قضايا وآراء

ماذا يقرأ السجناء؟.. يوميات معتقل (16)

"القرآن يظل وحده بلا منافس" في السجن- الأناضول
عدت من النيابة منهكا وغاضبا، كان اليوم الثالث على التوالي الذي يأخذونني فيه إلى النيابة صباحا، وأظل هناك حتى منتصف الليل. في المرة الأخيرة، سألني وكيل النيابة عن المعاملة، وهل لدي أي شكوى ليتدخل في حلها؟

قلت: ظهري يؤلمني بشدة من البرد والإرهاق والنوم على السيراميك في برد الشتاء، وأرغب في توفير علاج.

أظهر تفهما وتعاطفا، وأمسك بورقة وقلم وهو يقول: سأكتب لإدارة السجن حالا للتأكيد عليهم بعرضك على طبيب.

الوكيل الشاب كان يعاملني بود وكرم شخصي في استخدام حمامه الخاص وعزومة الغداء والعشاء التي يحرص أن يسألني قبلها عن نوع الطعام الذي أفضله.

كنا يوم سبت، وبعد انتهاء التحقيقات في الحادية عشره قبل منتصف الليل، قال لي: نرتاح بكره ونتقابل الاثنين.

فوجئت صباح اليوم التالي بالنداء على اسمي وإخباري بالخروج معهم لسيارة الترحيلات، للتوجه إلى النيابة، قلت لهم ما قاله الوكيل الأمس، وكررت أنا متأكد مفيش جلسة تحقيق اليوم. لكن الأوامر هي الأوامر، ولا يجدي معها نقاش ولا عقل.

ذهبت معهم إلى النيابة، وفوجئت أن المعاملة غير المرات السابقة، فبدلا من الصعود بي إلى الطابق الرابع لمكتب الوكيل، اقتادوني إلى الحجز، فتحوا الباب الحديدي الأسود وأدخلوني إلى غرفة كبيرة (حوالي 7 أمتار في 9 أمتار)، تخلو من أية مقاعد وفي نهايتها على اليمين مرحاض قذر تتسرب فيه المياه من الصنابير والمواسير!

كنت وحدي تماما، وقضيت قرابة الساعة أتمشى بمحاذاة الجدران برغم الآلام الشديدة في ظهري، فلا بديل لذلك إلا الجلوس على البلاط القذر البارد بملابس السجن الخفيفة.

بعد ساعة ونصف تقريبا سمعت صرير الباب الحديدي، وأدخل الحراس رجلا بملابس مدنية يحمل في يده مسبحة وتحت إبطه لفة كبيرة، ألقى الرجل السلام بود، وفرد اللفة التي يحملها، فإذا هي بطانية وسجادة صلاة ومياه معدنية وكيس مليء بالطعام، وبعد أن فرش فرشته، اتجه ناحيتي وصافحني وأصر أن أشاركه الجلوس والطعام والدردشة.

كالعادة يبدأ الحديث بسؤال: قضيتك إيه؟

لم يتعجب أن قضيتي سياسية: "باين من وجهك وسلوكك إنك مثقف وسياسي".

لم أساله عن قضيته، لكنه تطوع بالحديث: أنا أموال عامة.. سكرتير محافظة وباقي لي شهور وأخرج معاش.. على نهاية السنة يعني، وفوجئت باتهامي في قضية رشوة مع آخرين قيمتها 72 ألف جنيه.

قلت لهم: دي غلطتي أني قضيت مدة خدمتي بشرف وأنا شايف وعارف الرشاوي في كل مكان من حولي، مش بالألف.. لأ بالملايين.. اللي في مكاني وعاوز رشوة مش هيقبل بالفكة دي؟.. مبلغ الـ72 ألف اللي بتتكلموا عنه ما ينفعش قيمة رشوة في شغلنا!

أفرجوا عني بكفالة، وأديني مستمر معاهم في تحقيقات لا تقدم ولا تؤخر، حتى تظهر الحقيقة.

