اقتصاد عربي

القاهرة وجهة الأجانب الأولى بأفريقيا.. فلماذا يهرب رجال الأعمال المصريون لدبي؟

التضييقات على رجال الأعمال تدفعهم للهروب بأموالهم- الأناضول
أدت السياسات الاقتصادية لرئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي، على مدار أكثر من 10 سنوات، إلى جانب سيطرة شركات الجيش والمؤسسات السيادية على أغلب القطاعات، إلى توقف مصالح بعض رجال الأعمال أو تقليصها، أو الهروب بها إلى ملاذات آمنة وأسواق غير مضطربة، واقتصاديات لا تعاني أزمات مع العملات الصعبة، أو القرارات الإدارية المتضاربة.

وأشارت بيانات رسمية إماراتية، إلى أن المصريين يمثلون ثالث أكثر الجنسيات الأجنبية تأسيسا للشركات في مدينة دبي الإماراتية بالنصف الأول من العام الجاري خلف الهنود والباكستانيين، حيث قاموا بتأسيس 2355 شركة، بحسب بيانات "غرفة تجارة دبي".

   
وفي السياق ذاته، المؤكد لتوجه المستثمر المصري إلى الخارج، وفي حزيران/ يونيو الماضي، أعلنت وزارة الاستثمار السعودية، تصدر المصريون قائمة الأعلى حصولا على تراخيص استثمار بالربع الأول من العام الجاري، خاصة بقطاع العقارات، بعدد 950 ترخيصا، بنسبة 30 بالمئة من تراخيص الاستثمار في السعودية، وبزيادة 150 بالمئة عن ذات الفترة من العام الماضي.

وبدا لافتا ظهور مجموعة طلعت مصطفى العقارية بتلك القائمة، فيما كان مسؤولون بـ"مجموعة حسن علام القابضة"، و"سامكريت"، و"كونكريت بلس"، و"الشركة الهندسية للإنشاء والتعمير"، قد صرحوا لـ"الشرق مع بلومبيرغ" أن شركاتهم تتطلع للتوسع في السوق السعودية.

"الوجهة الاستثمارية الأولى بأفريقيا"

المثير أنه في الوقت الذي يتوجه فيه رجال الأعمال المصريون للاستثمار في الإمارات والسعودية، فإن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد"، أكد في بيانه الصادر منتصف الشهر الماضي، أن مصر تعد الوجهة الاستثمارية الأولى في قارة أفريقيا للعام الثاني على التوالي، وأنها احتلت المركز 32 عالميا في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر لعام 2023، رغم الظروف الاقتصادية.

وأوضح التقرير أن مصر جاءت من بين الدول التي بلغت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر فيها من 6 إلى 10 مليارات دولار، في 2023.
 
لكن التضارب بين حلول المصريين بالمرتبة الثالثة في تأسيس الشركات في دبي، وهروب 2355 مستثمرا مصريّا إلى البلد العربي الخليجي في 6 شهور فقط، وزيادة الاستثمار المصري في السعودية بنسبة 150 بالمئة، رغم حلول مصر بمرتبة متقدمة في جذب الاستثمار بالقارة السمراء، يدفع للتساؤل عن أسباب توجه رجال الأعمال المصريين للخارج، وفي الجانب الآخر توجه الأجانب إلى مصر وبينهم الخليجيون، وعن حجم مسؤولية الحكومة المصرية عن ذلك التضارب.

ذلك الوضع أثار جدلا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ودفع الكاتب الصحفي جمال سلطان للقول عبر موقع "إكس": "بينما تؤسس شخصيات أجنبية مصانع وشركات لها في مصر، يهرب المواطن المصري بأمواله واستثماراته إلى خارج مصر"، متسائلا: "ما تفسير هذه المعادلة؟ ولماذا يهرب المصري بأمواله وشركاته للخارج؟ ولماذا لا يطمئن المواطن المصري على أمواله واستثماراته داخل بلده؟".

 
"هروب الكبار"

وتواصل شركات مصرية كبرى عمليات التسجيل والبيع لبعض أصولها بالخارج هربا من أوضاع وقوانين السوق المحلية، والاحتماء بقوانين وأسواق دولية أخرى تعتمد طريقة ما يعرف بنظام "الملاذات الضريبة"، أو "الأوفشور"، الذي يمنحها حماية قانونية، ويسمح لها بتحويل أرباحها بالعملات الأجنبية مع تقديم إعفاءات ضريبة كبيرة.


