جانب
مهم من
مراجعات جماعة
الإخوان المسلمين (
مصر) هو إدراكها لتغييرات المشهد السياسي
المحلي والإقليمي والدولي عن ما كان عليه لحظة وقوع
الانقلاب العسكري في 2013، أو بعده
بسنوات. أجرت الجماعة تقديرا موضوعيا للمشهد السياسي سواء وضع الجماعة وحلفائها وأنصارها،
أو وضع النظام وحلفائه، أو وضع المجتمع المصري بطبقاته وفئاته وتكويناته، أو الوضع
الإقليمي وتحالفاته وتجاذباته، أو المشهد الدولي أيضا. وبناء على هذا التقدير وضعت
رؤية سياسية مرحلية للتعامل مع هذا المشهد، ومحاولة تحقيق تقدم سياسي على طريق
الهدف البعيد، الذي تتفق فيه مع غيرها من قوى التغيير والإصلاح، وهو استعادة
الديمقراطية الكاملة، ويشمل هذا التقدمَ السياسي المرحلي المنشود العديد من
التغييرات، وعلى رأسها قضية المعتقلين.
ضمن
هذا المشهد الجديد أصبح أعداء الأمس للنظام أصدقاء اليوم (تركيا وقطر في الخارج)
وأصدقاء الأمس معارضي اليوم (أحزاب الحركة المدنية، وأحزاب وتجمعات ونقابات أخرى،
وقطاعات شعبية في الداخل)، وضمن هذا المشهد دعم إقليمي ودولي متصاعد للنظام تقديرا
لدوره بعد طوفان الأقصى، بعد أن كان يواجه لحظات صعبة قبله؛ حتى أن صندوق النقد
تشدد في مفاوضاته معه، وتوقفت بعض الدول الداعمة عن تقديم المزيد من الدعم،
وتصاعدت حدة الانتقادات الدولية للملف الحقوقي المصري. وكل هذا تغير 180 درجة بعد
طوفان الأقصى، لكن في الوقت نفسه فإن الطوفان قدم حتى الآن بارقة أمل جديدة لقوى
التغيير، استلهاما لتجربة المقاومة الفلسطينية التي استطاعت مواجهة الحصار الممتد
لستة عشر عاما، وتمكنت من تطوير قدراتها، وحققت المفاجأة الكبرى باقتحام مستوطنات
وثكنات الاحتلال يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ولا تزال صامدة طيلة عام
كامل في مواجهة جيش الاحتلال المدعوم بالإمكانيات العسكرية الأمريكية والأوروبية
عموما.
لم يكن هذا الإعلان موجها للسيسي والطغمة الحاكمة القريبة منه، بل إنه موجه لأطراف عديدة داخل مؤسسات الدولة، وداخل الوطن
في
الوقت نفسه، فإن حالة الغضب الشعبي تتصاعد منذرة بانتفاضات شعبية محتملة نتيجة
تصاعد الغلاء، وتزايد البطالة، وانهيار قيمة الجنيه، وإلغاء الدعم عن معظم السلع
الأساسية، بينما لا يكفي الراتب حتى بعد تحسينه لمواجهة أعباء الحياة، وفقدان
الأمل في المستقبل، واضطرار الكثير من الشباب المصري للهجرة عبر الحدود البرية أو
البحرية، وموت الكثيرين منهم خلال رحلات الهروب تلك، غرقا في البحر أو موتا في
الصحراء، كما أن النظام لم يتوقف عن اعتقال المزيد من المصريين حتى اكتظت السجون
بنزلائها، واضطر لبناء المزيد منها، مع استمرار المعاملة غير الإنسانية فيها، التي
تسببت في وفاة الكثيرين، وإصابة الكثيرين بأمراض خطرة.
