في المرحلة الأولى السابقة لجريمة العدوان على
لبنان،
وتوسيع رقعته باستهداف الضاحية الجنوبية لبيروت واغتيال أمين عام حزب الله، حسن
نصر الله، مع قادة كبار للحزب سياسيين وعسكريين، تركز المسعى الصهيوني في
غزة على
تحقيق هدفين: ارتكاب
جرائم إبادة جماعية تحت ذريعة سحق
المقاومة واستعادة الرهائن
وتحقيق الأمن لإسرائيل، وتوفير ضمانات سياسية عسكرية غربية أمريكية لهذه الجرائم، والهدف
الثاني أن تكون غزة نموذجا مرعبا لمن يجرؤ على مقاومة المحتل، وأن يكون هذا
النموذج في أجندة عربية رسمية مثالا للعجز ولتخويف الشعوب منه، بعدما استخدم نموذج
تحطيم الثورات العربية سلاحا بيد المستبد بشعار "لن نكون مثل سوريا ومصر
وليبيا واليمن والعراق والسودان".
يتم استخدام العجز العربي نفسه وتحويله لأداة ضاغطة
على قوى المقاومة والقضية الفلسطينية برمتها، من خلال اللجوء لنهج براغماتي قاتل
من قبل بعض النظام العربي ومحور المقاومة وعلى رأسها إيران، باعتماد أساليب ومواقف
ظلت طيلة عام من العدوان على غزة بمثابة العنوان الكبير لمجموعة من المفاهيم
والشعارات المتناقضة والبراقة المضللة، مكنت المؤسسة الصهيونية من مراكمة الجرائم
في فلسطين وغزة، واستنساخها اليوم في لبنان، وهو ما يؤكد على عقيدة صهيونية ثابتة بمحاولة
ضرب وكي وعي عربي فلسطيني، يضمن للاحتلال تفوقه وتمدده في المنطقة ومحاولة فرض
حالة استسلام عربي جماعي رسمي.
تتابع المرحلة الثانية من العدوان والجرائم على لبنان
مقاومة وشعبا، عنوانها فك العلاقة مع غزة وفلسطين، وتطبيق القرار 1701 الذي ينشغل
العالم العربي وإسرائيل والمجتمع الدولي بتطبيقه، بينما كل القرارات الدولية الصادرة
منذ عام 1948 من مجلس الأمن والأمم المتحدة ومجلس حقوق الانسان، ومحكمة العدل
الدولية التي تخص الصراع العربي الاسرائيلي والقضية الفلسطينية؛ لا تمتثل لها
المؤسسة الصهيونية.
خطاب صهيوني مكرر من الأكاذيب والخبث عما يجري في غزة
وعموم فلسطين، وتقسيم عالم العرب بين أشرار وأخيار، ومن خلال استقطاب بنيامين نتنياهو
من على منبر الأمم المتحدة كل عناصر الخداع والتضليل المكشوف من أجل التمويه على
أن المؤسسة الصهيونية حركة استعمارية استيطانية، واستمراريتها تقوم على إرهاب
الدولة المنظم، الذي يجب أن يحتل الرعب منها مكانة في صدور شعوب المنطقة العربية،
ولتجسيد فكرة الاندماج والتطبيع العربي مع إسرائيل، لدرء مخاطر ما تعتبره الأخيرة
مشتركا بينها وبين النظام الرسمي العربي، وهو ما يفسر المواقف العربية التي تستخدم
ذات اللغة الخائفة من "تصعيد" مستمر من طرف واحد يمارس العدوان في
فلسطين وسوريا واليمن ولبنان والعراق واليمن، وقد أنجز كامل الجريمة في غزة من
تطهير عرقي وإبادة جماعية، فمكنته هذه السياسة والمواقف من جرائمه في غزة، من
استئناف تهويد المقدسات وتوسيع الاستيطان، وضياع ما يُبكى عليه عربيا ودوليا من
السلام إلى حل "الدولتين"، بينما تشير البوصلة الصهيونية لرغبة قديمة
جديدة لتغيير خارطة الشرق الأوسط بحسب رؤية نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وساعر، ومن
خلفهم الولايات المتحدة لتكريس واقع إسرائيل المهيمنة بالإرهاب والقوة والتوسع.
