صحافة دولية

من دفتر ممداني.. حين وجدت نفسي في ميدان التحرير بين الثورة والخوف والهوية

زهران ممداني: من شوارع القاهرة إلى برلمان نيويورك… رحلة وعي بدأها في ميدان التحرير - جيتي
كتب زهران ممداني الذي فاز بمنصب عمدة نيويورك٬ مقالا في صحيفة "Bowdoin Orient" تحت عنوان “Bearded in Cairo”، عن رحلته إلى مصر وتجربته السياسية والإنسانية في قلب الأحداث التي سبقت الانقلاب على الرئيس الراحل محمد مرسي في 6 آب/أغسطس عام 2013 ، واصفا ما عاشه بأنه “تجربة غيرت رؤيتي للعالم ولنفسي”.

يقول ممداني إنه وصل إلى القاهرة يوم 19 يونيو/حزيران 2013، أي قبل 11 يوما فقط من اندلاع الاحتجاجات الواسعة التي أطاحت بالرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين. ويضيف: “استأجرت شقة في شارع بستان رقم 15، على بعد دقائق قليلة سيرا من ميدان التحرير. دفعت ضعف الأجرة كسائح أجنبي، وسحبت حقائبي إلى البهو. حاولت أن أشرح لحارس المبنى أنني مصاب برهاب الأماكن المغلقة وسأصعد الثمانية طوابق سيرا على الأقدام، لكنه ابتسم وأخذ حقائبي ودخل المصعد، بينما بدأت أنا الصعود”.

ويتابع أنه جاء إلى مصر بعد أن أنهى دراسة اللغة العربية في معهد تابع لجامعة ميدلبري بالولايات المتحدة، بناء على نصيحة صديق أوصاه بالالتحاق بمعهد لغات في القاهرة. يقول: “سجلت في دورة مكثفة لستة أسابيع، وتركت لنفسي أسبوعا في النهاية للسفر داخل البلاد”.


حين تصدم الفصحى بالعامية
يروي ممداني أنه سرعان ما أدرك الفجوة اللغوية بين ما تعلمه في القاعات الأكاديمية وما يسمعه في شوارع القاهرة: “تعلمت العربية الفصحى كما يفعل جميع الطلاب الأجانب، لكنني اكتشفت بسرعة أن لا أحد يتحدثها خارج الخطب الرسمية. كنت مثل شخصية شكسبيرية تتجول في لندن الحديثة”.

ويضيف ساخرا: “أثناء حديثي مع أحد المارة، توقف وقال لي: (لا أصدق أنني أتكلم الفصحى الآن!)... ومعظم حديثه كان بالعامية”.

ومع اللغة، جاءت الصدمة الثقافية. فقد لاحظ أن طريقة اللباس والهيئة قد تعني الكثير في القاهرة. يقول: “سكان القاهرة لا يرتدون الشورتات، ولا يحملون حقائب ظهر، ولا يجمعون بينهما. عندما فعلت ذلك، بدأ الناس يرمقونني ويكلمونني بالإنجليزية، يسألون إن كنت أحتاج مساعدة. عدت إلى السروال الدارج وإلى دفتر الملاحظات بدل الحقيبة”.

"وجدت نفسي أنتمي للمشهد لأول مرة"
يكتب ممداني أن وجوده في مصر جعله يرى الامتياز الاجتماعي من زاوية مختلفة: “في أمريكا، صورة الامتياز هي للرجل الأبيض المسيحي، لكن في القاهرة تغير اللون. كان الامتياز هذه المرة بلون بشرتي: أسمر، بشعر أسود، واسم مسلم. ومع اللباس المناسب، كان البعض يظن أنني مصري، وآخرون سوري. أي من الهويتين منحاني حرية الحركة والاستكشاف”.

إلا أن مظهره الجديد حمل أيضا رمزية سياسية لم يكن يتوقعها. “كنت أربي لحية منذ عام، بدأت كرمز للتمرد على الصورة النمطية الأمريكية التي ترى أن (كل ذي لحية بنية إرهابي). لكنني اكتشفت في القاهرة أن الخوف من اللحية لا يعرف حدودا”.

ويتابع: “أصدقائي المصريون قالوا لي مازحين ثم جديا إنني أبدو إخوانيا. في مصر هناك أربع درجات من شعر الوجه: حليق، لحية خفيفة أنيقة، إخواني، ثم ناشط. ولا أعرف كيف يصل الناشطون إلى الدرجة الرابعة دون المرور بالثالثة”.


عالم من النشوة الثورية
في 27 حزيران/يونيو 2013، وبعد أيام قليلة من بدء دراسته، مر ممداني بميدان التحرير في طريق عودته من المترو. يقول: “كان المتظاهرون قد تجمعوا لمتابعة خطاب الرئيس مرسي الذي كان مقررا تلك الليلة. جلست قرب مجموعة من النساء الكبيرات، نتابع المشهد. كان الجو مشبعا بالإثارة. حتى مع الأعداد المحدودة، احتشد الناس وهم يهتفون ويصفقون، يقودهم رجل فوق أكتاف آخر. أشعل شعلة حمراء وأخذ يلوح بها مع غروب الشمس. كان المشهد مزيجا من الثورة وملاعب كرة القدم وغلاف فاشل لمجلة إخبارية. شعرت أنني في بيتي”.

يقول إنه في تلك اللحظة فهم “إدمان الثورة”، موضحا: “من حرموا طويلا من التأثير في مصير بلادهم، وجدوا فجأة صوتا يتردد صداه بين الآلاف. سقطت الحواجز الطبقية، ووقف فقراء لا يملكون شيئا على أكتاف غيرهم يصيحون بصوت مرتفع. كان ذلك تضامنا اجتماعيا جديدا”.

