بين القصف والإنزال العسكري الإسرائيلي في
مصياف بمحافظة حماة بسوريا، وعملية تفجيرات البيجر في جنوب
لبنان، فاصل زمني لا
يتعدى الأسبوعين. في العمليتين نحن أمام جهد أمني استخباراتي
إسرائيلي عالي المستوى يشبه عالم الحرب والاستخبارات في سينما هوليوود العالمية:
في سوريا نفذت إسرائيل خمسة عشر هجوما جويا
على المكان المستهدف، عبر مروحيات وصلت المنطقة بعد دخولها الأجواء السورية على
ارتفاعات منخفضة مترافقة مع عمليات تشويش للرادارات حالت دون اكتشاف الدفاعات
السورية لها.
أعقبت الهجمات عملية إنزال جوي هي الأولى من
نوعها لإسرائيل في سوريا من أجل التأكد من تدمير موقع حير عباس، وهو مصنع مخصص
لتصنيع وتطوير الصواريخ الدقيقة متوسطة المدى، أنشأه "الحرس الثوري
الإيراني" عام 2018.
واستهدفت إسرائيل، وفقا للمرصد السوري لحقوق
الإنسان، مقر المخابرات العسكرية ونقاطا أخرى مخصصة لحماية المصنع، إضافة إلى
مركبات وآليات بالقرب منه، بما في ذلك الدراجات النارية، كما قطعت الطائرات
المسيّرة الطريق المؤدي إلي الموقع بالكامل.
في لبنان تعرض "حزب الله" لأكبر
اختراق أمني منذ نشوئه في ثمانينيات القرن الماضي، فخلال دقيقة واحدة انفجرت أجهزة
البيجر التي يستخدمها عناصر حزب الله، المدنيين والعسكريين والأمنيين، وأدت إلى
مقل 12 شخصا، وإصابة أكثر من 3 آلاف آخرين.
في الحالتين السورية واللبنانية نحن أمام
مستوى عال من العمليات العسكرية والأمنية ـ الاستخباراتية، فنزول نحو مئة جندي
إسرائيلي إلى قلب منطقة ذات أهمية عسكرية ومحصنة، ثم تدمير الموقع بالكامل، دليل
على وجود هوة هائلة بين الطرفين المتصارعين لا يمكن جسرها، ودليل على أن إسرائيل
قادرة أن تفعل وتضرب من تريد في سوريا، وبكافة أنواع الطرق والأساليب.
وفي لبنان، تبدو العملية أكثر صعوبة من
الناحية العملياتية، وإن كانت أقل خطورة على إسرائيل، حيث التنفيذ جرى عن بعد،
بخلاف
هجوم مصياف السوري.
ليست عملية تفجير البيجرات في لبنان مجرد
خرق سبراني فحسب، فالعملية تطلبت جهدا استخباراتيا احتاج سنوات لزرع أجهزة تفجير
داخل البيجرات، فوفقا لصحيفة التلغراف نقلا عن أحد ضباط الموساد السابقين، لاحت
الفرصة عندما طلب "حزب الله" شراء أجهزة البيجر، لأنهم في الحزب أرادوا تجنب
استخدام الهواتف المحمولة لتعرضها للاختراق، معتقدا أن أجهزة النداء أكثر أمانا.
في الحالتين السورية واللبنانية، تعرض
"محور المقاومة" إلى ضربة مادية ملموسة، وإلى ضربة معنوية كبيرة لأطراف
تدعي أنها تمتلك معايير عسكرية وأمنية عالية.
أسئلة مشروعة
ثمة سؤالان رئيسيان يُطرحان بقوة، الأول
مباشر والثاني غير مباشر: في السؤال الأول، لماذا لم تقدم إسرائيل على شن هجوم
عسكري جوي وبري على "حزب الله"، مستغلة حالة الارتباك التي حدثت في صفوف
الحزب بعد تفجيرات البيجر، وتدني مستوى التواصل الأمني بين عناصر الحزب؟
ليست عملية تفجير البيجرات في لبنان مجرد خرق سبراني فحسب، فالعملية تطلبت جهدا استخباراتيا احتاج سنوات لزرع أجهزة تفجير داخل البيجرات، فوفقا لصحيفة التلغراف نقلا عن أحد ضباط الموساد السابقين، لاحت الفرصة عندما طلب "حزب الله" شراء أجهزة البيجر، لأن الحزب أرادوا تجنب استخدام الهواتف المحمولة لتعرضها للاختراق، معتقد أن أجهزة النداء أكثر أمانا.
