تولي مراكز البحث الاجتماعية الحديثة أهمية
كبيرة لدراسة أثر
التحولات الاقتصادية والثقافية العولمية على الروابط الاجتماعية
والأسرة والقيم والانتماء الوطني والمسألة اللغوية، وتتباين نتائجها حسب الجهة
الموجهة للبحث، وحقل الدراسة وخصائصها، وكذا المتغيرات التي تحرص الدراسة على
استحضارها (متغير السن، والجنس، والمجال الترابي، والمستوى المعيشي، والمستوى
التعليمي، وغيره).
وتحرص هذه المراكز على القيام بموجات
متتالية لهذه
الدراسات في حقل دراسة واحد، وذلك لتتبع تحولات الظاهرة، وملاحظة بعض
خصائصها، ومقارنة نتائجها المركزية بحسب موجة الدراسة وتقدم تفسيرا لذلك.
وتشكل قضايا القيم، والهوية، والأسرة
والروابط الاجتماعية، والثقة في المؤسسات أهم موضوعات هذه الأبحاث التي تسعى إلى
تطوير فهمها للمجتمعات وتحقيق قدر من التراكم في تفسير التحولات التي يعرفها وأهم
العناصر المتحكمة فيها.
ولئن طبيعة هذه القضايا إشكالية وجدلية في
مجتمعات تتباين التيارات الفكرية والسياسية فيها، فإن الطلب على المراكز البحثية
ذات الطبيعة المحايدة، أو على الأقل، ذات الطابع المؤسسي الاستراتيجي، تكون أكثر
من غيرها من المراكز ذات الميولات الإيديولوجية أو التحيزات السياسية، ويزداد
الطلب على هذا النوع من المراكز التي تحرص على تحقيق التراكم، وتجري الدراسات في
موجات زمنية متباعدة نسبيا، وتحرص على تسجيل المشتركات والمفارقات بين نتائج
الدراسات الأولى والتالية.
ولئن المجتمع
المغربي، مثله في ذلك مثل
المجتمع التونسي، يعتبر من أكثر المجتمعات العربية خضوعا للتحديث، بحكم تلاقحه
الكثيف مع التجربة الغربية بكل مستوياتها، فإننا في هذا الصدد، نعرض لنتائج تجربة
بحثية جديدة (نسخة ثالثة)، قام بها المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، بعد أن
أنجز نسختين من البحث الوطني حول الرابط الاجتماعي همت الأولى سنة 2011، وهمت
الثانية سنة 2016، فأفادت هذه الدراسة الجديدة من البيانات والدراسات التحليلية التي توفرت في النسختين السابقتين، ومكنت من تحقيق قدر من التراكم المعرفي في فهم المجتمع المغربي، بما يمكن أن
يرشد القرار الاستراتيجي، ويبصره بالواقع الاجتماعي التي يديره ويتحرك فيه.
وقد هم هذا البحث دراسة حالة الأسرة
والتضامن الاجتماعي، ومقومات وشروط العيش المشترك والرابط المدني اتجاه المؤسسات
والسلطات العمومية، وأعاد التركيز على سؤال الهوية وتمثلات المجتمع المغربي حول
عناصرها واهم مقوماتها، هذا فضلا عن المسألة اللغوية وتمثلات المواطن المغربي
بإزاء السياسة المنتهجة فيها، ودور وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز الروابط
الاجتماعية، ورأي الغاربة بإزاء المستقبل.
منهجيا، نسجل نوعية العينة التي تم الاشتغال
عليها، وقوتها العلمية (6000 مواطن ما فوق 18 سنة) مع الأخذ بعين الاعتبار مختلف
المتغيرات السنية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والمجالية، ونسجل أيضا
استحضار الدراسة للنفس المقارن باستحضار نتائج الدراستين السابقتين، سواء على
مستوى البيانات أو على مستوى التحليل، ففي كل منحنى بياني، تحضر الأعمدة الثلاثة
التي ترمز للنسخ الثلاثة من الدراسات التي أنجزها المعهد (نسخة 2011، ونسخة 2016،
ونسخة 2023).
العيش المشترك.. لا اعتبار للعلمانية ضمن
مقومات العيش المشترك
تؤشر نتائج هذا البحث على اطراد خلاصة مهمة
تتعلق بشروط ومقومات العيش المشترك. فعلى مدى أكثر من عقد من الزمن، أي من 2011
إلى 2023، لم تتغير هذه القواعد، إذ ظلت القضايا المادية والمعيشية على رأس جدول
شروط العيش المشترك، فشكل تحسين القدرة الشرائية، والعمل للجميع، وحب الوطن،
والتضامن، والأمن، والاستقرار، ما يزيد على أكثر من 75 في المائة، بينما لم تشكل
العلمانية سوى 0.01 في المائة، وذلك على مدار النسخ الثلاثة للبحث الوطني.
