مدونات

قتلوا حماري ونيس؟! (قصة قصيرة من وحي المعركة)

(الأناضول)
وقفت على مكان دفنه، حتى أنه لم يحظ بقبر أو شاهد رغم ما قدّم من أعمال عظيمة وجليلة في هذه الحرب المدمّرة، ذرفت عيناي وانشق قلبي وأنا أستذكر أيامي التي رافقني بها، خادما أمينا مطيعا مخلصا متحمّلا مصاعب لا يعلمها إلا الله، حتى أنّي سمّيته من عظمة أنسي به "ونيس". ولا غرابة أن لا يكون لمدفنه عنوان بارز، فكثير من البشر لم يحظوا بقبر في ظلّ هذه الحرب، فُقدت آثارهم تحت الأنقاض أو ذوّبت القنابل ذات الألفي رطل أجسادهم فتناثرت وذرتها رياح الصهيونازيّة المقيتة، فلا غرابة إذن أن لا يحظى حماري "ونيس" بقبر.

لم يكن لي مجرّد خادم يحمل متاعي ويساعدني في النزوح من مكان لآخر، صحيح أنه كان كلّما اقترب القصف من رحالنا يسارع فيقف طائعا أمام العربة، نحمّل ما تيسّر ثم ينطلق بنا هائما على وجهه إلى حيث يريد، فهو أعرف منا بالطرق السّهلة وكلّ الطرق تؤدي إلى ذات النتيجة، خيمة على قارعة الطريق.

وكان يُسرّ جدا ويبتهج عندما نخرج سويّا للبحث عن الخشب والحطب، لم تكن العلاقة بيني وبينه علاقة سيّد وعبد ولا احتلال ومحتلّ ولا مدير وموظّف ولا حتى إنسان وحمار، بل نشأت بيني وبينه صداقة حميمة، أشعر بألمه ويشعر بألمي، أعذره ويعذرني خاصة عندما يشحّ الماء والطعام فأطوي ليلتي جائعا عطشا وهو كذلك، لا يلومني ولا ألومه ولا يعاتبني ولا أعاتبه، ولا أخاصمه ولا يخاصمني، ولا أغضب منه ولا يغضب مني ولا حتى أعبس في وجهه، وهو كذلك دائما يبشّ في وجهي ويسرّه لقائي وينقبض عندما أغادر وحدي وأتركه حارسا لخيمتي.

وكان أيضا سببا من أسباب رزقي إذ أنقل للناس متاعهم مقابل مبلغ زهيد يستر عليّ واستر منه عليه من طعام وشراب، وكان من يملك حمارا وعربة في أيام الحرب كمن يملك مرسيدس في غيرها من أيام. وكم من مرّة تعرضنا للمخاطر فننجو معا، كنت أقول في نفسي، مصيري مرتبط بمصير صديقي "ونيس" فإمّا أن نموت معا أو نكمل مشوار الحياة معا.

تُعجبني جدا نخوته وشهامته واستعداده التام طواعية أن يربط مصيره بمصيري، رغم أنّهم إن أرادوا بنا القتل فحتما يستهدفونني ويتركون الحمار، فلا مصلحة لهم بقتل الحمار بينما الإنسان الغزيّ الفلسطيني الحرّ هو مرادهم ومحل استهداف لأحقادهم. أمّا أن يختاروا إغاظتي وزرع ألم دائم في قلبي بقتل حماري دوني فهذا أمر عجيب، لقد فعلوها إذ كانت تسليتهم ظهيرة يوم قائظ وهو يسلّطون نيران قناصهم على حماري.

لا بدّ وأنهم تناجوا: "لننظر إلى هذا الرجل كيف تصبح حياته دون حمار، هؤلاء الناس ولدوا مع الحمير من ذات الرحم، توأمان متماثلان، لنقتل أحدهما ونعذّب الآخر بإبقائه دون قرينه، نقتل الحمار ونترك هذا الحيوان البشري لينقل الحطب على ظهره بدل ظهر الحمار". صوّبوا رصاصهم على قلب حماري ليردوه قتيلا مضرّجا بدمائه، انقلبت العربة ووقع الحطب وسارع حماري بلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يودّع هذه الحياة، أشاح بعينيه عنهم، لا يريد أن يلوّث قلبه الجميل بصورتهم، نظر إليّ مشفقا، مودعا، متلوّعا على فراقي، أسبل عينيه وهي تقول: "لا تحزن إنّ الله معكم أهل غزة الكرام فما وجدنا منكم الا خيرا، بينما الشرّ والشرّ كله عند أعدائكم الذين لم يسلم منها شيئا في هذه الحياة".