تغيير لوحة الصراع والمواجهة، لدرجة استبعاد ربط قضية
فلسطين بعمقها العربي، وربط كل حركة مقاومة للمحتل والتصدي لجرائمه بـ"الإرهاب"
والأجندات الخارجية، سيبقى نقطة الضعف المميتة لسياسة عربية نهشها التمزق والهزائم
أمام عدو شعوبها، بامتثالها وخضوعها المستمر للإملاءات والشروط الأمريكية والإسرائيلية،
حيث توهم النظام العربي بأن مظلة المحتل له ستكون عامل صد أبدي أمام مخاطر انهياره،
لذلك كله، يتم تنفيذ سياسة الاغتيال والتصفية لقادة المقاومة في لبنان وتدمير غزة،
لإنجاز خارطة جديدة للمنطقة يكون فيها الحسم والقرار صهيونيا.
فلوحة الهزائم التي سادت في المنطقة العربية لعقودٍ
طويلة، لم تكن أطرها مشدودة بعناية فائقة، ومن وسط ركامها المتناثر، وزحمة الأماكن
والتواريخ المفجعة المرتبطة بوجود المستعمر الصهيوني على أرض فلسطين ودنيا العرب،
كان الخبر يأتي في كل دورة تاريخية محملا ببشائر مختلفة، وبطبيعة مغايرة لطبيعة
ورغبة المحتل والمستبد العربي، فالانتشاء المستمر بجريمة المحتل والافتتان بعضلاته
لن يكون عامل خلاص لرقبة العربي من مقصلة المحتل والطاغية.
ومن نذر نفسه لاستظهار أحلام شعبه وأمته، ستظل جذوره
تضرب في أرضه لتبقى فلسطين وقضيتها تتسيد مكانتها في القلب منه، يخفق بها كل نبض
حي يعيد للجسد الممدود حركته وحيويته. فمن يرى جرائم المحتل اليوم في غزة ولبنان
أنها ستمهد له طريق الخلاص من عبء ظلام دامس أحاطه به المحتل والطاغية العربي،
عليه أن يدرك أن ما يلمع من بريق المشاريع الاستعمارية المتحالفة مع المستعمر
الصهيوني والمستبد العربي تتعاكس مع أهداف وطموحات بعيدة عن الإنسان العربي
وأحلامه ومستقبله، ومن يرتكب جرائم الإبادة بحق أشقائك لا يهدف لتعبيد طريق حريتك
بل يحمي قصر عبوديتك.
بقي علينا كعرب وفلسطينيين واقفين في وجه جرائم
الإبادة الجماعية في غزة ولبنان، وواقفين في وجه الاستبداد والطغيان والاحتلال، أن
نأخذ العبر من خسارتنا وهزائمنا المتتالية أمام الطاغية العربي والمحتل الباغي،
فنبادر بدورنا لتعزيز مفهومنا للحرية والتحرر الوطني والمواطنة والكرامة الإنسانية،
والسمو فوق خلافاتنا الثانوية لتقديم مثال ملموس آخر، على قدرة هذه الأمة وشعوبها
ومقاومتها على النهوض والتقدم والتحرر.
وقد أصبح واضحا على ضوء مجريات العدوان الصهيوني على
غزة ولبنان، وعلى ضوء انجلاء المواقف العربية ووحدتها وصلابتها في الاستبداد
العربي وانكفائه وتقوقعه بالجبن والتآمر على قضية فلسطين والمقاومة، أن أقصى ما
يقدمه نظام الاستبداد العربي و"حلفاء المقاومة" وقت إبادتك، هو بعض من
تسويات بنفس الأساليب والأدوات والمناورات التي تمنع نهوضك، فتسمع كلاما سخيا عن
فلسطين، وكرما بالألفاظ المفرطة بالكرامة والسيادة والوطنية، وبالحقوق التي تبدأ
بحريتك وكرامتك، بينما تشاهد وتراقب عدوك وحليفه يُغدق عليه بملايين الذخائر وآلاف
الأطنان من القنابل وحاملات الطائرات وأجهزة التجسس ليقتلك، ويستنفر كل المنابر
الدولية لتشريع الجرائم، والنظام العربي يتحرج من استنكار الجريمة، وإعلامه ينتشي
بها.
والسؤال الأخير هنا: هل من تعبير آخر له أثر في
السياسة العربية، بعد كل هذه الجرائم غير التحقيق المطلق لقبول الظلم والضيم
والجرائم وهضم الأكاذيب والتزوير خوفا على "سلام" يفضي لاستقرار محتل
وطاغية؟
x.com/nizar_sahli