كتاب عربي 21

غزة بين قاموسين.. قاموس المقاومة (40)

إسرائيل وحرب المصطلحات في الأمم المتحدة- إكس
في سياق معالجة الموضوع الخطير "التطبيع بالكلمات"، كان من المهم أن نضع ذلك ضمن عمليات ومفاهيم عدة تحدد الوجه المهم في معركة المفاهيم والمصطلحات، ولعل متابعة هذا الموضوع أدى بي ودفعني إلى مواصلة الكتابة فيه لأمرين، أحدهما تعلقه المباشر بما أطلقت عليه "قاموس المقاومة"، والثاني تعلقه بأحد أهم العمليات التي يجب التنبه إليها ألا وهي "التطبيع" وأهمية الوعي به للقيام بكل ما من شأنه مقاومة التطبيع، وأهم أشكاله التطبيع بالكلمات.

إلا أنه وقد شرعت أكتب مقالي السابق صادفني تقرير مدقق بإخراج محقق وبأرقام واستشهادات موثقة قد نشر في "الجزيرة"، ضمن إعداد موفق قام عليه فريق مؤهل لكتابة مثل هذه التقارير، وأهيب بالمؤسسة إن لم تفعل أن تترجم هذا التقرير إلى لغات عالمية بما يشير إليه من معلومات ونصوص وتصريحات، وخدع إعلامية، ومصطلحية، ومفاهيمية. في هذا السياق كان التقرير "إسرائيل.. غزة.. العالم.. وحرب المصطلحات".

مع استمرار الحرب على الأرض، شُنت معركة كلامية موازية على المسرح العالمي

ومع استمرار الحرب على الأرض، شُنت معركة كلامية موازية على المسرح العالمي. ولفهم الكيفية التي تُصوّر بها اللغة الحرب الحالية، فحصت الجزيرة جميع الخطب والبيانات التي ألقتها 118 دولة عضوا في الأمم المتحدة في جميع جلسات مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، بين 7 تشرين الأول/ أكتوبر و15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. وبالإضافة إلى بيانات الأمم المتحدة، قام الفريق بتحليل مئات الخطب والبيانات التي ألقاها قادة إسرائيل وفلسطين، و5 أعضاء دائمين في مجلس الأمن الدولي (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والصين وروسيا)، بالإضافة إلى 8 لاعبين إقليميين، هم مصر وإيران والأردن ولبنان وقطر والسعودية وسوريا وتركيا.

وفي ذات الوقت طالعت مقالا بديعا، أظنه كُتب باللغة الإنجليزية وقام على ترجمته المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تحت عنوان "توظيف اللغة في حرب المصطلحات الإسرائيلية على الفلسطينيين"، كتبته كل من سحر الهنيدي وإيزابيلا حمّاد وترجمه إبراهيم فرغلي؛ وعنوان المقال بالإنجليزية دال في هذا المقام: "The Uses and Abuses of Language in Israel’s War on Palestinians".

في مطلع هذا المقال كانت تلك العبارة المفتاح في سياق ما نفكر فيه، إذ "دأبت المشروعات الاستعمارية كافة على تحريف اللغة. فقد سارت العبارات الملطّفة المقصودة جنبا إلى جنب مع الرغبة في السيطرة على السكان الأصليين، والاستيلاء على الأراضي والموارد، بداية من التوسع الأمريكي في "براري الغرب"، وصولا إلى الاستعمار الأوروبي للأفارقة "الهمج" استخدم الاستعمار الحديث والقوى الإمبريالية تلك اللغة لا لتبرير مشاريعهم فحسب، بل أيضا لإقناع دافعي الضرائب أيضا بحسن مبرراتهم الأخلاقية. وسمّى والتر ليبمان ومن بعده نعوم تشومسكي؛ ذلك "تصنيع القبول"، بينما أطلقت إدارة الدعاية الأمريكية عليها وصفا أكثر تهذيبا وهو "هندسة القبول".

ثم جاء التسلسل والتسلل "في حرب المصطلحات الإسرائيلية، ممثلا في تأطير المقاومة الفلسطينية للاحتلال العسكري على أنها "إرهاب". ولطالما صورت إسرائيل أشكال المقاومة الفلسطينية كافة بأنها أنشطة إرهابية؛ وينطبق هذا المصطلح على المواجهات غير المتكافئة بين المدنيين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، وحتى أشكال المقاومة السلمية، بما في ذلك الدعوات إلى المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل. وقد اكتسبت كلمة "إرهاب" زخما بعد اتفاقيات أوسلو في عام 1993 التي أُسميت تضليلا "عملية السلام"؛ إذ جرى من خلالها توسيع نطاق المستوطنات الإسرائيلية في المناطق المحتلة إلى الأراضي المخصصة لإنشاء دولة فلسطينية، ما أدى إلى استمرار أعمال المقاومة".

