تزاحمت خلال الأسابيع القليلة الماضية
التصريحات السياسية من
تركيا والنظام السوري وروسيا حيال
التقارب التركي ـ السوري.
وإذ حملت هذه التصريحات في طياتها معاني عامة
وفضفاضة، كما في السابق، إلا أن تحليل مضامينها إضافة إلى التطورات التي حصلت على
الأرض قد تساعدنا في فهم مسار التقارب التركي مع النظام السوري.
على صعيد التصريحات السياسية، كان لافتا
الشروط التي وضعتها أنقرة لتنفيذ مطلب دمشق في انسحاب القوات العسكرية التركية من
الأراضي السورية، وهذه الشروط هي:
ـ تطهير
سوريا من العناصر الإرهابية؛ حفاظا
على سلامة أراضيها ووحدتها.
ـ تحقيق مصالحة وطنية حقيقية وشاملة، وإنجاز
العملية السياسية.
ـ دستور جديد في إطار قرار مجلس الأمن
الدولي رقم 2254 على أساس المطالب والتوقعات المشروعة للشعب السوري.
ـ تهيئة الظروف اللازمة لعودة آمنة وكريمة
للاجئين، مع ضمان استمرار وصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين دون انقطاع.
إن الهدف البعيد هو التخلص من عبء اللجوء السوري، لكن يبقى هذا هدفا بعيدا لا يتحول من القوة إلى الفعل دون وجود حوامل موضوعية له: متغيرات في الجغرافية العسكرية داخل سورية، تجعل تحقيقه إمكانية واقعية.
لا يحتاج المرء عناء التفكير للاستنتاج بأن
هذه الشروط مستحيلة التحقق:
الشرط الأول يعني وفق القاموس السياسي
التركي، القضاء على تنظيم "قوات سوريا الديمقراطية" التي يشكل الأكراد
عمادها، وهذا أمر خارج إمكانيات النظام وإيران وروسيا مجتمعين، إنه مرتبط
بالولايات المتحدة، الداعم الرئيس للوحدات الكردية.
إن وضع أنقرة هذا الشرط ليس من باب التعجيز
السياسي فقط، بل هو يربط الوجود التركي في الشمال السوري بالمصالح القومية العليا
لتركيا، وبهذا المعنى، فإن أي مصالحة تركية ـ سورية، يجب أن تحصل وفق شروط الإمكان
للطرفين، دون المطالبة بتنازلات مرتبطة بمعادلة جيوستراتيجية تتجاوز الحوامل
المحلية للجغرافية السورية.
بعبارة أخرى، لا يمكن مطالبة تركيا بمطلب
استراتيجي مثل هذا دون تحقيق النظام السوري لمعادله، أي إزالة الأسباب التي أدت
إلى التدخل العسكري التركي في سوريا.
بخصوص الشرط الرابع (تهيئة الظروف اللازمة
لعودة آمنة وكريمة للاجئين، مع ضمان استمرار وصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين
دون انقطاع)، فهو مطلب تركي حقيقي؛ لأنه يخفف الضغط الشعبي على السلطة، ويتيح لحزب
"العدالة والتنمية" التحرر من عبء اجتماعي أثقل كاهله ولا يزال في
الانتخابات.
أما الشرطان الثاني والثالث، فهما شرطان
نظريان لا قيمة سياسية لهما بنظر تركيا، ذلك أن أنقرة قد تخلت مضمرا عن المطالب
السياسية الكبرى للمعارضة السورية حيال شروط الحل السياسي.
لقد وضعت أنقرة هذين الشرطين كذر للرماد في
العيون أولا، ولترك هذا الملف مفتوحا تبعا لتغير الظروف.
هل يوحي ما تقدم بأن التقارب التركي ـ
السوري مستحيل؟ الجواب بالتأكيد لا، ذلك أن ثمة أهدافا كثيرة يمكن أن يحققها كل
طرف، وإن كانت ذات قيمة محدودة في الأمد القصير.
غير أن التقارب بين الجانبين، أو بالأصح،
الانعطافة السياسية التركية، ومقابلها قبول النظام السوري بالمصالحة، لم تحصل لأجل
أهداف صغيرة متعلقة بمعبر هنا أو هناك، أو بمنع دخول السوريين المقيمين في الخارج
ـ باستثناء تركيا ـ من دخول الأراضي السورية المحررة عبر تركيا.
يتعلق التقارب بأهداف استراتيجية بعيدة
المدى: من وجهة نظر سورية، لا يمكن القبول بمصالحة مع تركيا دون الاتفاق على خطة
عمل بعيدة المدى تُنهي الوجود العسكري التركي في الشمال، لا لذاته، بل لأجل القضاء
على المعارضة المسلحة، والانتهاء جذريا من وجود معارضة داخل سوريا. ومن وجهة نظر تركية، لا بد من القضاء على
القوة العسكرية الكردية، وسحب سيطرتها على أراض سورية واسعة متاخمة لتركيا.
هذان هما الهدفان الكبيران، ومن خلالهما
يمكن لأنقرة إيجاد مخرج لأزمة اللاجئين السوريين داخل حدودها.
ضمن هذه المقاربة، يمكن النظر إلى التحول
السياسي التركي في الملف السوري، فبلغة الاستراتيجيا، ما هو الثمن الذي ستحصل عليه
تركيا من انفتاحها على النظام السوري؟
صحيح أن الهدف البعيد هو التخلص من عبء
اللجوء السوري، لكن يبقى هذا هدفا بعيدا لا يتحول من القوة إلى الفعل دون وجود
حوامل موضوعية له: متغيرات في الجغرافية العسكرية داخل سورية، تجعل تحقيقه إمكانية
واقعية.
يتعلق التقارب بأهداف استراتيجية بعيدة المدى: من وجهة نظر سورية، لا يمكن القبول بمصالحة مع تركيا دون الاتفاق على خطة عمل بعيدة المدى تُنهي الوجود العسكري التركي في الشمال، لا لذاته، بل لأجل القضاء على المعارضة المسلحة، والانتهاء جذريا من وجود معارضة داخل سوريا. ومن وجهة نظر تركية، لا بد من القضاء على القوة العسكرية الكردية، وسحب سيطرتها على أراض سورية واسعة متاخمة لتركيا.
غير أن كل هذا البنيان الاستراتيجي الذي
يبنى، لن يكتب له النجاح في ظل بقاء الأكراد قوة عسكرية فاعلة ومهيمنة في الشمال
السوري.
لهذا السبب، يمكن القول؛ إن الخلاف التركي ـ
السوري، أو الأسباب التي تؤخر المصالحة، لا تتعلق بقضايا فرعية (إنسانية، مساعدات،
معابر، حلول سياسية)، بل تتعلق بكيفية القضاء على الوجود العسكري الكردي في سوريا كخطوة أولى، تؤدي إلى سحب تركيا لقواتها العسكرية، والتخلي عن المعارضة العسكرية.
قد لا نندهش إذا ما رأينا في الفترة المقبلة
تحالفا عسكريا يضم تركيا إلى جانب النظام السوري وروسيا وإيران، إنه أستانة
عسكرية، بعدما فشلت أستانة السياسية.
هذا هو المخطط الكبير الذي يسعى الجانبان
إلى تحقيقه بدعم روسي وإيراني، وإذا ما استشعرت أنقرة بحواسها السياسية العالية
استحالة تحقيقه، ستتحول المصالحة والتقارب إلى مجرد ديكور سياسي يستخدمه كل طرف
نحو قواعده الاجتماعية ليس إلا.