مما لا شك فيه، أن
الإخوان ولدوا في
أصعب حقبة زمنية جمعت بين الاحتلال الإنجليزي لمصر والحكم الملكي، واستطاعوا بفضل
تنظيمهم وإخلاصهم لله ومساهماتهم في العمل العام، أن ينتشروا في ربوع
مصر ويحظوا
بمكانة عظيمة في قلوب الشعب المصري، رغم محاربة الأنظمة الحاكمة المتعاقبة لهم
إعلاميا بتشويه صورتهم بل شيطنتهم، ونهب ثرواتهم، وإلقاء رموزهم في غياهب السجون. كل ذلك لم يفت في عضدهم، بل زادهم ثباتا ورسوخا، لكن تجربة الحكم التي خاضوها، كانت
بمنزاة الشعرة التي قصمت ظهر البعير، لكنها لم تقتله.
والمتأمل لتفاصيل المشهد السياسي، يجد
أن اجتماع أركان الدولة العميقة كفيل بالقضاء على أية تجربة للحكم مهما كانت
جاهزيتها، أضف إلى ذلك اجتماع قوى الشر في الخارج على إجهاض هذه التجربة التي لم
تبلغ عامها الأول، كل ذلك كفيل بوأد حكم الإخوان وذهابه إلى غير رجعة، لكن كل ذلك
لا يعفي الإخوان من المسؤولية الكاملة عمّا حدث.
فقد خاض الإخوان تجارب انتخابية
عديدة حققوا فيها شعارا مستحقا، هو: نعم للإخوان.. شعار نسبة كبيرة من الشعب
المصري في غالبية مراحله السلمية الهادئة نسبيا.. ما من تنافس شبه ديمقراطي في أي
استحقاق انتخابي، إلا وقال عدد غير قليل من الشعب المصري: نعم للإخوان.. لكن قد حان
الوقت قبل أن نقول فات الوقت: لنقف مع الإخوان ونقول: نعم.. ولكن.. إشفاقا ودعما
وحرصا على مورد وثروة من موارد وثروات الوطن، نقف ونقول، ولكن، ولماذا؟
المتأمل لتفاصيل المشهد السياسي، يجد أن اجتماع أركان الدولة العميقة كفيل بالقضاء على أية تجربة للحكم مهما كانت جاهزيتها، أضف إلى ذلك اجتماع قوى الشر في الخارج على إجهاض هذه التجربة، التي لم تبلغ عامها الأول، كل ذلك كفيل بوأد حكم الإخوان وذهابه إلى غير رجعة، لكن كل ذلك لا يعفي الإخوان من المسؤولية الكاملة عمّا حدث.
اتفق معهم أو اختلف هذا حق لك، لكنه
لا ينفي أن الإخوان من أهم مكونات المشهد المصري شعبيا واجتماعيا وسياسيا ونقابيا
بل وتطوعيا. هذا التمدد في الفضاء المصري الواسع والحافل، جعلهم هدفا لأنظمة
الحكم، بل وهدفا لأطياف المعارضة وباقي فصائل الحركة الإسلامية. تنافس غير متكافئ
أورث البغض والكراهية من الفاعلين في المشهد العام تجاه الجماعة، التي تمارس ما
تقول إنها واجبات شرعية وحقوق دستورية وقانونية، وهي لا تدري أن ممارسة الحقوق
يحتاج فقه واقع وعقلا واسعا ونفسية رحبة وحذرا كبيرا؛ لأنك قد تؤتى مما تظن أنه
حق، وقد كان.
الإخوان ثروة وطنية وقومية، يمكن
الركون إليها وتوظيفها للصالح الوطني والقومي، لكنهم لم يجيدوا توظيف أنفسهم، ورفضوا أن يوظفهم أحد.
الإخوان مخزون بشري هائل متنوع
التخصصات والخبرات، لكنه مخزون منقوص الفاعلية التي تناسبه، مخزون يشبه لحد كبير
مخزون الذهب والفضة، دون أن يتحرك في سوق المال والأعمال، فيفقد البريق وربما يقل
القيمة.
الإخوان نجحوا فيما فشل فيه النظام
والأحزاب والكيانات، حين أدخلوا آلية
التنظيم خادمة لأفكار المشروع الإصلاحي الخاص
بهم. التنظيم مثّل عنصرَ إضافة لفكر الإخوان، وأتاح لهم تنزيل الأفكار والتطلعات
في أطر وهياكل ومؤسسات فاعلة على الأرض.
