قضايا وآراء

تفكك الديمقراطية الغربية.. هل ينهار النظام من الداخل؟

لا يكون الاستبداد مجرد تمرّد من الأسفل، بل رغبة من الأعلى في استعادة السيطرة.. الأناضول
شهدت الساحة الأوروبية في الأسابيع الأخيرة تحولات سياسية لافتة أعادت فتح النقاش حول مستقبل الديمقراطية في الغرب. فقد أظهرت نتائج الانتخابات الهولندية الأخيرة تراجع بعض القوى اليمينية المتطرفة بعد فترة من الصعود السريع، بينما يواصل حزب "البديل من أجل ألمانيا" تعزيز موقعه في استطلاعات الرأي وتوسيع تحالفاته مع قوى قومية في أوروبا الوسطى والشرقية.

وفي فرنسا، لم تعد مارين لوبان على هامش الحياة السياسية، بل باتت قريبة من تحقيق اختراق حقيقي في الانتخابات المقبلة. هذا التناقض بين صعود وهبوط القوى الشعبوية، وبين مقاومة واستسلام المؤسسات الديمقراطية، يطرح سؤالاً أعمق وأخطر: هل تمر الديمقراطية الليبرالية بمرحلة اضطراب عابرة، أم أنها تتآكل من الداخل وتفسح المجال لعودة الاستبداد بأقنعة جديدة؟

يقف الغرب اليوم أمام أزمة ثقة أكثر منها أزمة مؤسسات. القوانين والانتخابات ما زالت قائمة، لكن الإيمان بها يتآكل ببطء. تقول آن أبلباوم إن “نهاية الديمقراطية لا تأتي بصوت المدافع، بل بصمت الرضا الشعبي”.
يشير عدد من المفكرين الغربيين إلى أن الديمقراطية الحديثة لا تموت بانقلابات عسكرية كما في الماضي، بل تتآكل ببطء وبموافقة شعوبها. يقول المؤرخ الأمريكي تيموثي سنايدر في كتابه عن الطغيان إن "أخطر مراحل التحول السلطوي تبدأ حين يعتاد المواطنون على التنازل عن حرياتهم باسم الأمن والاستقرار". فالطغيان الحديث، كما يصفه سناير "لا يحتاج إلى دبابات أو محاكم استثنائية، بل إلى تآكل الثقة بالمؤسسات والقبول التدريجي بخرق الأعراف، حتى تصبح الديمقراطية شكلا بلا مضمون وواجهة قانونية تخفي سلطوية ناعمة تتغلغل في مؤسسات الدولة".

وترى المؤرخة والصحفية آن أبلباوم في كتابها غسق الديمقراطية أن "الخطر لا يأتي فقط من الشارع أو من الحركات الشعبوية، بل من النخب نفسها. فجزء من تلك النخب، التي كانت يوما ركيزة النظام الليبرالي بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ يميل نحو السلطوية بدافع الحنين إلى "النظام" بعد عقود من العولمة والانفتاح". هؤلاء، كما تقول، "مستعدون للتضحية بحرية التعبير مقابل الشعور بالانتماء والأمان". بذلك، "لا يكون الاستبداد مجرد تمرّد من الأسفل، بل رغبة من الأعلى في استعادة السيطرة".

ويقدّم ستيفن ليفيتسكي ودانييل زيبلات في كتابهما الشهير كيف تموت الديمقراطيات نموذجا صارخا على هذا التآكل الداخلي. "فالأنظمة المنتخبة لا تنقلب على نفسها فجأة، بل تتغير “قانونياً” خطوة بخطوة: تقييد الإعلام، إضعاف القضاء، تضييق المعارضة. الشعبويون الجدد لا يحتاجون إلى الانقلابات العسكرية، بل إلى برلمانات مطواعة ورأي عام مُرهق بالخوف من المستقبل. وهكذا تتحول أدوات الديمقراطية نفسها إلى سلاح ضدها".

أما المفكر البولندي الراحل زيغمونت باومان فيرى أن "الحداثة الغربية فقدت استقرارها الأخلاقي والاجتماعي، لتتحول إلى “حداثة سائلة” لا يمسك بها شيء". في هذا الفراغ، تبحث المجتمعات الخائفة عن “قائد قوي” يرمز للأمان والنظام. وهنا، تنقلب القيم الديمقراطية إلى مجرد شعارات مكررة تُرفع في الحملات الانتخابية دون مضمون حقيقي.

وتضيف الباحثة الأمريكية شوشانا زبوف بعدا جديدا لمفهوم السلطوية من خلال ما تسميه “رأسمالية المراقبة”. ففي كتابها الصادر عام 2019، تشير إلى أن "الاستبداد لم يعد بحاجة إلى أجهزة أمنية تقليدية، بل إلى خوارزميات تُراقب كل نقرة وتفاعل رقمي". شركات التكنولوجيا الكبرى تعرف اليوم عن المواطن أكثر مما تعرفه الحكومات عن نفسها، وتستطيع التأثير في توجهاته وسلوكياته تحت غطاء الراحة والكفاءة. إنها، كما تقول زبوف، “سلطوية طوعية” تمارس بالإقناع لا بالقهر.