على
مدى سنوات خلت بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 كان الشعار المرفوع هو إسقاط
الانقلاب، كانت النوايا صادقة، وبُذلت جهود مقدرة على مستوى الحراك الميداني،
والضغط السياسي والإعلامي والحقوقي والقانوني، لكن النظام نجح في تصوير المعركة
باعتبارها معركة مع الإخوان، رغم أنها لم تكن كذلك، ونجح النظام في استقطاب العديد
من النخب والقوى العلمانية، وبعض السلفيين إلى
جانبه، لكن المشهد تغير منذ العام 2016 عقب تنازل النظام عن جزيرتي تيران وصنافير،
وتعزز ذلك بالموقف المتخاذل تجاه سد النهضة وحقوق مصر من المياه، وتعويم الجنيه
مرتين، وهو ما أغضب قسما كبيرا من أنصاره، وأحدث شرخا راسيا في معسكر 30 يونيو، فأصبح
شطر منه معارضا بدرجات متفاوتة، وتعرض الكثير من قادته وكوادره للاعتقال، كما اضطر
الكثيرون منهم للهرب خارج مصر.
في
مواجهة هذا المشهد المعقد، أنجز الإخوان قبيل وفاة القائم بأعمال المرشد العام إبراهيم
منير؛ رؤية سياسية للتعامل مع المرحلة الراهنة، بكل زواياها المحلية والإقليمية
والدولية، اعتمدت خطابا جديدا قائما على طمأنة الأطراف الخائفة من الإخوان في
الداخل أو الخارج. وضمن ذلك الخطاب ما أعلنه إبراهيم منير قبل 3 سنوات عبر وكالة
رويترز عن تجنب الإخوان للصراع على السلطة (والمقصود سلطة الحكم أي الرئاسة
تحديدا).
يوقن
الإخوان في أدبياتهم بدءا من رسائل المؤسس حسن البنا وغيرها من الكتابات؛ أن
الصراع أو التنافس على السلطة حق مشروع شرعا ودستورا، ولكنهم ارتأوا التنازل عن
هذا الحق في ظل هذه الظروف المضطربة التي تمر بها مصر، تسهيلا لمسار التغيير أو
الإصلاح السياسي الذي تعود فائدته على الجميع. لم يكن هذا الإعلان موجها للسيسي
والطغمة الحاكمة القريبة منه، بل إنه موجه لأطراف عديدة داخل مؤسسات الدولة، وداخل
الوطن (قوى سياسية- قوى اجتماعية- نخب– قطاعات شعبية.. إلخ).
التسوية السياسية هي إذن جديد الخطاب الإخواني، فقد غابت إلى حد كبير عن الخطاب المؤسسي للجماعة من قبل، وإن ظهرت بين الحين والآخر في خطابات للأستاذ إبراهيم منير ويوسف ندا، اللذين عبرا أكثر من مرة عن استعداد الجماعة للاستماع لأي حل ومناقشته بكل موضوعية. وقد حرص الجزار في حديثه الأخير على تأكيد أن الإخوان لن يتحركوا بشكل منفرد في هذا الإطار
تكرر
إعلان هذا القرار على لسان رئيس القسم السياسي للجماعة حلمي الجزار، في حديثه
مؤخرا لقناة بي بي سي، لكن البعض تعامل معه بفهم ضيق باعتباره مبادرة للتصالح مع
النظام، وهو ما نفاه الجزار في حديثه بشكل واضح، وإن أوضح أن الجماعة تفتح الباب
لتسوية سياسية تنهي الأزمة المصرية، وتعيد لكل ذي حق حقه بتعبير الجزار في الحوار
نفسه، كما أوضح بشكل حاسم أن تجنب التنافس على السلطة لا يعني تجنب العمل السياسي
بمفهومه الواسع، والذي مارسه الإخوان عبر تاريخهم الطويل، والذي يشمل طيفا واسعا
من الأنشطة والممارسات التي لا تعد تنافسا على السلطة.
التسوية
السياسية هي إذن جديد الخطاب الإخواني، فقد غابت إلى حد كبير عن الخطاب المؤسسي
للجماعة من قبل، وإن ظهرت بين الحين والآخر في خطابات للأستاذ إبراهيم منير ويوسف
ندا، اللذين عبرا أكثر من مرة عن استعداد الجماعة للاستماع لأي حل ومناقشته بكل
موضوعية. وقد حرص الجزار في حديثه الأخير على تأكيد أن الإخوان لن يتحركوا بشكل
منفرد في هذا الإطار، بل ضمن شراكة وطنية.