وفي أيلول/ سبتمبر الماضي، نقلت شركة الصناعات الغذائية العربية "دومتي" حصة مملوكة لعائلة "الدماطي" تمثل 24.61 بالمئة، لصالح شركة "International dairy investment"، المملوكة أيضا وبالكامل لعائلة الدماطي، والمسجلة بجزر الكايمن، الواقعة غرب "البحر الكاريبي"، التي تعد مركزا استثماريا قليل الضرائب، وجاذبة لشركات "الأوفشور".

وفي كانون الأول/ ديسمبر 2022، أعلنت شركة النساجون الشرقيون عن عمليات بيع صوري ونقل لملكية "24.61 بالمئة" من أسهمها ببورصة مصر، لشركة إنجليزية، تحمل اسم " FYK LIMITED"، والمملوكة لأسرة خميس، بقيمة 1.37 مليار جنيه.

وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2022، أعلن الملياردير المصري نجيب ساويرس، الاستثمار ببناء محطات شحن السيارات الكهربائية بالمغرب، وبعض دول أفريقيا.

وفي 2 أيار/ مايو 2023، أعلن شقيقه سميح ساويرس، توقفه تماما عن الاستثمار في مصر، وعدم دخول مشروعات جديدة بها، بسبب أزمة شح الدولار وسعر الصرف، وأنه سوف يتوجه باستثماراته للسعودية.

وكان السيسي قد استهدف بعض رجال الأعمال بالسنوات الماضية، ففي نهاية العام 2020، ثم 2021، جرى توقيف رجال أعمال بينهم صاحب محلات "التوحيد والنور" سيد السويركي، ومؤسس شركة "جهينة" صفوان ثابت ونجله، ومؤسس صحيفة "المصري اليوم" صلاح دياب، ومن قبلهم رجلا الأعمال أحمد بهجت، وحسن مالك.

"توافد مثير للاستثمارات الأجنبية"

المثير أنه في الوقت الذي يواصل فيه المصريون التوجه للخارج، فإن رئيس جهاز التمثيل التجاري يحيى الواثق بالله، قال الأربعاء الماضي، لموقع "انتربرايز"؛ إنه تم جذب استثمارات أجنبية بقيمة 11.6 مليار دولار بقطاعات الطاقة، والصناعات الغذائية، والهندسية، والمستلزمات الطبية، وتكنولوجيا المعلومات، والقطاع المصرفي، والعقارات، والاتصالات، والملابس الجاهزة والمنسوجات.

وأكد استثمار شركة إيطالية 200 مليون يورو في مشروعين للطاقة الشمسية في سفاجا، وعزم شركة "رينيو باور" الهندية إنشاء مصنع للهيدروجين الأخضر بقيمة 8 مليار دولار بالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، مع توسع الاستثمارات التركية، وإجراء شركات صينية مباحثات للاستثمار في الغزل والمنسوجات والأقمشة والسلع الهندسية ووسائل النقل والطاقة المتجددة.

"الأزمات.. لهذا يهرب المصريون"

وفي رؤيته لأسباب هروب المستثمر المصري للخليج رغم تدفق الاستثمارات الخليجية لمصر، قال الخبير الاقتصادي والمسؤول السابق بوزارة التجارة والصناعة الدكتور عبدالنبي عبدالمطلب: "مسألة أن مصر هي الوجهة الأولى للاستثمار الأجنبي المباشر للعام الثاني على التوالي أمر طبيعي، وطوال السنوات كانت تحتل المرتبة الأولى كأفضل دولة جاذبة للاستثمار في أفريقيا".

وكيل وزارة التجارة والصناعة للبحوث الاقتصادية سابقا، أضاف لـ"عربي21": "فقط عندما كانت تخرج بعض الاستثمارات المرتبطة بالنفط في نيجيريا أو الغاز في بعض الدول الأفريقية، كانت تتراجع مصر للدرجة الثانية أو الثالثة على الأكثر".

ويرى أن "الجزء المهم هنا هو سبب خروج رجال الأعمال أو الشركات المصرية إلى دبي، وغيرها"، موضحا أن "توجه الشركات المصرية الكبرى إلى دبي وإلى السعودية، وكونها أصبحت تمثل نسبة كبيرة من الاستثمار بدول الخليج، فهذه مسألة منطقية ليس فيها شيء".