لكن هذا الحلم لم يخل من الظلال القاتمة. يقول: “رغم مشاركة النساء في المظاهرات، بقيت الحواجز الجندرية قائمة. شاهدت مجموعات تحاول التصدي للاعتداءات الجنسية، مثل مجموعة مكافحة التحرش الجنسي ومجموعة كرامة بلا حدود، وقد أبلغت الأولى عن عشرات الحوادث في ليلة واحدة من الاحتجاج. فكرت أن أشاركهم، ثم أدركت أن آخر ما يحتاجه المصريون هو متطوع أجنبي حسن النية”.

لحية تتغير كما يتغير البلد
بعد تلك الليلة، قرر ممداني أن يذهب إلى الحلاق. يقول: “قلت له بالعربية الركيكة: أريد لحيتي مثل لحيتك، وشعري مثل شعرك. شعرت كأني أحد الأمريكيين ذوي البشرة البنية الذين حلقوا لحاهم بعد 11 أيلول/سبتمبر. خرجت بعد نصف ساعة بلحية خفيفة وتسريحة مصرية أنيقة”.

ويضيف: “كنت أستطيع احتمال تعليقات السكارى في حفلات الجامعة عن ‘اللحية الإرهابية الجميلة’، لكن مواجهة غضب مئات الآلاف من المتظاهرين شيء آخر. فهمت أنني لم أعد أمارس التحدي بل الغباء”.
ومع ذلك، بقي يرى في لحيته رمزا للموقف الفكري: “كانت لحيتي احتجاجا على التبسيط القاتل في ربط المظهر بالانتماء السياسي. فالتصنيفات الأحادية خطيرة في كل مكان”.

ما بعد مرسي.. الخوف يحكم الشارع
عندما أعلن الجنرال العسكري عبد الفتاح السيسي في 3 تموز/يوليو 2013، الانقلاب على الرئيس مرسي وتعليق الدستور، كان ممداني شاهدا على التحول التاريخي. يقول: “غمرتني نشوة المحتفلين في حيي، لكن قلق والدي ازداد. غادرت القاهرة فجر 5 تموز/يوليو إلى كمبالا بطلب منهم”.

بعد أسبوعين، عاد إلى القاهرة بعدما أقنع والديه بأن الأوضاع مستقرة نسبيا. “لكنني فوجئت بأن أستاذي، الذي كان معروفا بتأييده للإخوان، حلق لحيته وترك شاربا فقط. قال إن والدته طلبت منه ذلك خوفا عليه من خطاب الكراهية المنتشر ضد الإخوان”.

يتابع ممداني: “حين مشينا سويا إلى المترو، لاحظت أنه صار قليل الكلام، صوته خافت. كان الخوف واضحا في الشوارع. قال لي يومها: من الأفضل أن تتحدث الإنجليزية، لا العربية، حتى لا يظنك أحد سوريا. عندها فهمت أن الخوف صار عاما”.

قلق من تفويض السيسي
في 24 تموز/يوليو 2013، دعا السيسي المصريين للنزول إلى الشوارع لمنحه تفويضا لمواجهة “الإرهاب”. يعلق ممداني: “كان واضحا أن المقصود بالإرهابيين هم الإخوان. لكن المشكلة أن الاستبدال امتد أكثر: أصبح (ذو اللحية = إخواني)، (السوري = إخواني)، (الأجنبي = إخواني). ومرة أخرى وجدت نفسي داخل دائرة الاشتباه، رغم أنني حلقت لحيتي واكتفيت بذقن صغيرة سخيفة”.

يقول إنه قرر مغادرة القاهرة مجددا بعد تلك الدعوة. “في صباح اليوم التالي كنت على طائرة إلى نيويورك، وبعد يومين كنت في سريري في برونزويك”.


من القاهرة إلى الوعي
في ختام مقاله، كتب ممداني بلهجة تأملية: “أشتكي لأصدقائي من أن خططي في القاهرة انهارت، لكن معاناتي لا تقارن بما يعيشه المصريون. أمضيت شهرين أراقب فصول الاضطراب، بينما كانوا يعيشونه. ارتباطي بمستقبل مصر انتهى عندما حطت قدماي في نيويورك؛ أما هم فارتباطهم أبدي”.

ويضيف: “في هذا المشهد المعقد، تكمن الإجابات في مكان ما بين أعمدة الصحافة التقليدية وحكمة “تويتر”، حيث يكتب الصحفيون المستقلون أمثال شريف قدوس، وباتريك كينغزلي، وسارة كار، أكثر التحليلات صدقا٬ هناك فقط يمكن أن نبحث عن الحقيقة، بينما تتلاشى شوارع القاهرة في الذاكرة”.

تجربة زهران ممداني لم تكن مجرد رحلة دراسية إلى القاهرة، بل كانت رحلة داخل التحولات السياسية والاجتماعية لمصر بعد الثورة.

في شوارعها، اكتشف معنى الانتماء والهوية والخوف، وشهد كيف يمكن أن تتحول اللحية من رمز ديني إلى اتهام سياسي، وكيف يختلط الأمل بالذعر في ميدان واحد اسمه “التحرير”. رحل ممداني عن القاهرة جسدا، لكنه ختم مقاله بجملة تلخص وعيه الجديد: “اعتماد المصريين على مستقبل بلادهم أبدي، أما أنا فمجرد شاهد حمل الحكاية إلى الذاكرة.”