صلينا الظهر معا، وقبل آذان العصر نادوا عليه، فخرج ومعه عدته تاركا لي بقية زجاجة المياه، وبقيت وحيدا في المكان البارد القذر الموحش حتى نال مني التعب، طرقت على الباب الحديدي من الداخل، رد الحارس من الخارج: عاوز حاجة؟

أنا محتجز هنا ليه؟.. أنا هقابل الوكيل هشام.. وللاه رجع السجن تاني؟

معندناش معلومات.. مش شغلنا.. لما يطلبوك هننادي عليك.

انتظرت لما بعد آذان المغرب وطرقت الباب بعنف وغضب معا، رد حارس آخر صوته مختلف.

قلت بصراخ: انتو بتغيروا شيفتات عليا وأنا مرمي هنا لا كرسي ولا أكل ولا ماء.. دي محاولة قتل.. بلغ وكيل النيابة هشام .. إني موجود من 9 صباحا.

رد الحارس من وراء الباب: هشام بيه مشي من بدري.

جن جنوني وبدأت أشتم وأتهمهم بمحاول قتلي وطلبت إبلاغ النائب العام.
رد الحارس بغباء وبلادة: النائب العام في الرحاب مش هنا.

قلت: بلغ ضابط الترحيلات اللي بره أن المسجون اللي جوه عاوزك.

جاء الضابط وخاطبني من وراء الباب، فأعدت عليه الكلام منفعلا.

قال بأدب بارد: هبعت أشتري لك عشا.. احنا هنقتلك ليه؟.. ده شغلنا، لما يبلغونا نرجعك هنرجعك.. احنا تعبانين أكتر منك، وغرضنا نخلص الترحيلة ونرجع بيوتنا.

مرت نصف ساعة ولم يعد الضابط ولا جاء العشاء، ولا ظهرت أي علامة لوجود تحقيق في هذا اليوم الطويل المهلك.

عدت لطرق الباب بغضب وشتائم، وحدثت جلبة قصيرة في الخارج انتهت بفتح الباب، ورأيت ضابط الترحيلات أمامي بيدين فارغتين: ياللا مفيش تحقيق.. هنرجعك على السجن.

- ما قلت لكم من الأول مفيش جلسة اليوم.. مين مسؤول عن البهدلة دي؟ ومين ورا الاستدعاء الغريب ده؟

كالعادة لا يوجد رد ولا تفسير لأي تصرف أو قرار في السجون.. إنها منظومة تعليمات يتم تنفيذها بلا فهم ولا نقاش بطريقة "العبد المأمور".

عدت إلى السجن منهكا، وفوجئت بنقلي من "عزل الوارد" إلى العنبر (1/1)، بعد حفلة ترحيب واستقبال وكرم من السجناء تناولت العشاء ونمت في غاية الإرهاق لمعرفتي بأنني سأتجه إلى النيابة في الصباح للمرة الرابعة على التوالي.

في عمق الليل، على الأغلب في الثلث الأخير قبيل الفجر، كنت بين النوم واليقظة، في تلك الساعة التي أسماها انجمار برجمان "ساعة الذئب"، وهي الساعة التي تولد فيها الكوابيس وتنشط فيها الأشباح والشياطين، ويكون النائم في أضعف حالاته النفسية والبدنية، في تلك الساعة في تلك الليلة سمعت صوتا يقرأ:

"أُولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين"

فيقاطعه صوت آخر: اشْتَرَوُا.

فيعيد قراءة الآية..

يعود الصوت المصحح: اشْتَرَوُا بالفتحة.

فيعيد قراءة الآية مرة أخرى.

فيكرر صوت المصصح بنبرته الرفيع الحادة: اشتا را و .. مش اشترُوُا.

وظل الموقف يتكرر لمرات كثيرة، حتى تلاشى الصوت تدريجيا، وأفقت على صوت الحارس ينادي اسمي: البس واخرج عندك جلسة.

خرجت إلى النيابة، وحكيت للوكيل ما حدث معي أمس وطلبت تفسيرا وتوثيقا لما حدث معي، فقال بهدوء: خليها عندي المرة دي، أنا آسف.. اضطريت أستدعيك عشان كان فيه مستجدات مهمة قلت آخد رأيك فيها، وبعدين التعليمات اتغيرت في آخر لحظة، ونسيت أبلغهم يرجعوك السجن قبل ما أمشي.

