أفكَار

لماذا كان هذا الكتاب "القرآن" القائم الرسول الجامع والخاتم؟ (1 من 2)

فتح القرآن الكريم عهدا جديدا في تاريخ الإنسان عن طريق العلم الذي تعد "القراءة" أولى خطواته ثم تليها الخطوة الثانية وهي الكتابة وأداتها القلم.
إن كل الانبياء والرسل كانت معجزاتهم لقومهم فقط، ولا تلزم غيرهم بأن يؤمنوا بها دون أن يروها وبأن يفهموها، إلا النبي الخاتم الذي يتميز بمعجزة خالدة قائمة حية بعده، تخاطب كل العقول في كل العصور.. وكلما تقدم الإنسان في علمه، وجد القرآن أمامه مثل ظله، وكأن الرسول الخاتم جالس معه بلحمه ودمه، ومن ثم كان الإسلام جامعا ومانعا وصالحا لكل زمان ومكان، ويبقى القرآن مهيمنا على كل الأديان؛ لأنه يخاطب كل إنسان في كل زمان ومكان، كما سنحاول أن نبين ذلك بأمثلة واضحة في هذه السطور، إن شاء الله. وأن من جنود الله الذين يخدمون دينه الحق دون أن يشعروا بذلك، بل ربما هم يقصدون عكس ذلك! وينطبق عليهم قوله تعالى: "وما يعلم جنود ربك إلا هو" (النجم /31).

فقد أفادنا علماء الغرب في مراكز الأبحاث العلمية المتقدمة بتقليص المسافات الزمنية والمكانية، وتوفير الملايين بالعملة الصعبة والسهلة على الباحثين المسلمين، ليتفرغوا لتعقب تلك الاكتشافات والاختراعات المعلن عنها في كل حين من مصادرها الأصلية الموثوقة والموثقة. ثم البحث في المقابل عن الآيات القرآنية المبعرة  التي تنطبق عليها بشكل معجز، لا يدع مجالا للشك بأن القرآن كلام الله المنزل على قلب نبيه الأمي محمد ﷺ، وأن الإسلام هو دين الحق كما ورد في كتابه العزيز: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" (التوبة (33)، وأن الادعاء الساذج لهؤلاء "الدنيويين" الجاحدين لنزول الوحي، واتهام الرسول الأعظم ﷺ بانتحال كتابة القرآن الكريم مع إقرارهم بأميته الشريفة، فإنهم بهذا الادعاء الغبي الذي يهدفون من ورائه إلى إنكار النبوة عليه، فيرفعونه من حيث لا يدرون إلى درجة الألوهية التي يتبرأ هو نفسه منها، بنص ما ورد على لسانه من تبليغ حكيم بأنه لا يعلم الغيب "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير"، (الأعراف / 188) و"قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا"(الإسراء /93)!!

وذلك لكون التنزيل الحكيم والمعجز المثبت بين دفتي المصحف، لا يصدر إلا عن خالق هذا الكون الخبير العليم بخبايا كل شيء. ولا بد أن نشير هنا إلى أن ما نسميه بالمعجزة الخالدة، يعني بالضرورة أن القرآن يظل معجزا بنصه لكل العقول البشرية في كل عصر حتى قيام الساعة، وهو الخليفة الأبدي لخاتم النبيين محمد ﷺ، بصفته آخر الأنبياء من جهة، ولكون القرآن الكريم هو معجزته الوحيدة المقصودة بذاتها في دعوته وتبليغ رسالته إلى العالمين، كما هو معلوم من جهة أخرى "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" (النساء / (165)، وقوله تعالى أيضا: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" (الإسراء/15)، وحتى يكون القرآن هو الرسول الحي الناطق بكل اللغات الناقلة عن لغة الوحي المعصوم والمحفوظ من كل تحريف وتزييف، مصداقا لقوله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر / (9)، كما أن القول بالإعجاز العلمي في القرآن لا يعني إطلاقا أنه كتاب فيزياء أو كيمياء أو علوم طبيعية أو تاريخ أو جغرافيا أو جيولوجيا أو فلك أو ما شابه ذلك، ولكننا في الوقت ذاته، ندعو أي عالم في هذه التخصصات العلمية والمدرسية وغيرها، إلى أن يجد تناقضا ولو صغيرا بين ما هو منصوص عليه في القرآن صراحة، وما ثبتت صحته بالتجربة في مجال العلوم الدقيقة المذكورة وغير المذكورة.