ظلت ثوابت هذه الهوية بدون تغيير، إذ تحدد هوية المغربي، بحسب نتائج البحث النسخ الثلاث بالتمسك بالإسلام وحب الوطن والتعلق بالوحدة الترابية
لقد اختار البحث الوطني أن يفسر هذه
النتيجة، أي ارتفاع الطلب على المطالب المادية بارتفاع المعيشة التي سجل أرقاما
كبيرة ما بين 2016 و2023، وعلل ذلك بتهاوي الطبقات الوسطى، والتحاقهم بالطبقات
الفقيرة في المطالبة بتحسن الوضع الاجتماعي.
أما عن عوائق العيش المشترك، فسجل البحث
الوطني تصدر الفقر والظلم الاجتماعي والرشوة أهم العقبات الرئيسة التي تحول دون
العيش المشترك، متفوقة بذلك على العقبات الثقافية التقليدية (الفردية واللامبالاة)
وسجل تراجع عائق التطرف الديني، وذلك على بشكل مطرد ما بين 2011 و2023.
لم يقدم البحث الوطني تفسيرا لذلك، ربما
اعتقادا منه أن هذه النتيجة تعزز النتيجة السابقة المتعلقة بشروط العيش المشترك.
لكن في الواقع، ثمة إشكال كبير يطرحه تراجع عائق التطرف الديني، إذ يفترض حسب معظم
التحليلات السوسيولوجية أن التطرف الديني يتنامى مع احتداد الأزمة الاجتماعية،
بينما سجلت نتائج البحث الوطني المفارقة بتراجع هذه العقبة، مما يعني أحد أمرين:
إما أن المواطن المغربي، بدأ يشعر بسبب من كفاءة السياسية الأمنية بقدر كبير من
الأمن من هذه الجهة، أو لأن التطرف الديني كثقافة تراجع بشكل كبير في المجتمع
المغربي لأسباب تتعلق بالاستراتيجيات الدولية والإقليمية في التعاطي مع مناطق
التوتر والنزاع.
الإسلام.. المقوم الأول للهوية المغربية
من الملاحظ في هذا البحث، أن المغربي أعاد
في النسخ الثلاث تعريف هويته بكونه مسلما بالدرجة الأولى، وظلت ثوابت هذه
الهوية بدون تغيير، إذ تحدد هوية المغربي، بحسب نتائج البحث النسخ الثلاث بالتمسك
بالإسلام وحب الوطن والتعلق بالوحدة الترابية، والمثير في الانتباه في هذه النتائج
هو ترتيب المغربي للمقومات التي تتحدد به هويته، فهو يعرف نفسه أولا بكونه مسلما،
ثم مغربيا، ثم عربيا، ثم مغاربيا، ثم إفريقيا، ليأتي بعد ذلك التعريف بأنه كوني.
والمفارقة، أن التعريف بالصفة الأمازيغية تأتي في الصف ما قبل الأخير، وتسجل تراجعا
ما بين 2016 و2023.
يخلص المعهد في تحليله لهذه النتائج بأن
المغربي، يحدد هويته بحسب ثلاث ركائز أساسية: الركيزة الوطنية وتضم ثلاث روابط
هوياتية هي الإسلام والهوية المغربية والهوية العربية، ثم الركيزة الإقليمية،
وتعبر عن التنوع الهوياتي الذي تنتظمه الهوية المغربية: العربي، الأمازيغي،
الصحراوي الحساني، ثم الركيزة الكونية، وتعبر عنها الهوية المغاربية والإفريقية
والكونية.
وفي الوقت الذي يبدو فيه تصدر الإسلام
وتعريف المغربي نفسه بكونه مغربيا وعربيا أمرا مفسرا، تطرح أسئلة كثيرة عن سبب سبق
الانتماء العربي للانتماء المغاربي، وسبق الانتماء الإفريقي والكوني للانتماءات
التي تعتبر من صميم مقومات الهوية المغربية، أي المكون الصحراوي والأمازيغي. وإذا
كان تأخر الرابط المغاربي متفهما بالإكراهات التي تعرفها منطقة المغرب العربي،
وعدم تحقق الاندماج الإقليمي في هذه المنطقة، فإن بروز الهوية الإفريقية تبدو
مرتبطة أكثر بالسياسة الإفريقية التي انتهجها المغرب منذ سنة 2004، وحققت اختراقات
جد مهمة، أقنعت المواطن المغربي بأهمية الرافد الإفريقي في مكونات هويته. في حين يبقى تذيل تعريف الهوية بالاعتبار
الأمازيغي والصحراوي محتاجا لكثير من التحليل، أو ربما يطرح أسئلة عن طبيعة
العينة، وما إذا كان التنوع المجالي الذي اشترطته، أملى مثل هذه النتائج.