كنت أنظر في وجهه وأستغرب وأتساءل: لِمَ اختار علي شريعتي عنوانا لكتابه المتخصّص في مقاومة السياسات الاستعمارية: "النباهة والاستحمار"، أم أنه لم يك يتوقّع أن يصل الحال العربي إلى ما وصل إليه هذه الأيام؟ ها هو حماري صاحب نخوة وشهامة لم يصلها الموقف العربي الرسمي وغير الرسمي، هل نقلوا إلينا المساعدات والحطب؟ هل تمكّنوا من أن يقدّموا لنا كما قدّم هذا الحمار؟ معذرة، ليس للعرب وإنما للحمار، معذرة أن سمّى شريعتي حالة البلادة والتقاعس والاستهبال والاستغباء والسير في ركب الأعداء والاستجابة المطلقة للسياسات الاستعمارية بالاستحمار!

ماذا فعل العرب ومن لفّ حولهم من دول الإسلام وعلوم الكلام، بعضهم يشجب ويستنكر ويصرّح، كلام ناري فيه كثير من فنون التمثيل والمظهرة والمسخرة والنفاق، دون أي فعل يصل إلى عُشر ما يفعل هذا الحمار العظيم، هذا الحمار يعمل بصمت دون شجب أو استنكار، لقد أصبح سيدي يا شريعتي.. منهم من وجّه شجبه واستنكاره المعتاد هذه المرّة نحو المقاومة وفعلها العظيم بدل الاحتلال، لم يكتف بدور دون دور الحمار ولا بدور الحمار وإنما ذهب في حالة استحمارية عجيبة، يَستحمِر شعبه وهو مُستَحمر لغيره، لمن ثبَّته على عرشه ووضعه ناطورا على شعبه.

همس حماري بأدب جمّ وهو يقرأ أفكاري بذكاء فذّ:

- إنك صديقي تخطئ مثلهم، ها أنت تصف الحكام والشعوب التي لم تقم بدورها بأنها مستحمرة، نحتّ لهم وصفا من اسمي، ألا تتق الله في معاشر الحمير أيها الحبيب، لولا علمي بأنّ ضميرك حيّ لتركتك في غيّك تعمه ولا تبصر حقائق الأمور.

- معذرة صديقي، في عصر البلادة وفقدان الشعور الانسانيّ النبيل تختلط علينا المفاهيم.

- إنّي أحذرك صديقي أن تعود لهذا الوصف مرة ثانية، هل سمعت حمارا يشتق من اسمكم ما يصلح شتيمة ومسبّة، رغم أنكم تظلمون ولا نظلم، تجرمون ولا نجرم، بل ترتكبون المجازر والإبادة الجماعية كما يفعل هؤلاء الصهاينة، ومع هذا لم نرم أحدنا بوصف مشتق من اسمكم، أتدري لماذا؟

- لماذا يا سيّدي؟

- لأننا نترفّع عن أن نفعل فعلكم.

- لم أكن أعلم أنّك حمار وفيلسوف، قل لي فلماذا كرمنا الله وقال عنا: "ولقد كرّمنا بني آدم"؟

- سمعتك ذات يوم وانت تقرأ "ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات". ألا ترى هذا الإنسان المحتل وهو يفعل بكم ما يفعل قد انحطّ إلى أسفل سافلين! فقط من آمن وعمل صالحا هو المكرّم عند رب العالمين.

"انتفض قلبي وارتعشت كلّ أركاني وقلت منبهرا:

- الله الله، تبّا لمن سمّاك حمارا، أنت عالم أنت حكيم فيلسوف.