وأوضح رؤيته تلك بالقول: "خاصة أن قطاع الاستثمار المصري بكل تنوعاته عانى كثيرا من الأزمات في السنوات السبع الماضية، وخاصة من عدم قدرته على التوسع بالشكل الذي يحقق له الأرباح المطلوبة".

ولفت إلى وجود "مشاكل اقتصادية واجهت الشركات منذ عام 2015، مع إقرار (قانون الاستثمار) الجديد، وما تلاه من توجيه جزء كبير من الاستثمارات في البلاد من الإمارات إلى العاصمة الإدارية الجديدة، ولم يعد أمام رجال الأعمال والشركات للعمل سوى الحصول عليه من الحكومة في العاصمة الجديدة، ما أدى لاحقا لظهور مشكلة تأخر مستحقات أعمال تلك الشركات، وأثر عليها".

"كارثة طارق عامر"

وأشار إلى ما وصفه بـ"الكارثة التي مُني بها القطاع الصناعي والزراعي، عندما صدرت القواعد والقوانين المنظمة للاستثمار، التي أصدرها رئيس البنك المركزي السابق طارق عامر، في شباط/ فبراير 2022، وألزم من خلالها المستورد المصري باستبدال مستندات التحصيل بالاعتمادات المستندية للإفراج عن الواردات، في أزمة أثرت كثيرا".

وأوضح أنه: "من هنا، بدأت المصانع والمزارع على حد سواء تفقد قدرتها على ضمان استمرارية سلاسل الإمداد، ولم تعد تقدر المصانع جلب الخامات ومستلزمات الإنتاج وقطع الغيار، وبدأت تحدث مشاكل لبعض الصناعات، وتوقفت بعض المصانع وعمل بعض الشركات بأقل من طاقته".

وأكد أن كل ذلك كان معناه "زيادة تكاليف الإنتاج ومضاعفتها، ما اضطر العديد من المنتجين لرفع أسعار المنتجات، ونتذكر عندما رفعت شركات الألبان قيمة منتجاتها أكثر من مرة في 2023 و2024، فإنها قالت؛ إنها لن تستطيع الحفاظ على أسعارها نتيجة ارتفاع التكاليف".

"سعر الصرف ودراسات الجدوى"

عبدالمطلب، لفت أيضا إلى ما اعتبره "جزءا ثانيا مهما جدا ومؤثرا، وهو مسألة عدم استقرار سعر الصرف في السوق المحلية المصرية، وعدم المقدرة على التنبؤ بنية الحكومة في اتخاذ إجراءات خاصة مع برنامج الإصلاح الاقتصادي، الذي جعل المستثمر المصري غير قادر على عمل دراسات جدوى تمكنه من تحديد تكاليف إنتاجه، بدقة".

وأضاف: "واليوم مثلا، متوقع حدوث تحرير لسعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية، والشركات ظلت تنتظر حدوث التعويم من آذار/ مارس 2022، ولم يحدث إلا في الشهر نفسه من العام 2023، كما أن الإشكال هنا قائم في حجم وقيمة التعويم، حيث إننا لا نتكلم في نسب بسيطة بقيمة 5 أو 10 بالمئة، بل نتحدث عن نسب تصل لـ40 و50 بالمئة، أدت لارتفاع قيمة الدولار مقابل الجنيه من 30 إلى 50 جنيها".

ويرى أن "هذا يضع المستثمرين الذين قدموا دراسات جدوى في أزمة كبيرة، ما جعل الاستثمارات المصرية الكبيرة تفضل العمل في دول خليجية خاصة الإمارات والسعودية على الأقل، لحين تحسن الأمور في مصر".

"نيوم ودبي والفرص الأفضل"

واستدرك الخبير المصري، متسائلا: "لكن لماذا لم يحدث هذا الأمر سابقا؟"، مجيبا؛ "لأنه لم تكن هناك مناطق منافسة لمصر كالمناطق الكبرى مثل "نيوم" شمال غرب السعودية أو الخطط الاستثمارية السعودية 2030، أو بالإمارات، فلم يكن هناك خططا استثمارية كبيرة وطموحة في البلدين وعلى المستويات كافة".