ويربط الكاتب البريطاني إدوارد لوس في كتابه تراجع الليبرالية الغربية بين هذا الانحدار الديمقراطي والأزمة الاقتصادية التي عصفت بالطبقات الوسطى والعاملة خلال العقدين الأخيرين. حين "يشعر المواطن أن النظام الديمقراطي لم يعد يوفر له عدالة اجتماعية ولا حماية اقتصادية، يصبح أكثر ميلا لتصديق وعود الشعبويين، حتى وإن كانت معادية لقيم الحرية والانفتاح". بهذا المعنى، فإن "الديمقراطية لا تسقط فقط بسبب الاستبداد، بل أيضا بسبب الظلم الاقتصادي".

يرى المفكر المغربي المهدي المنجرة، في مقولة استعادت راهنيتها اليوم، أن أزمة الديمقراطية الغربية ليست في آلياتها، بل في قيمها. فحين تتحول الحرية إلى أداة للهيمنة الاقتصادية، وتغدو الديمقراطية وسيلة لتبرير الفوارق لا لتقليصها، فإنها تبدأ بالانهيار الأخلاقي قبل المؤسسي. وهذا، في رأيه، ما يجعل الغرب يواجه "انفجاراً حضارياً" لا عسكرياً، نتيجة فقدانه التوازن بين المصلحة والضمير.
وتدعم الإحصاءات هذا الاتجاه المقلق. فبحسب مؤشر الديمقراطية العالمي لعام 2024 الصادر عن وحدة المعلومات الاقتصادية، سجّل العالم أدنى مستوى ديمقراطي منذ بدء التصنيف عام 2006. كما أظهر تقرير فريدوم هاوس السنوي استمرار تراجع الحريات السياسية والمدنية للعام السابع عشر على التوالي، وهي أطول فترة تراجع منذ نهاية الحرب الباردة. أما في الولايات المتحدة، فتشير بيانات مركز بيو للأبحاث إلى أن الثقة في الحكومة الفيدرالية لا تتجاوز 22%، وهو مستوى قياسي من التشكيك بالمؤسسات. هذه الأرقام تعكس أزمة ثقة حقيقية في قدرة الأنظمة الديمقراطية على تجديد نفسها، في ظل تزايد دعوات تقييد الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بحجة مكافحة التضليل أو حماية الأمن القومي، وهي حجج تشبه إلى حد بعيد تلك التي استخدمتها الأنظمة السلطوية التقليدية.

وفي أوروبا، لا يزال اليمين القومي يواصل صعوده: في فرنسا يقترب من الإليزيه، وفي إيطاليا وصلت جورجيا ميلوني إلى الحكم بخطاب قومي محافظ، بينما أعادت حكومات المجر وبولندا صياغة دساتيرها لتكريس سلطاتها وتقليص استقلال القضاء والإعلام. يسمي سنايدر هذا التحول بـ"الاستبداد الانتخابي"، حيث تُستخدم الأدوات الديمقراطية نفسها لإفراغها من مضمونها. والأخطر أن ذلك يجري تحت غطاء “الشرعية الشعبية”، كما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري، الذي يصف الظاهرة بـ"الاستبداد الجماهيري" استبداد يولد من داخل المجتمع نفسه، لا من فوقه.

في قلب هذا المشهد، يبرز بعدٌ جديد أكثر خفاء: الاستبداد الرقمي. يشير المفكر الكندي جوردان بيترسون إلى أن أنظمة المراقبة الذكية تمنح شعورا زائفا بالأمان، لكنها في الحقيقة تقوض الإرادة الحرة للمجتمعات، لتتحول الرقابة إلى ممارسة ناعمة من دون طاغية ظاهر ولا سجون. الناس يظنون أنهم أحرار، لكن خوارزميات الذكاء الاصطناعي تحدد لهم ما يشاهدون وما يعتقدون.

ويرى المفكر المغربي المهدي المنجرة، في مقولة استعادت راهنيتها اليوم، أن أزمة الديمقراطية الغربية ليست في آلياتها، بل في قيمها. فحين تتحول الحرية إلى أداة للهيمنة الاقتصادية، وتغدو الديمقراطية وسيلة لتبرير الفوارق لا لتقليصها، فإنها تبدأ بالانهيار الأخلاقي قبل المؤسسي. وهذا، في رأيه، ما يجعل الغرب يواجه "انفجاراً حضارياً" لا عسكرياً، نتيجة فقدانه التوازن بين المصلحة والضمير.

يقف الغرب اليوم أمام أزمة ثقة أكثر منها أزمة مؤسسات. القوانين والانتخابات ما زالت قائمة، لكن الإيمان بها يتآكل ببطء. تقول آن أبلباوم إن “نهاية الديمقراطية لا تأتي بصوت المدافع، بل بصمت الرضا الشعبي”. فحين يملّ الناس من الجدل وتعدد الأصوات، يحنّون إلى البساطة والانضباط، وهي اللحظة التي، كما يوضح سنايدر، تبدأ فيها الطغيانيات الحديثة بالازدهار. إنه مفترق طرق حاسم: إما مراجعة الذات وإحياء القيم الليبرالية القائمة على الحرية والمساءلة والعدالة الاجتماعية، أو الانزلاق نحو حكم هجين يمزج بين أدوات الديمقراطية وميول الاستبداد، استبداد رقمي، جماهيري، قانوني في الشكل.. قاتم في الجوهر.

وفي النهاية، لم يعد السؤال هل يمكن أن يعود الاستبداد إلى الغرب، بل أي شكل جديد سيتخذه في عالم تحكمه الخوارزميات، ويعيد فيه الخوف تعريف الحرية، حتى تصبح الشعوب مطيعة باسم إرادتها الحرة.