التعلق باللغة العربية لغة للتدريس
تقول نتائج البحث أن المغاربة يميلون نحو
ترسيخ فكرة الثنائية اللغوية (50.8 في المائة)، ولا تعطي كثير اعتبار للانخفاض
الذي حصل في هذا الاختيار بين 2016 و2023، إذ انخفض هذا الميل بأربعة نقاط تقريبا،
والواقع أن هذا الانخفاض كان ينبغي تفسيره، إذ ستعرف سنة 2021، انحرافا في السياسة
العمومية عن تنزيل مقتضيات القانون الإطار الذي رسخ فكرة التناوب اللغوي، وسيتم
اعتماد الفرنسة لغة للتدريس بدلا عن هذا المقتضى.
في الواقع لا نملك دراسات علمية تثبت
العلاقة بين نتائج هذه السياسة (تراجع التحكم في كل اللغات بما في ذلك اللغة
الفرنسية مع اعتماد تدريس المواد العلمية بها) لكن، تبقى هذه من أهم الفرضيات التي
يمكن الدفع بها في تفسير أسباب انخفاض توجه المغاربة نحو الثنائية اللغوية ما بين
2016 و2023.
وإذا كان الطابع الجدلي لهذه القضية يوفر
مساحات كبيرة للتباين والاختلاف في التفسير، فإن قضية تدريس اللغات، حسمت الموقف
تماما، إذ عبر ثلاثة أرباع من المغاربة بحسب نتائج هذا البحث الوطني، عن تفضيلهم
التدريس للعربية الفصحى كلغة أولى، في حين، وعلى الرغم من تضاعف معدل تفضيل
الدارجة ثلاث مرات منذ عام 2016، فإنها لم تتجاوز نسبة 11 في المائة سنة 2023.
أما بخصوص الانفتاح اللغوي، وعلى الرغم من
اعتماد المغرب الفرنسية كلغة أجنبية أولى، إلا أن نتائج البحث الوطني سجلت انخفاض
تفضيلها لدى المغاربة من 63.5 في المائة عام 2016 إلى 36.9 في المائة سنة 2023،
وذلك مقابل زيادة كبيرة في تفضيل اللغة الإنجليزية، وذلك من 12 في المائة سنة 2013
إلى 22 في المائة سنة 2023.
الثقة في المؤسسات التمثيلية (البرلمان) في
تراجع
تسجل نتائج البحث الوطني نفس المفارقة التي
سجلها عدد كبير من مراكز الأبحاث والمسوح المعنية بدراسة نسبة الثقة في المؤسسات،
إذ في الوقت التي ترتفع نسبة الثقة في المؤسسات السيادية تتراجع نسب الثقة في
المؤسسات التمثيلية والإعلامية، بل المثير في هذا البحث الوطني، أن الثقة في
المجتمع المدني نفسه، حصل فيها تراجع ما بين 2011 و2023.
وإذا كانت هذه الدراسة أشارت إلى تحسن مؤشر
الثقة في الأفراد، دون أن يغادر هذا المؤشر دائرة القلق، وذلك من 5 في المائة سنة
2011 إلى 20 في المائة سنة 2023، فإن مخاوف المواطنين من الأمن تراجعت من 23 في
المائة سنة 2016 إلى 15.3 في المائة سنة 2023.
وفي الوقت الذي يسجل البحث ارتفاع نسبة
استخدام الأنترنت في الحياة الاجتماعية والمهنية للمغاربة، فإنه سجل انحسارا كبيرا
لتأثير الإذاعة والتلفزيون (الإعلام الرسمي) في تعزيز الروابط الاجتماعية، في حين
تم التعبير بنسبة كبيرة (71 في المائة) من مخاطر العالم الافتراضي على التماسك
الاجتماعي، وعبر 85 في المائة من المغاربة أن شبكات التواصل الاجتماعي تساهم في
نشر الأخبار الزائفة.
حاول هذا البحث أن يقارب سؤال المستقبل في تمثلاث المغاربة من ثلاث زوايا أساسية: أولها رأي المغاربة في الأوضاع الاقتصادية، وثانيها رأيهم في دور الدبلوماسية المغربية في تحقيق الإشعاع الإقليمي والدولي، وثالثها قياس قلق المغاربة من تأثير الأزمات العالمية على مستقبل المغرب.