لم
يطرح الإخوان في رؤيتهم الجديدة التسوية السياسية فقط، بل إنهم يطرحون مسارا ذا
ساقين؛ إحداهما مواصلة كل الضغوط الممكنة ضد النظام، والثانية فتح الباب لتسوية
سياسية، ليلقوا بالكرة في ملعب النظام وداعميه في الداخل والخارج، وليقطعوا الطريق
على من يتهمونهم بالتحجر، وبتجاهل الحلول السياسية. لم يضف إذن حلمي الجزار جديدا
لما قاله منير وندا، وإن أعاد التأكيد عليه بعد وفاة الأول تأكيدا لاستقرار هذا
المسار لدى الجماعة.
كعادة
أي مسار جديد فقد رحب البعض من أنصار الجماعة، واعترض البعض، كما رحبت به بعض
القوى والرموز السياسية الليبرالية أو اليسارية وتشكك البعض. تركزت حجة الرافضين
لهذا المسار من داخل الصف الإسلامي على وضع الجماعة الحالي، وضعفها، ورغم أن هذا
صحيح إلا أن الجماعة رغم ما تمر به لا تزال هي القوة الأكبر في المشهد السياسي، والأكثر
صمودا، وهو ما يدركه النظام جيدا، وتأكيدا لذلك فقد شن النظام وحلفاؤه الإقليميين
حملة جديدة منظمة ضد الإخوان، سواء عبر المزيد من الاعتقالات، أو عبر حملات
إعلامية مكثفة لقنوات النظام وقنوات الدول الداعمة له.
الفجوة الواسعة بين الإخوان وبعض القوى السياسية تضيق مع الخطاب الجديد شيئا فشيئا، وأزمة الثقة لدى قطاعات شعبية التي صنعها النظام عبر إعلامه، ودعايته السوداء، تتحسن تدريجيا أيضا مع هذا الخطاب، خاصة مع اكتشاف الشعب لأكاذيب وأوهام النظام، وممارساته
يقولون
أيضا إن النظام لو كان راغبا في الحل فإن أمامه قادة الجماعة الكبار المرشد العام
ونوابه في السجون، ومرة أخرى فإن الذي يطرح هذه الحجة لا يزال محشورا في فهم
المسار الجديد باعتباره فقط مبادرة للصلح مع النظام، بينما هو مسار متشعب
الاتجاهات، ويحتاج لمن يمتلكون حرية الحركة والحديث لعرضه. وإذا كان النظام رافضا
له فإن هناك من أبدوا رضاهم عنه، لكن الأمر لا يزال في بداياته، وليس متوقعا لهكذا
مسار أن ينتج ثمارا على الفور.
حسب
بعض التقديرات فإن الفجوة الواسعة بين الإخوان وبعض القوى السياسية تضيق مع الخطاب
الجديد شيئا فشيئا، وأزمة الثقة لدى قطاعات شعبية التي صنعها النظام عبر إعلامه،
ودعايته السوداء، تتحسن تدريجيا أيضا مع هذا الخطاب، خاصة مع اكتشاف الشعب لأكاذيب
وأوهام النظام، وممارساته، ومع ظهور براءة الإخوان مما ألصقته بهم الدعاية السوداء
من قبل؛ مثل بيع قناة السويس أو الأهرامات، أو برج القاهرة، أو التسبب في أزمة سد
النهضة، أو التنازل عن جزء من سيناء، ودعم الجماعات الإرهابية فيها.. إلخ.
المراجعات
التي أعلنت عنها الجماعة قبل عام لا تزال مستمرة وفق أسلوب علمي، ومن خلال كوكبة
من الأكاديميين والخبراء، ولم تكتمل حتى الآن، وقد أعلن الجزار في حديثه لمحطة بي
بي سي أن الإخوان سينظمون فعالية كبرى بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس الجماعة؛ يعلنون
فيها نتائج مراجعاتهم، ولن يخجلوا من ذكر أي أخطاء، بل سيسعون لمعالجتها، يبقى أن
تراجع الجماعات والأحزاب الأخرى ممارساتها وأخطائها ليفتح الجميع صفحة جديدة من
أجل الوطن.
x.com/kotbelaraby