وفي هذا السياق، تذكرت مقالين أشرت لأحدهما ألا وهو مقال "وليد سيف" الذي نوهت عنه في المقال السابق، والذي كان عنوانه "غزة الفاضحة"، أما المقال الآخر فأشير إليه من الذاكرة وكان لأستاذنا "عبد الوهاب المسيري" في صحيفة الشعب، تحت عنوان "مصطلحات العدو"؛ وغاية أمر كل هذا أن نرصد ونسكن كل هذا الذي يقع ضمن اهتمامات علوم شتى، ينظم فيما بينها حروب الكلام واحتلال العقول وغزو النفوس والإرادات،
ذلك يجعلنا نتوقف عند جملة من مجالات التأليفات والمفاهيم التي ترتبط بما نحن فيه: الحرب النفسية؛ الغزو الفكري والثقافي والمعنوي؛ الدعاية والدعاية الصهيونية؛ التسميم السياسي؛ الإمبريالية الثقافية والغزو الحضاري والهوياتي؛ الغزو الإعلامي في سياقات الحروب الحضارية والإعلامية
ضمن توظيف استعيرت فيه كلمة الغزو للتعبير عن خطورته وقدرته على إحداث الهزيمة بدون حروب خشنة أو حتى مع الحروب الخشنة، والتي تحقق انتصارا سياسيا وهزيمة نفسية للخصم.

ولعل ذلك يجعلنا نتوقف عند جملة من مجالات التأليفات والمفاهيم التي ترتبط بما نحن فيه: الحرب النفسية؛ الغزو الفكري والثقافي والمعنوي؛ الدعاية والدعاية الصهيونية؛ التسميم السياسي؛ الإمبريالية الثقافية والغزو الحضاري والهوياتي؛ الغزو الإعلامي في سياقات الحروب الحضارية والإعلامية.. كل هذه الأشكال أو المفاهيم أو التأليفات يحب أن ننخرط فيها ضمن عمليات المقاومة الحضارية الشاملة.

إن غزة الكاشفة الفاضحة الفارقة الفرقانية تتطلب من كل هؤلاء من مثقفين ومفكرين أن يحملوا رسالتهم الكفاحية المقاومة في الأمة، فتدفع الكلمات العدوة، وتؤكد على معاني الكلمات الحرة المرتبطة بمقاومة الأمة.

إن أستاذنا الدكتور حامد ربيع الذي ما فتئ يخاطب أمته "أمتي والعالم"، "أمتي أمة القيم" ليحرك فيها كل الفاعليات الناهضة فيها من خلال كل من حمل الوظيفة الحضارية للأمة والوظيفة الكفاحية السياسية والمجتمعية للعالم؛ أصدر كتابه "الثقافة العربية بين الغزو الصهيوني وإرادة التكامل القومي"؛ يرفع فيه راية التحدي وينادي على أمته.

"هذا المؤلف هو دعوة إلى القتال.. وهو ليس رفعا لراية التحدي ضد أذناب الاستعمار من نفوس ضعيفة قد عقدتها وضاعة المنبت، فذهبت في قناعة مرضية تسعى لإرضاء القوى الأجنبية، معتقدة أنها وقد حملت رداء القناعة المزيفة قد استطاعت أن تخدع جماهير أمتها العريضة، كلا! فمثل هذه الديدان تعودنا أن نتجاهلها، وإن تعرضنا لها فبكلمة أو إشارة. الديدان تُسحَق ولا يُتعامل معها بالمنطق والفكر، ولكننا نرفع راية التحدي ضد الحكام والمسؤولين، لقد تعبنا من الصمت والانعكاف في صومعة الفكر".

نؤسس مرصدا للكلمات والمفاهيم والمصطلحات لمواجهة هذا الغزو المصطلحي؛ يفحص كلمات العدو وآثارها ليحذر وينبه الأمة بكل شرائحها وتكويناتها، ويفحص كلمات الأمة الدافعة والرافعة والجامعة للأمة وفي الأمة

"علينا أن نخرج إلى دائرة أولئك الذين هم على استعداد لأن يضحوا بحياتهم ودمهم في سبيل قيم أمتهم وتقاليد آبائهم. نحن نعلنها واضحة مدوية: لقد آن الأوان لوضع حد للخيانة، ولا يقلل من المسؤولية القول بأن الحاكم ليس واعيا بتصرفاته. هناك من الإهمال ما يقتل. نحن لن نستطيع -وأمامنا مصير أمة كاملة في الميزان- أن تأخذنا شفقة بدعوى عدم القدرة على فهم مخاطر الرعونة. إن مصادر التغير والتغيير في قناعتنا لا بُد من أن تتعامل وتتفاعل في إطار واحد من التأثير والتأثر والتكتل الإرادي بين: القيادة، والوعي الجماعي، والطبقة المثقفة..".

وحتى تكون الأمور واضحة وقد دخل العدوان على غزة قرابة العام، أن نفهم أن غزة التي انتدبت عن الأمة مقاومة وعزة، وجهادا واستشهادا، بين قاموسين: قاموس المقاومة والعزة والكرامة، وقاموس الهزيمة "التخذيل والهوان والمهانة"، واقتراحنا في هذا المقام أن نؤسس مرصدا للكلمات والمفاهيم والمصطلحات لمواجهة هذا الغزو المصطلحي؛ يفحص كلمات العدو وآثارها ليحذر وينبه الأمة بكل شرائحها وتكويناتها، ويفحص كلمات الأمة الدافعة والرافعة والجامعة للأمة وفي الأمة. ذلك يتطلب مشروعا ضمن مشاريع المقاومة الحضارية في الأمة "فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ" (التوبة :122) وعلى كل هؤلاء أن يدخلوا هذه المعركة مع مصطلحات وكلمات العدو وتحريف الكلم عن مواضعه والاتهامات الباطلة، مهما كان للكيان الصهيوني من داعمين وكذا ادعاءاتهم. الأمر إذن في غزة الفاضحة الكاشفة الفارقة ليميز الخبيث من الطيب، أمر أمة وحركة إصلاح ونهوض؛ "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" (الرعد: 17).

x.com/Saif_abdelfatah