وبخصوص طبيعة الاستخدام لوسائل التواصل
ودواعي تصفح مواقعها، سجل البحث الوطني تصدر قضايا البقاء في اتصال مع العائلة
والأصحاب وملأ أوقات الملل على الملل ومعرفة الأحداث الثقافية صدارة الاهتمامات،
وبينما ظل الاستخدام السياسي لشبكات التواصل الاجتماعي ضعيفا نسبيا وحكرا على
الأقليات النشطة التي تحركها رغبة في تنظيم الأحداث السياسية، كما أظهر البحث في
مستوى التردد على الشبكة الافتراضية أن القضايا السياسية محدودة جدا مقارنة
بالدوافع الأخرى، الاجتماعية والمهنية والثقافية والدينية.
الثقة في المستقل
حاول هذا البحث أن يقارب سؤال المستقبل في
تمثلاث المغاربة من ثلاث زوايا أساسية: أولها رأي المغاربة في الأوضاع الاقتصادية،
وثانيها رأيهم في دور الدبلوماسية المغربية في تحقيق الإشعاع الإقليمي والدولي،
وثالثها قياس قلق المغاربة من تأثير الأزمات العالمية على مستقبل المغرب.
في المستوى الأول، سجل البحث الوطني أن
الأغلبية العظمى من المغاربة عبرت عن ثقتها في الآفاق الاقتصادية للمملكة على
الأمد المتوسط (خمس سنوات)، فقد عبر 37 في المائة عن تفاؤلهم، و18 في المائة عن
تشاؤمهم، بينما عبر 45 في المائة عن حيادهم. لكن هذا الاستنتاج غير مسلم، بحكم أن
منطقة الحياد لا يمكن بحال أن تحسب على التفاؤل، إذ يمكن أن تفسر أيضا بعدم وضوح
الرؤية أو حصول توتر في المؤشرات، أو بتردد في النتائج، مما يحول دون صدور موقف
واضح بهذا الخصوص، وهذا بخلاف الموقف من دور المغرب في تحقيق الإشعاع الإقليمي
الدولي (المستوى الثاني المتعلق بتقييم السياسة الخارجية)، فقد كان التعبير واضحا
لجهة التفاؤل وذلك ب نسبة 87 في المائة، بحكم أن تصنيف الاستمزاج، يقيس درجة الثقة
(واثق جدا، واثق، واثق نسبيا). لكن المفارقة، أنه في الوقت الذي ترتفع نسبة الثقة
في مخرجات السياسة الخارجية المغربية، ولا تظهر صورة واضحة عن الوضعية الاقتصادية،
يسود ضباب كثيف يعتم الرؤية على المغاربة بخصوص تأثيرات الأزمات العالمية على
مستقبل بلادهم، إذ عبر 84 في المائة عن قلق شديد بخصوص تأثير الأزمات العالمية على
مستقبلهم.
وإذا كان تفسير هذه المفارقة يتم بالفرز بين
معدل الثقة في السياسة الخارجية المغربية (المؤسسات الوطنية) وقدرتها على مواجهة
التحديات، ومعدل الثقة في المستوى الدولي، فإن السبب الحقيقي لتنامي هذا القلق، هو
الوضع الاجتماعي المتردي الذي كانت الأزمات العالمية من بين العوامل التي عقدته،
ونقصد على وجه الخصوص جائحة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا.
خاتمة
يقدم هذا البحث نتائج مهمة يمكن أن تسعف
صانع القرار السياسي في فهم احتياجات المجتمع المغربي، والتحديات التي تؤثر على
اجتماعه وعيشه المشترك، لكنه في المقابل، يقدم مفتاحا أساسيا لفهم الكيفيات التي
يمكن من خلالها تعبئة هذا المجتمع ليكون في خدمة التنمية أولا، ثم ليكون ثانيا في
صف المواجهة للتحديات الداخلية والخارجية، فقد أشار البحث بكل وضوح إلى أهم
المقومات التي ينبغي الاستثمار فيها (الإسلام واللغة العربية والتضامن الاجتماعي)
لتقوية الرابط الاجتماعي.
لكن، إلى جانب ذلك، هناك تحدي لا بد أن تفك
هذه الدراسة لغزه في النسخ القادمة، إذ لا يفهم بالمطلق كيف يشكل تحسين المستوى
المعيشي المقوم الأساسي للعيش المشترك، وكيف يشكل الفقر والظلم الاجتماعي العائق
الرئيسي له، وفي الآن ذاته، تكون رؤية المغاربة متفائلة للوضعية الاقتصادية للمغرب
في المدى المتوسط (خمس سنوات قادمة)؟
فإذا كان البحث الوطني في إحدى تفسيراته
لمقومات العيش المشترك وعوائقه دفع بحجة تهاوي الطبقات الوسطى والتحاقها بمطلب
الفئات الفقيرة، فإن هذا التحليل يتعارض بالمطلق مع تعبير المغاربة بأغلبية كبيرة
عن التفاؤل من مستقبل الأوضاع الاقتصادية بالمغرب.