صمت لحظة ثم سألته: خير إيه المستجدات؟

- أنا كنت بلغتك آخر مرة إن عندي أخبار تهمك هقول لك عليها المرة الجاية.

* فعلا حصل

- كانت هناك نية للإفراج عنك في 6 مارس في نهاية الـ15 يوم تجديد، لكن حصلت مستجدات من خارجنا، وشكلك معانا لفترة مفتوحة، وده معناه أنا هنوقف التحقيقات معاك قريبا جدا، وننتظر موعد أول جلسة محكمة.

* هدخل: وضعية التلاجة" يعني، زي ما بيقولوا في السجن؟

- أنا حبيت أكون صريح معاك زي ما اتفقنا من البداية، لكن القانون قانون، ولا يتأثر برأيي ورأيك.

* قانون إيه بقى وانت بتقول إن النيابة مش صاحبة القرار.

- في القضايا السياسية تقديرات لأكثر من جهة، وقرار النيابة مش منفصل عن تقديرات لجهات تانية وحضرتك طبعا فاهم، على كل حال أنصحك تتعامل بهدوء ومن غير انفعالات، لأن الانفعال يضر ولا يفيد في شيء.. تحب تتغدى إيه؟

* شكرا.. مفيش داعي للتعب.

عدت إلى السجن في ذلك اليوم أول المساء، مبكرا عن كل مرة، ولحقت بصلاة العشاء، كأول صلاة جماعة لي في السجن، ففي الجمعة السابقة طرقت على باب العزل وقلت للحارس بسذاجة: افتح عشان ألحق صلاة الجمعة، وكان المسجد في نفس الطابق ونستخدم مراحيضه مرتين في اليوم لقضاء الحاجة بالإذن، لكن الحارس قال ببساطة: صلّ عندك جوه.. الجامع للسادة الظباط وإدارة السجن!

بعد صلاة العشاء بقليل، أسدلت ستارة المرقد وتهيأت للنوم، حتى لا يظهر للسجناء تعكر مزاجي، وبين النوم واليقظة تسلل إلى سمعي الصوت الذي سمعته بالأمس يردد نفس الآية من سورة البقرة: أُولئك الذين اشتروا..

والمصحح يرد بكلمات مختلفة في كل مرة:

"رَبِحَت".. مش "رَبَحَتْ"..

"تِّجَارَتُهُمْ".. مش تِّجَارَتَهِم..

"الحياةَ الدنيا".. مش الْحياةُ..

قضيت فترة فيما يشبه هذيان النائم، وجاهدت نفسي لأستفيق وتبين حقيقة ما يحدث.

وجدت الشيخ إبراهيم الفيومي جالسا على سريره وسط ثلاثة من الزملاء يتبادلون قراءة القرآن والشيخ يصحح لهم القراءة، وما اختلط علي في سكرة النوم كان نتيجة فراغات زمنية في القراءة، فالآية التي تقول: "أُولئكَ الذين اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ"، هي الآية رقم 16 في سورة البقرة، بينما الآية التي تقول: "أ"ولئك الذين اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدنيا بِالْآخرة، فتأتي برقم 86 في السورة، وأخيرا تأتي الآية رقم 175 التي تكرر نفس البداية "أُولئك الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدى"، وتضيف "والعذابَ بالمغفرة، فَمَا أَصْبَرَهُمْ على النار".

القرآن الكريم هو الكتاب الأكثر قراءة في السجن، سواء كانت القراءة فردية أو جماعية، ويزداد الإقبال على القراءة في رمضان والمناسبات الدينية

أما التصحيحات المبالغ فيها في عقل النائم، فكانت لها قصة طريفة صرنا نتندر عليها بعد أن حكيت ما سمعته في النوم، لأن تكرار القراءة الخاطئة صدر من مدرس اللغة العربية الطيب محمد مصطفي الذي توفي بعد الإفراج عنه بأسابيع قليلة، وله في رقبتي دين عظيم. فعندما أصابني فيروس كورونا في السجن واعتطفت في سريري قبل عزلي في عنبر الحجر، لم يخش العدوى ولم يبال بمخاطر المرض، وصمم أن يجلس بجواري معظم الوقت يضع الكمادات الباردة على رأسي وجسدي لتخفيف حرارتي الملتهبة، ويعطيني الأدوية ويسقيني السوائل الدافئة باستمرار، ويرعاني بكل اهتمام، وأنا أحاول شكره وإعفاءه من هذه المهمة الخطيرة دون استجابة منه، رحمة الله عليه.

