفتك به الكوليرا هذه الأيام، وحين تحاصر غزة من جيرانها ومن السلطة الفلسطينية و«إسرائيل» في الوقت نفسه ويستمر ذلك عشر سنوات، فلا ينبغي أن نخص بالذكر نكسات يونيو وحدها. لذلك ربما كان الأكثر دقة أن نتحدث عن الحلقات التي استجدت في مسلسل النكسات التي أكثرها صنعناها بأنفسنا، بما يعني أننا الجناة فيها والمجني عليهم.
لاتزال صدمة تمرير اتفاقية الجزيرتين تتفاعل، وكل ما نعرفه حتى الآن أن الحدث أذهل المجتمع المصري الذي صفعه الحدث حتى ألجم كثيرين، واقترن ذلك بالدهشة البالغة إزاء إخراج عملية التمرير من البرلمان، التي مثلت إهدارا للقانون والدستور، فضلا عما تخللها من إهانة علنية للقضاء بإحالة الاتفاقية إلى البرلمان رغم صدور حكم نهائي ببطلانها وانعدام أثرها. ثم بما عبر عنه رئيس البرلمان الذي كان أستاذا للقانون حين قال إنه ليس معنيا بحكم القضاء، الذي اعتبره أمرا يخصه وحده، وأنه والعدم سواء، وذهب إلى القول بأنه لا حجية لحكم مع مجلس النواب، وقد تم التمرير في أجواء مليئة بالغيوم؛ إذ تم حجب أكثر من 60 موقعا على الفيس بوك، وشنت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات واسعة بين الشباب المعارضين، كما أغلق ميدان التحرير وانتشرت الشرطة في شوارع قلب القاهرة والإسكندرية.
لم يفق كثيرون من الصدمة بعد؛ لذلك ليس معروفا على وجه الدقة ما الذي يمكن أن يحدث حين تتم الإفاقة. لكنني من الأجواء التي نلمسها والتعليقات الحادة والجارحة التي نطالعها، أزعم أن مصر بعد التمرير ستكون مختلفة عنها قبله، وإن الحراك السياسي سوف يأخذ منحى وربما شكلا آخر، وفي كل الأحوال فإن التمرير لن يكون نهاية المطاف، ولكنه سيكون بداية لطور آخر من النضال في ساحة القضاء وربما غيرها من الساحات. ولأن الجرح كبير وعميق، فإن ما جرى سحب كثيرا من رصيد الثقة بين المجتمع والسلطة؛ ذلك أن الأخيرة حين أرادت أن «تكحلها» بعرض الموضوع على البرلمان وتوفير الغطاء القانوني للاتفاقية التي عقدتها، فإنها «أعمتها» بالممارسات التي تمت داخل البرلمان، وبالكلام الخطير الذي أطلقه رئيسه وأهان به القضاء.
نكسة الحصار المفاجئ لقطر ومحاولة خنقها بإغلاق البحر والبر والجو من حولها لا سابقة لها في التاريخ العربي المعاصر، إذا استثنينا غزو العراق للكويت عام 1990. وهي تكاد تعيد إلى الأذهان بعض أوجه تجربة ملوك الطوائف في الأندلس (القرن الحادي عشر الميلادي)، حين تنافس الأمراء على الزعامة والغنائم وانتهى الأمر بهزيمتهم جميعا.
الإجراء المدهش بدا غير مفهوم في أسبابه وخلفياته، وما ذكر عن الأسباب بدا أن هدفه إدخال قطر في «بيت الطاعة» ومطالبتها بتغيير سياستها الداخلية والخارجية، لتتطابق مع معادلة مراكز القوى الجديدة في الخليج. وأغرب ما قيل في هذا الصدد كان تصريح وزير الخارجية السعودي الذي اتهم قطر بدعم حماس والإخوان، والأول مطلب إسرائيلي والثاني مطلب مصري، وللعلم فإن إحدى محاكم الدرجة الأولى في مصر اعتبرت حركة حماس تنظيما إرهابيا يوما ما، ولكن الحكومة طعنت على القرار فقضت محكمة جنايات القاهرة بإلغائه في شهر يونيو (أيضا!) عام 2015.
الذي لا يقل خطورة عن ذلك أن الحصار وجه ضربة قاصمة لمجلس التعاون الخليجي وتجاهل الجامعة العربية التي لم تعد طرفا في أي مشكلة عربية. كما أنه أحدث جرحا غائرا في العلاقات القطرية والدول الخليجية التي قادت الحملة، الأمر الذي كان له أثره في الأوساط الشعبية. وقد بلغ اللدد في الخصومة حدا بعيدا، أدى إلى اعتبار «التعاطف» مع قطر جريمة يستحق صاحبها السجن ما بين 5 و15 عاما؛ لذلك أزعم أن العلاقات بين الأشقاء في الخليج بعد الحصار ستختلف بدورها عما كانت عليه قبله.
لها حق «إسرائيل» أن تفرح وتعربد؛ لأنها تجد العرب يهزمون أنفسهم بأنفسهم كل حين ويوفرون عليها جهد مراقبتهم، بما يمكنها من التفرغ للإجهاز على ما تبقى من فلسطين.
الشروق المصرية