لكن لعنة التنظيم التي أصابت كل
التنظيمات شبه السرية خاصة الشيوعية، أصابتهم؛ حين طغت الاعتبارات التنظيمية والفئوية على
الفكرة والخيارات السياسية العامة.
الإخوان أسقطوا شمولية الإسلام، وهو
مفهوم واسع وراق على شمولية التنظيم، فحمّلوا أنفسهم فوق طاقتهم، فضلا عن الطابع
الانتقائي على حساب الاهتمام الفكري والسياسي. فبعض جماعات الإخوان تحوّلت إلى ما
يشبه الطائفة المغلقة على نفسها، في ظل الأزمات المتعاقبة والمحن السياسية
الطاحنة.
يحسب لمنهج الإخوان وقياداته الحفاظ
على الوسطية والاعتدال والسلمية بعيدا عن العنف، رغم العنف الهائل الذي وقع عليهم
منذ العام 1954 حتى اليوم، وكانت شعارات دعاة لا قضاة للمستشار الهضيبي، وسلميتنا
أقوى من الرصاص للدكتور محمد بديع؛ منهج عمل، نعم لم تعجب بعض المعارضين، لكنه
منهج الإخوان وبغيره، يكونون كيانا وفكرا آخر غير إخوان البنا ومدرسة البنا.
الأزمة البنيوية للإخوان، هي ضمور
الطاقة الفكرية لصالح طغيان التنظيم، وقلّة الانفتاح على بقية المكوّنات
الاجتماعية، معضلة أتاحت للقيادات التنظيمية ورجالات التنظيم تقدّم الصف الإخواني،
على حساب القيادات الفكرية والسياسية، ما أضعف أداء الإخوان السياسي في محطات
عديدة، وأفرز ازدواجية بين قيادات تنظيمية متحكمة من وراء ستار، وأخرى سياسية وضعت
في الواجهة، دون أن تمتلك سلطة القرار الفعليّ.
الأزمة البنيوية للإخوان، هي ضمور الطاقة الفكرية لصالح طغيان التنظيم، وقلّة الانفتاح على بقية المكوّنات الاجتماعية، معضلة أتاحت للقيادات التنظيمية ورجالات التنظيم تقدّم الصف الإخواني، على حساب القيادات الفكرية والسياسية، ما أضعف أداء الإخوان السياسي في محطات عديدة
كيان بهذا الحجم الكبير، التمدد
الواسع والانتشار المتشعب ما كان يجب أن يعتمد على الهواة رغم إخلاصهم، بل كان
ومازال بحاجة إلى مراكز أبحاث بحجم الجماعة وحجم المشروع وحجم التحديات وحجم
الصراع، كان بحاجة إلى وفرة المعلومات وكفاية القيادات وتمدد العلاقات وتماسك
التحالفات.
ولعل غياب وفرة المعلومات، جعلهم لا
يحسنون تقدير المواقف في اتخاذ قرارات مصيرية غالية، بل باهظة الثمن، في عدم وعيهم
بخطورة الدولة العميقة، وعمق سيطرة الجيش من وراء ستار على كل أجهزه ومؤسسات
الدولة.
نعم، الإخوان صعدوا للسلطة باستحقاق
انتخابي، تشريعيّ ورئاسي، ثم أخرجوا منها بالرصاص والدبابات وأنهار الدّماء، الإخوان
تحمّلوا غالبية الثمن كعادتهم، من أرواحهم وحرياتهم وأهلهم وأرزاقهم، لكن شظايا
المحرقة أصابت الجميع.
لكن التجربة التاريخية والعملية
تقول؛ إن الأسلوب الأمنيّ والقمعي في التعامل مع التيارات الاجتماعية والفكرية
والعقدية، خاصة الوسطية والمقبولة شعبيا، لا يزيدها إلا تجذّرا وامتدادا ومشروعية
ورصيدا رمزيا، تاريخ الإخوان نفسه يشهد لهم.
وأخيرا، ما تعيشه مصر والإخوان مرحلة
كسابقتها، وسيرحل
السيسي، كما جاء وكما رحل غيره، وسيبقى الإخوان ورجال الإخوان،
رغم عمق الجراح وشدّة المحن.
لكن أي إخوان سيبقون؟ وبأي فكر
وتنظيم؟ وبأي مواصفات ومعايير؟ وبأي أهداف وغايات؟ وبأي كفاءات وقيادات؟
الإخوان رقم صعب ويخوض الصعب.. وكذلك
تغييره وتطويره هو التحدي والسباحة ضد التيار!!