قضايا وآراء

شيخ الأزهر.. بين حفاوة الخارج وتضييق الداخل

تظل مكانة وقوة المؤسسة الأزهرية عصية على تضييق الداخل، وعلى ما يحاك لها من مؤامرات وخنق، لما للأزهر من مكانة في قلب الشعب المصري، وشعوب العالم..
الصور والأخبار التي تنشر عن رحلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، في زيارته لعدة دول خارج مصر، شملت ـ حتى الآن ـ ماليزيا، وإندونيسيا، وتايلند، وكلها كانت على مستوى ملوك هذه الدول ورؤساء وزرائها، حيث كان استقبالهم له استقبالا رسميا، مشمولا بحفاوة ليست تعبيرا عن المنصب الرسمي، بقدر ما هي تعبير عن المكانة التي يتربع الأزهر بها في قلوب الملايين من المسلمين على مستوى العالم.

وهذه المشاهد من الحفاوة البالغة، جعلت الناس في مصر تقارن بين حفاوة الخارج، وتضييق الداخل على الأزهر: مؤسسة، وشيخا، وقد بدأ التضييق على الأزهر منذ رأى عبد الناصر في إحدى رحلاته هذه المهابة التي يلقاها شيخ الأزهر، بما يعد معاملة فوق معاملة الرؤساء والملوك.

فقد كان عبد الناصر في زيارة رسمية لإندونيسيا، وقت أن كان يحكمها أحمد سوكارنو، وقد كان رجلا شيوعيا، وكانت الشيوعية ممكنة في مصر آنذاك، وبخاصة في مجالات الثقافة والفكر، وكان معه في الوفد شيخ الأزهر، ووزير الأوقاف الشيخ أحمد حسن الباقوري، ففوجئ ناصر بأن الجماهير قد احتشدت، وحملت شيوخ الأزهر على رؤوسها، وكانت مكانتهم فوق مكانة ناصر وسوكارنو.

جاء السيسي برؤية إضعاف الأزهر شيخا ومؤسسة، داخليا وخارجيا، فتضييق في الداخل، وخنق لمكانته في الخارج، ولم يلتفت لأهمية الأزهر خارجيا كقوة ناعمة، سوى دولة الإمارات كحليف للسيسي، فقد أصبحت الدول الحليفة تنظر للقوة الناعمة في مصر كمطمع، للاستحواذ عليها، فالسعودية تسعى للقوة الناعمة الفنية، بينما تسعى الإمارات للقوة الناعمة الفكرية والدينية.
يحكي الشيخ الباقوري في مذكراته، أن عبد الناصر حدثه أنه لا بد من الاستفادة من هذه القوة الناعمة للأزهر، لتستفيد الدولة من ذلك في علاقتها الخارجية، هذا ما أعلنه من الانتفاع بالأزهر خارجيا، لكنه بالمقابل عاد ونظر في سر قوة الأزهر وشيوخه، فقرر إلغاء هيئة كبار العلماء، والتي كانت من أهم وظائفها: انتخاب شيخ الأزهر، فقد كان منصبه بالانتخاب لا بالتعيين، ولا يعزل إلا بالموت، أو بالإتيان بما يخالف وظيفته، وهو ما لم يحدث في تاريخ الأزهر، وقام بإجراءات أخرى تكمل على بقية مشروع إضعافه.

فهم عبد الناصر بعقلية العسكري قوة الأزهر الناعمة، فأطلقها لتكون ضمن مشاريع حكمه خارج مصر، ولذا لم تكن تثار مشكلة النيل، إلا وكان للأزهر دوه في حلها، وفي مشكلات أخرى، حيث كان بعض حكام الدول الإفريقية من خريجي الأزهر، وقد كان منهم الرئيس الجزائري هواري بومدين. فعمد ناصر لإضعاف قوة الأزهر الداخلية، مطلقا قوته الخارجية في إطار سلطة الدولة، ففتح باب الابتعاث للأزهر، كما كان من قبل، لكن وسع بعض دوائره.