وتساءل: "من كان يتخيل أن الإمارات أصبحت منطقة جذب سياحي عالية؟، وأصبح دخولها بتأشيرة ميسرة لكل من يريد زيارتها، ومعنى ذلك زيادة الحاجة لفنادق ومطاعم ومحلات تسوق وزيادة قدرة وسائل النقل، وبناء الطرق والمساكن، وهذا في قطاع واحد وهو السياحة فتح عشرات المجالات للاستثمار العالمي".

وألمح إلى أن "المستثمر المصري هنا يستشعر أن لديه فرصة أفضل للعمل وتحقيق الأرباح دون أزمات السوق المحلية، ومن هنا بدأ توجهه نحو الخليج، خاصة وأن القواعد المنظمة للاستثمار أيسر والتشجيعات أكبر".

"سطوة الدولة"

وتحدث عبدالمطلب عن "جزء مهم"، أكد ضرورة "أخذه في الحسبان"، وهو أن "القطاع الخاص المحلي، من المستحيل أن يوسع استثماراته بشكل كبير في قطاعات يمكن أن تنافسه فيه الدولة، فهي لا تقدر على منافسة الدولة".

وأوضح أنه "لو يعمل في مجال الزراعة، فإن مشروعات الدولة المنافسة تحصل على كل ما تريده أولا من مبيدات مثلا، وهو لا يحصل عليها بعد اكتفاء الأخيرة، كما أن مزارع الدولة تستخدم المياه والري وقتما تشاء، بينما المستثمر المحلي من القطاع الخاص مرهون بنوبة الري، وتأخر الري بفترات معينة ومع زراعات معينة ولمدة 48 ساعة قد يقضي على المحصول".

وختم بالقول: "ومن هنا، جاء خوف قطاع الاستثمار المصري الخاص من عدم قدرته على التنبؤ بحكم توسع القطاع الحكومي وشركاته، وتلك المملوكة لجهات سيادية، ما يجعله يقلص استثماراته، رغم ما لديه من فوائض أموال، بل ويبحث عن الاستثمار في الخارج".

"خسارة للموازنة المصرية"

من جانبه أوضح الخبير الاقتصادي المصري، وائل جمال، أن "رقم الاستثمار الداخل لمصر هو إجمالي الاستثمارات كلها الداخلة لمصر مقارنة بباقي دول أفريقيا"، مشيرا في حديثه لـ"عربي21"، إلى أن "مصر بالطبع على قائمة الاستثمارات في القارة".

لكن مدير "وحدة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، بـ"المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، ألمح إلى أن "بيع الأصول العامة المصرية يحسب من تلك الاستثمارات، لهذا فحجمها عال جدا في مصر"، مؤكدا ضرورة "التمييز بين استثمار يبيع الأصول واستثمار آخر يبدأ خطوط إنتاجية جديدة"، معتقدا أنه "ليس هناك تضارب كبير".

وفي رؤيته لأسباب خروج المستثمرين والشركات المصرية من السوق المحلية إلى دبي وغيرها، قال؛ إن "ذلك يأتي أولا: بهدف تجنب دفع الضرائب العالية في مصر؛ لأن دبي تعد من الملاذات الضريبية أو الأوفشور، فهي واحدة من مدن ودول عديدة في العالم، يمكن للمستثمر أن يؤسس بها شركة دون دفع ضرائب في مصر، وما يدفعه في دبي عادة يكون قليل جدا".

وفي تفسيره للظاهرة، يرى جمال، أن "هذا يمثل هروبا ونزوحا لضرائب تلك الشركات من الموازنة العامة المصرية، التي تعاني عجزا سنويّا كبيرا، وتلتهم خدمة الديون نسبة كبيرة منها، كما أن ذلك الوضع يمثل خفضا لقيمة الضرائب التي يدفعها رجال الأعمال المصريون".

ولفت إلى أمر ثان، وهو "تعامل الحكومة المصرية مع المستثمر الأجنبي، أفضل من المستثمر المحلي، ومنح الأول الحق في أن يُخرج أرباحه للخارج من الاستثمارات التي دخل بها، سواء كان ذلك في البورصة المصرية أو في أدوات الدين الحكومي من أذون وسندات الخزانة العامة".

وفي نهاية حديثه، لا يعتقد الباحث المصري أن "مسألة خروج المستثمرين المصريين إلى دبي وغيرها له علاقة بأمان استثماراتهم في مصر؛ بقدر ما أن لها علاقة بالأرباح التي سيحققونها، وبضمان القدرة على إخراج أرباح نتائج أعمالهم للخارج بالعملة الصعبة".