أحكي هذه الذكرى التي اختلط فيها النوم باليقظة لأقول إن القرآن الكريم هو الكتاب الأكثر قراءة في السجن، سواء كانت القراءة فردية أو جماعية، ويزداد الإقبال على القراءة في رمضان والمناسبات الدينية.

لكن ماذا عن الكتب الأخرى التي يقرأها السجناء؟

على طريقة مقياس "البيست سيلر" في سوق النشر، فإن القرآن يظل وحده بلا منافس، وفي الكتب العادية احتلت الصدارة رواية "في قلبي أنثى عبرية" للكاتبة التونسية "خولة حمدي"، وهي رواية ميلودرامية تضمن حكايات ومواقف عن الدين، والصداقة، والحب، والخيانة، والجهاد من أجل الوطن، والحرب، والمعتقلات وكل شيء تقريبا، ما يجعلها رواية شيقة للمتلهفين على المرأة والعواطف الغرامية في بيئة أحادية الجنس كبيئة السجن.

ريما، بطلة الرواية، يهودية بحكم ديانة أمها، لكن والدها غير يهودي، وهذا الازدواج العائلي في الديانة يورثها مشكلة في هويتها، حتى تلتقي في لبنان بشباب مسلم من فصائل المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتساعدهم في علاج إصابة أحدهم، وتدور بينهم النقاشات التي تقنع ريما باعتناق الإسلام فتبدأ مشاكلها مع أمها. وفي خط درامي آخر تحب أحد الشباب المسلمين، وتم اعتقاله مع مجموعة من المقاومين في معتقل الخيام، وهناك يفهم خطأ أن حبيبته على علاقة بأعز أصدقائه، وفي النهاية تتضح الأمور وتتزوج ريما من حبيبها في سعادة، مما يعطي القارئ شعورا بالارتياح وانتصار الأطراف التي ينحاز إليها منذ البداية.

وكنت أتابع بإعجاب اهتمام الزملاء بالرواية والنقاش فيها، ونسخ بعض العبارات والمقتطفات منها، وإرسال المقتطفات في رسائل الأصدقاء والأهل مع حكايات عن الرواية، كأنها مسلسل عاطفي. وكان المقتطف الأشهر الذي نسخه الزملاء في رسائلهم عبارة عن رسالة كتبتها ريما لحبيبها أحمد، تشكو فيها من التزمّت والاضطهاد الذي فرضته عليها أمها في البيت حتى ترتد عن الإسلام وتعود لليهودية. والمقتطف لقي استحسان وإعجاب الزملاء، لأنه يتضمن تعبيرا خفيا عن حالة كل واحد فيهم، سواء أدرك ذلك أو شعر به من خلال اللاوعي، وهذا نص الرسالة كما نقلته حرفيا من الرواية:

"إني أختنق..
أموت في اليوم مائة مرة..
أريد أن أتنفس.. أريد أن أخرج من السجن الذي أنا فيه..
لم أعد أستطيع التحمل..
بقيت خطوة واحدة..
على أية حال، لن تكون الحال أسوأ مما هي عليه الآن".