على خلاف ناصر، جاء السيسي برؤية إضعاف الأزهر شيخا ومؤسسة، داخليا وخارجيا، فتضييق في الداخل، وخنق لمكانته في الخارج، ولم يلتفت لأهمية الأزهر خارجيا كقوة ناعمة، سوى دولة الإمارات كحليف للسيسي، فقد أصبحت الدول الحليفة تنظر للقوة الناعمة في مصر كمطمع، للاستحواذ عليها، فالسعودية تسعى للقوة الناعمة الفنية، بينما تسعى الإمارات للقوة الناعمة الفكرية والدينية.

فرأيناها تضع شيخ الأزهر في مجلس حكماء المسلمين، ومعظم مشاريع الإمارات الدينية، رغم مخالفة الشيخ الطيب لبعض مشاريعها مثل: الديانة الإبراهيمية، ومع ذلك بقيت على علاقته بها، ودعمه، كما ضمت كذلك بعض مسؤولي المؤسسات الدينية كمفتي مصر وآخرين.

الحكم المستبد يضيق بقوة الأزهر، وبقوة المؤسسة المجتمعية، لأنه يبني حكمه وسلطته على إضعاف الجميع، ولا توضع القوة إلا في يده، لأنه يرى كل مؤسسة قوية، وكل مجتمع قوي خصما له، وليس رصيدا يضاف له، ويدعمه ويسنده، حيث لا يملك إلا رؤية واحدة، الحكم المستبد المطلق، وتحويل الجميع لجنود في معسكره، كل تحت قاعدة العسكر المشهورة: أمر، وطاعة، أمر من الحاكم، وطاعة من كل من سواه.
حكى لي شيخنا الدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله، أنه التقى الدكتور أسامة الباز مستشار الرئيس مبارك السياسي، وقد التقيا في أحد المطارات، وتكلم الباز معه عن الأزهر، فنصحه القرضاوي، أن ليت نظام الحكم في مصر، يفعل كما تفعل السعودية مع السلفية الوهابية، فهي تقيد يدها إلى حد ما في الداخل السعودي، بينما تطلق هؤلاء الدعاة في العالم كله، ينشرون مذهبها، ويتحركون، دون تدخل منهم في الداخل السعودي، أو سياستها، فنصحه القرضاوي، بدلا من الصدام أو التضييق على الأزهر، لماذا لا يتبنوا مثل هذه السياسة، وعلماء الأزهر رصيد ضخم، ومخزون استراتيجي مهم لقوة مصر الناعمة، ووعد الباز القرضاوي خيرا، بأنه لا بد من إكمال النقاش، لإنضاج الفكرة، وطرحها في سياق مناسب.

الحكم المستبد يضيق بقوة الأزهر، وبقوة المؤسسة المجتمعية، لأنه يبني حكمه وسلطته على إضعاف الجميع، ولا توضع القوة إلا في يده، لأنه يرى كل مؤسسة قوية، وكل مجتمع قوي خصما له، وليس رصيدا يضاف له، ويدعمه ويسنده، حيث لا يملك إلا رؤية واحدة، الحكم المستبد المطلق، وتحويل الجميع لجنود في معسكره، كل تحت قاعدة العسكر المشهورة: أمر، وطاعة، أمر من الحاكم، وطاعة من كل من سواه.

ولكن تظل مكانة وقوة المؤسسة الأزهرية عصية على تضييق الداخل، وعلى ما يحاك لها من مؤامرات وخنق، لما للأزهر من مكانة في قلب الشعب المصري، وشعوب العالم، لا زلنا كلما ذهبنا إلى بلد ويعرف السائل أننا من مصر، إلا ويقول: الأزهر؟ في دول عربية، وغير عربية، وهو ما يرسخ مكانة الأزهر داخليا وخارجيا، ولم تكن زيارات شيخ الأزهر الأخيرة سوى إعادة لما هو مترسخ في النفوس والقلوب.

Essamt74@hotmail.com