قضايا وآراء

الإقليم السُّنّيّ والحلقات المفقودة!

مَن يريد الحفاظ على المحافظات غير المنتظمة بإقليم، عليه أن يحافظ على الناس، وذلك بنشر العدل، وزراعة الخير، وبناء دولة المؤسّسات.. (فيسبوك)
عادت للواجهات الإعلاميّة والمجتمعيّة، من جديد، المجادلات العراقيّة الطويلة العريضة، والقديمة الجديدة، والمتعلّقة بالدعوة لإنشاء الإقليم السُّنّيّ!

وهذا الموضوع من المواضيع الشائكة والمخيفة، وسبق أن كتبت مقالا في صحيفة "عربي21" الغراء، يوم 23 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2020، بعنوان: (إقليم "سُنّة العراق")، وأشرت فيه إلى أنّ: "منْ يعتقد أنّ الهروب نحو الإقليم هو الحلّ، أو أنّ مُشاركة السُنّة الهامشيّة في العمليّة السياسيّة حققت بعض أحلامهم، نتمنّى عليه أن يَذكر لنا بعض تلك المنجزات"!

والإقليم السُّنّيّ المنشود والمأمول يشمل محافظات الأنبار والموصل وصلاح الدين وديالى وبعض أطراف بغداد!

ونحاول قراءة هذا الموضوع الدقيق والحسّاس بموضوعيّة وعقلانيّة وقانونيّة!

تشكيل الإقليم السُّنّيّ ليس قضيّة إداريّة بحتة بل هي بداية لتقسيم العراق بسبب البحث عن الهويّة السُّنّيّة وتنامي فكرة الضياع في دهاليز التهميش والتغييب السياسيّ والحياتيّ والقانونيّ!
تشير المادّة (١١٩) من الدستور العراقيّ للعام 2005:               

يحقّ لكلّ محافظة أو أكثر تكوين إقليم بناءً على طلب بالاستفتاء عليه، من ثلث الأعضاء في كلّ مجلس من مجالس المحافظات، أو طلب من عُشر الناخبين في كلّ محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم.

والدعوات للأقاليم ليست جديدة، وقد سبق أن وقعت مطالبات للإقليم السُّنّيّ، حيث أكّد رئيس مجلس النوّاب الأسبق أسامة النجيفي منتصف العام 2011 أنّ "هناك إحباطاً سُنّيّاً وإذا لم يعالج سريعاً، فقد يفكّر السّنّة بالانفصال أو على الأقلّ تأسيس إقليم، وسُنّة العراق يشعرون بالتهميش وبأنّهم مواطنون من الدرجة الثانية"!

وهذه الدعوة لم يكتب لها النجاح، ويبدو أنّنا اليوم صرنا أمام دعوات مماثلة، وبالذات مع بقاء غالبيّة الظروف السيّئة الداعمة لهذه الدعوات ولو بدرجات أقلّ!

وقبل أيّام، وتحديدا منتصف تمّوز/ يوليو 2024، أطلق بعض شيوخ عشائر محافظة الأنبار الغربيّة حملة إعلاميّة للدعوة إلى إنشاء "إقليم عربيّ سُنّيّ "، عاصمته الأنبار، وفقا للدستور.

وهذه الدعوات واجهت رفضا مستمرّا وواضحا من القوى الشيعيّة والقوى السّنّيّة القريبة منها، وبعض الكيانات الوطنيّة!

وسبق لرئيس مجلس القضاء، فائق زيدان أن صرّح، يوم 18 شباط/ فبراير 2024 بأنّ فكرة إنشاء أقاليم أخرى (عدا إقليم كردستان) تهدّد وحدة العراق وأمنه.

ويبدو أنّ الذين كتبوا الدستور انقلبوا عليه اليوم، وهم يرفضون العمل به، وهنا نتساءل: إن كنتم لا تعملون بالمادّة 119 من الدستور فهذا يعني أنّ العراق الآن في حالة الطوارئ لأنّها المرحلة الوحيدة التي يُجمّد خلالها العمل بالدستور!

ويبدو أنّ الكيانات السياسيّة الرافضة للإقليم تضع رأسها في الرمال وتتجاهل الأسباب التي دفعت للمطالبة بالإقليم السُّنّيّ، أو الدوافع السياسيّة الحقيقيّة لتحريك هذه الورقة المفصليّة!