يلزم هنا توضيح أن الرواية لم تكن من مقتنيات مكتبة السجن، بل تم تهريبها من الخارج أثناء الزيارات، فمن الطبيعي أن تكون معظم الكتب المتداولة داخل السجن خاضعة للجنة اختيار الكتب، التي تهيمن على مشتروات مكتبة السجن، ومعظمها كتب معلوماتية واجتماعية وروايات شائعة وأشعار قديمة وكتب دينية في العبادات والسِير، لذلك لم يكن هناك ما يستحق الذكر أو يلفت نظري في الكتب المتداولة التي يستعيرها السجناء من مكتبة السجن ويتبادلون قراءتها، أو يتبرع أحدهم بقراءتها وتلخيصها ثم يحكيها للآخرين. ثم هناك كتيبات الأدعية والأوراد والأذكار التي يتم تمريرها بطرق أهلية بعيدا عن إدارة السجن، لوجود حساسية من أي كتب دينية تدخل السجن بغير الطريق الرسمي، حتى لو كانت مجرد أدعية وأذكار.

وعبر المورد الأهلي أيضا تدخل الكتب الدراسية للطلبة بعد الخضوع للإجراءات الإدارية وإثباتات من المدارس والجامعات، ومن خلال هذا الطريق يتم إدخال بعض الكتب الخاصة وكأنها من ضمن المقرر الدراسي. ومن بين هذه الكتب وجدت ذات يوم كتابا باللغة الإنجليزية على سرير السجين التروتسكي الوسيم "سيف الفخراني"، وقد أدهشني وجود هذا الكتاب في السجن، بسبب لغته الأجنبية، والأهم بسبب موضوعه، فالكتاب عبارة عن سيرة ذاتية للأديبة الانجليزية الشهيرة "فرجيينا وولف"، من تأليف ناقد ومؤرخ فني يدعى "كوينتين بيل"، وهو ابن شقيقة فرجينيا، مما أتاح له الحصول على معلومات وصور ووثائق نادرة ومدققة عن حياة فرجينيا من الميلاد إلى الانتحار غرقا، مرورا بالمكونات العائلية والنفسية والعاطفية التي صنعت مأساة الكاتبة الأشهر في القرن العشرين.

سألت سيف: الكتاب ده هنا ازاي؟

قال: سربته مع كتب الكلية.

* اشمعنى ده يعني؟ وليه النسخة الإنجليزية.. ما هو مترجم عربي؟

- نصحني به أستاذي في كورس الإنجليزي لتقوية لغتي.

* قلت له ضاحكا: ده أستاذ تعبان.. لغة الكتاب مش هتنفعك في السفر، انت محتاج دروس محادثة بالعامية هات الكتاب أقراه أنا، وهذاكر لك محادثة تنفعك لما تطفش من البلد دي.

أعترف أن مزاحي كان ثقيلا وتعبيراتي سوقية وفجة، وقد بدا ذلك واضحا على وجه سيف، الذي اعتذر عن إعارتي الكتاب، وقال بأدب عاتب وحزين: أنا بدأت فيه ومش هينفع أقطع، أوعدك أجيبه لحد عندك بعد الانتهاء منه.

غيّرت الموضوع لإحساسي بأنني تحدثت مع سيف بما يجرحه دون قصد مني..

مر اليوم، وذهبت إلى النوم وأنا أفكر في عدم تكرار التصرف بهذا التعالي غير المناسب مع زملاء بيني وبينهم الكثير من الفوارق في العمر والخبرة، وربما في الثقافة، لكن بعضهم (مثل سيف) أثبت أنه أكثر لياقة مني في المواقف الحرجة.

نمت بعد صلاة الفجر، ولما استيقظت مع نداء الدعوة للتريض في فترة الضحى، كانت فرجينيا وولف في حضني، وفوق صورتها ورقة صغيرة تحتوي على رسالة رقيقة:

أنا آسف يا عم ماهر إني فضّلت نفسي عليك، أرجو أن تقبل اعتذاري وتقبل الكتاب كهدية لا تُرد، مفيش حاجة أملكها تغلى عليك.

ابتسمت في امتنان، وأنا أقول لنفسي: درس جديد أتعلم منه الجديد من جيل جديد، ما أجمل السجن الذي أتاح لي معرفة الكثير من المخلوقات الراقية الذين لم أكن لأقابلهم لو لم أدخل هذا المكان الحقير..

وفي المقال المقبل نواصل حكايات السجن..

maher21arabi@gmail.com
شعر مع إيقاف التنفيذ.. يوميات معتقل (15)