الإجابة هي أن إسرائيل لا تريد فتح جبهة
شمالية كما في غزة لأسباب عسكرية وسياسية واقتصادية، فتوسيع الحرب قد يؤدي إلى خلط
الأوراق في المنطقة، وهو ما لا تريده إسرائيل التي تستغل حالة الصمت العربي حيال
ما يجري في غزة، فضلا عن رفض الولايات المتحدة فتح جبهة شمالية رغبة منها في
التركيز على هدف استراتيجي كبير هو غزة، على الأقل في هذه المرحلة.
السؤال الثاني من شقين، الأول يتمثل في
الجدوى الاستراتيجية التي تحققها إيران من تأسيس قواعد عسكرية داخل سوريا؟ وهي
قواعد ومنشآت تتعرض دائما للتدمير من قبل إسرائيل.
والثاني يتمثل في جدوى قواعد الاشتباك
القائمة منذ السابع من أكتوبر بين "حزب الله" وإسرائيل؟
في الشق الأول من السؤال، لا جواب عمليا ومقنعا حول استمرار إيران في إنشاء قواعد عسكرية سرعان ما تتعرض للتدمير، لكن إذا
كنا لا نملك جوابا شافيا، فإننا نستطيع التأكيد أن إيران لا تمتلك، بخلاف إسرائيل،
القدرة على تغيير استراتيجياتها العسكرية ومحاولة إيجاد طرق عسكرية وأمنية بديلة،
وأنها ستبقى وفقا لذلك، في حالة السلب العسكري والأمني، وأعتقد أن هذا كاف بالنسبة
لها، فما يهمها هو البروباغندا السياسية التي تظهرها بمظهر المدافع الوحيد في
المنطقة عن القضية الفلسطينية.
في الشق الثاني من السؤال، لم ينجح
"حزب الله" ـ وفق قواعد الاشتباك القائمة ـ في أن يشكل تهديدا عسكريا
لإسرائيل، يمكن استغلاله سياسيا، فخلال الأشهر الأحد عشرة السابقة، دمرت إسرائيل
قرى في الجنوب اللبناني أكثر مما دمرته عام 2006 خلال حرب تموز التي دامت 33 يوما.
واقع عسكري تستطيع إسرائيل التعايش معه ليس
لأشهر، بل لسنوات، دون أن يجعلها تدفع ثمنا باهظا، ودون دفع هذا الثمن ستبقى
إسرائيل ماضية في سياساتها تجاه الفلسطينيين.
ما يريد هذا المقال التنويه له، هو أن
العقود الماضية أثبتت فشل صيغة "محور المقاومة" من حيث أن آليات
الصراع القائمة غير قادرة على تغيير المعادلة العسكرية، ولهذا لا بد من اجتراح
حلول أخرى، وفي حالة إسرائيل لا يوجد سوى حلين:
الأول، نشوء جبهة عسكرية موحدة تضم الدول
العربية الرئيسية إلى جانب إيران، لكن لما كان تحقيق هذا الأمر أصبح مستحيلا بعد
حرب أكتوبر عام 1973، فلم يبق سوى الحل الثاني، المتمثل بتحويل الصراع من مجاله
العسكري غير المتكافئ إلى المجال السياسي والاقتصادي، أولا عبر قيام مشروع وطني
فلسطيني موحد على اعتماد العمل السلمي الشعبي والرسمي، مع ما يتطلبه هذا من
تنازلات من قبل السلطة الفلسطينية وحركات المقاومة في غزة على السواء.
وثانيا، عبر استغلال الدول العربية لطاقاتها
الاقتصادية والسياسية في إعادة القضية الفلسطينية إلى أولوية العمل العربي، كما
كان الأمر أوائل سبعينيات القرن الماضي، ودون ذلك لن تبقى قواعد الاشتباك الحالية
مستمرة فحسب، بل ستؤدي إلى مزيد من الانقسام العربي ـ العربي من جهة، والعربي ـ
الإيراني من جهة أخرى.