والدعوات للإقليم ليست من فراغ وإنّما هي هروب من واقع سياسيّ واجتماعيّ واقتصاديّ وإنسانيّ وقانونيّ سقيم!

وتشكيل الإقليم السُّنّيّ ليس قضيّة إداريّة بحتة بل هي بداية لتقسيم العراق بسبب البحث عن الهويّة السُّنّيّة وتنامي فكرة الضياع في دهاليز التهميش والتغييب السياسيّ والحياتيّ والقانونيّ!

إنّ التهجير والقتل خارج إطار القانون، واستمرار مأساة المغيّبين، والمعتقلين وسحق قانون العفو العامّ، وتجاهل أوضاع المهجرين والنازحين والمطاردين بوشايات كاذبة، والمحرومين من العودة للبلاد وفقدان أعزّ ما يملكون كلّها أسباب مُتجدّدة تُشجّع الناس للهروب من واقعهم المخيف رغم قناعة الغالبيّة منهم بأنّ هذا الهروب ليس حلّا جذريّا!

الدعوة للإقليم السُّنّيّ ستفتح عدّة أبواب على مصارعها، ومن أهمّها مَن سيكون زعيما لهذا الإقليم، وكيف ستوزّع مناصب الإقليم الحسّاسة والمهمّة؟

وجميعها أسباب لفتن قاتلة ومظلمة!

الداعمون للإقليم السُّنّيّ منهم الأنقياء الأصفياء، ومنهم مَن لا يريدون الخير للعراق، ولهذا ينبغي تجفيف منابع وأسباب الدعوة للإقليم حيث إنّ غالبيّة المناطق السُّنّيّة تعاني، منذ عقدين، من أزمة ثقة حقيقيّة مع حكومات بغداد، وتهميش لطاقات الشباب، ومنع النازحين من العودة لمناطقهم وسيطرة الجماعات المسلّحة على الكثير من مصادر رزقهم وتجاراتهم!

إنّ التهجير والقتل خارج إطار القانون، واستمرار مأساة المغيّبين، والمعتقلين وسحق قانون العفو العامّ، وتجاهل أوضاع المهجرين والنازحين والمطاردين بوشايات كاذبة، والمحرومين من العودة للبلاد وفقدان أعزّ ما يملكون كلّها أسباب مُتجدّدة تُشجّع الناس للهروب من واقعهم المخيف رغم قناعة الغالبيّة منهم بأنّ هذا الهروب ليس حلّا جذريّا!
إنّ الهروب من المناطق المظلمة والظالمة ليس عيبا يمكن أن يلاحق الناس لأنّ الإنسان بطبعه يميل للدول والأقاليم المليئة بالنور والعدل، وينفر من الدول والأقاليم المتشبعة بالظلام والظلم!

إنّ الحِمل الكبير الواقع على الناس في الداخل لا يُقدّره إلا مَن عانى من آلام الظلم والسجن والترهيب، أما الجالسون على التلّ في الشتات فغالبيّتهم يتحدّثون بنرجسيّة عالية لا يمكن قبولها من الذين يعانون الضرر والضياع!

الإشكاليّة الكبرى في المشهد الحاليّ تتمثّل في أنّ كلّ مَن هبّ ودبّ صار يمتلك الجرأة للحديث في أمور عموم الناس وكأنّه القائد المنقذ، وصمام الأمان الذي لا نجاة من دونه!

وآخر هذه الإشكاليات ظهور بعض "شيوخ العشائر" من البصرة ليلة الخميس 25 تمّوز/ يوليو 2024 وتهديدهم للمطالبين بالإقليم السّنّيّ "بقطع نفط البصرة عنهم"!

وهذا تطوّر خطير وكبير يؤكّد فوضى الإدارة في العراق!

مَن يريد الحفاظ على المحافظات غير المنتظمة بإقليم، عليه أن يحافظ على الناس، وذلك بنشر العدل، وزراعة الخير، وبناء دولة المؤسّسات، والقضاء على الجماعات المسلّحة، وإنصاف المتضرّرين منذ العام 2003، وإنهاء التعسف الإداريّ والقانونيّ المتواصل!

رمّموا الحلقات المفقودة مع الجمهور السُّنّيّ، وحافظوا على حياتهم وأعراضهم وكرامتهم ومُقدّراتهم وأموالهم وإلا فلا يمكنكم منعهم من الهروب ولو نحو المجهول!

dr_jasemj67@