- مرّة أخرى تخطئ صديقي، أنا لا أخجل من اسمي لأن الأسماء وقسمتنا في هذه الحياة من عند الله الحكيم الخبير. على هذا الإنسان الذي يرتكب المجازر ويدمّر الحياة أن يخجل، على البشرية الصامتة على هذه الإبادة أن تخجل، على إخوانكم العرب والمسلمين المتفرّجين على نزيف دماء نسائكم وأطفالكم أن يخجلوا، على الذين ألفوا المشهد ولم يحرّكوا ساكنا منذ أحد عشر شهرا من المجزرة أن يخجلوا، هؤلاء كلّهم يوم القيامة سيقولون ليتني كنت حمارا.

لقد تعلّمت كثيرا من حماري، أصبحت أرى من خلاله مفارقات مذهلة، كم هو متفان ومضحٍّ ومعطاء، كم هو يعطي دون منّ ولا أذى، لا يتفاخر ولا يزهو على غيره ولا يرى له فضلا على أحد، لا يملك إعلاما يقلب الحقائق ويزيّن الباطل ويسخّف الحقّ، لا يتابع القنوات العربية ولا كذب العرب فالحقائق يراها بأمّ عينيه، لا يحتاج إلى شاشات وإعلام كاذب، لا يستخدم ما يسمّيه البشر مواقع التواصل ولا يرى أن يذهب وقته سدى وهو يتابع تيك توك وفيسبوك وواتساب وإنستغرام وأخواتها وهي تعرض التافهين وما أبدعوا في عالم التفاهة.

الأمور عنده بيّنة وواضحة لا لُبس فيها، لماذا؟ لأنه على الفطرة التي فطره الله عليها، حافظ على فطرته بينما بنو البشر لوّثوا فطرتهم، جحدوا وطغوا واستكبروا، قتلوا وسفكوا الدماء ودمّروا الحياة وأفسدوا البرّ والبحر، استخدموا العقل الذي ميّزهم الله به أبشع استخدام، أبدع عقلهم في صناعة أدوات الموت والقهر من طائرات ومسيّرات ودبابات وبوارج وغواصات، الصواريخ والقنابل وكل الساحقات الماحقات، الحمير لم تفكر لحظة واحدة ولم يذهب خيالها أبدا إلى مثقال ذرّة من هذا الإجرام.

وأنا أقف على ما حظيتَ به حماري ونيس من مكان دُفنتَ فيه، أستذكر روحك الجميلة ومكانتك العظيمة في هذه الحياة، هل هؤلاء الذين يلبسون البدلات ويقفون أمام الكاميرات ويطلقون أعظم الشعارات وهم غارقون في دماء الأبرياء؛ أحسن منك حماري العزيز؟ لا والله ولو بشعرة من رموش عينيك الجميلتين، لا والله ولو بنبضة من نبضات قلبك العامر بمشاعر الأنقياء.

أذكرك جيّدا عندما كنّا نغذّ السير نازحين هربا من لهيب الصواريخ التي لاحقت النازحين وقصفت خيامهم البلاستيكيّة، تناثر المكان بين الشّظايا ونيران الخيام وأشلاء الأبرياء، أطفال تطايرت رؤوسهم وتقطّعت أجسادهم، لهيب الصواريخ ذات السبعة آلاف درجة مئويّة وصلتنا ونحن هاربون، لم أعد أر شيئا من ضخامة الغبار، وقعتُ أرضا عن العربة والدماء تنزف من ساقيّ غزيرة، غامت الحياة في عينيّ وغبت عن المشهد ما لا أعلم من الوقت، أفقت وإذا بحماري ونيس يقف جواري، عاد الناس يتفقّدون جرحاهم وقتلاهم، وجدوني وفيّ رمق من حياة، حملوني على العربة وطار بي حماري في طريق سدّده بنفسه، يعرف طريق المشفى من كثرة ما نقلنا إليه سابقا.

نجوتُ وعدت إلى صديقي نتقاسم شظف الحياة من جديد، أنا الباقي من عائلتي لم يعد لي في الحياة سوى حماري ولم يعد لي أنس إلا بونيس، ما لهم اليوم يحلو لهم قتله بدوني، يتقنون فنّ زراعة الألم، لم أكن أتوقّع بقيّة حياتي دونه، ليتني غادرت هذه الحياة معه، ولكنّها حكمة الله التي جعلت لكل نفس أجل.