القرآن بهذا المعنى، ليس كتابا علميا مدرسيا أو جامعيا كما يتوهم بعض السذج المجادلين بغير علم، وإنما هو كتاب محكم فيه إشارات إلى هذه المجالات، وغيرها مما هو معروف وما لم يعرف بعد، مصداقا لقوله تعالى العليم الخبير: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق".
وهذه الحقيقة هي نفسها التي أكدها أيضا العالم والطبيب الفرنسي الدكتور "موريس بوكاي في كتابه الموضوعي المقارن، وهو الباحث النصراني (بين العلم والتوراة والإنجيل والقرآن)، الذي أثبت فيه التناقض الصارخ مع الحقائق العلمية والتاريخية بالنسبة للكتابين الأولين "المحرفين"، إلا القرآن الكريم الذي يعترف بكل موضوعية وتجرد وشجاعة وهو الطبيب الكاثوليكي، أنه لم يجد فيه أي تناقض كما قلنا، ومن ذلك ـ مثلا ـ تأكيده ما ورد فيه عن فرعون موسى الذي مات غرقا، كما أثبت ذلك من تحليل موميائه المعروضة في المتحف المصري، وهذا مصداقا لقوله تعالى: "فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية" (يونس (92)، وهو ما دعاه إلى إعلان إسلامه في أخريات حياته كما يقال، وأنا أعرفه شخصيا في ملتقيات الفكر الإسلامي في الجزائر، وسألته مرارا عن اعتناقه للإسلام، ولكني لم أجد منه جوابا صريحا مقنعا لي بصحة ذلك (وهذه شهادة أقولها للتاريخ، ومن عنده قول آخر موثق فليفدنا به، والرجل الآن عند ربه)، وهو عكس الدكتور رجاء جارودي رحمه الله الذي كان يصلي معنا في كل أيام الملتقى.

إذن، فالقرآن بهذا المعنى، ليس كتابا علميا مدرسيا أو جامعيا كما يتوهم بعض السذج المجادلين بغير علم، وإنما هو كتاب محكم فيه إشارات إلى هذه المجالات، وغيرها مما هو معروف وما لم يعرف بعد، مصداقا لقوله تعالى العليم الخبير: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق".

وقد حدث ذلك حقا وصدقا على امتداد العصور المتتالية لنزول القرآن، والأمثلة بالعشرات حتى الآن كما هي مثبتة وموثقة من باحثين وعلماء (مسلمين وغير مسلمين) في المؤتمرات العالمية للإعجاز العلمي، المنعقدة تباعا في النصف الأخير من القرن الماضي وحتى الآن، في أن ما فيه من إشارات عامة إلى حقائق الكون وأصل الوجود والخلق  كـ "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت" (الغاشية /2017) و"قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، ثم الله ينشئ النشأة الآخرة، إن الله على كل شيء قدير"، العنكبوت / (20)، إلى غير ذلك من مئات الأمثلة، لم يحدث أن تناقضت هذه الآيات في أية جزئية من جزئياتها مع ما اكتشفه العلم التجريبي، في أي مجال من مجالات الحياة المعرفية القطعية الصحة والثابتة حتى الآن، مما يجعلها معجزة للعلماء بصفة خاصة، وهم ورثة الأنبياء المكلفون بتبليغها للناس، وكأنها وقعت في اليوم الذي اكتشفت فيه، مهما يكن عصر ومصر هذا الاكتشاف حاضرا أو مستقبلا.

وهو ما يعطي صفة الديمومة والتجدد لهذه المعجزة عبر كل العصور؛ لأن القرآن لا تنتهي عجائبه كما هو معلوم في إظهار حقائقه مع التطور البشري، تمشيا مع كل الاكتشافات التي يعترف أهلها دائما، وبكل تواضع، أنهم ما يزالون يسبحون على ضفاف بحر العلم لمعرفة ما في هذا الكون من قوانين وعجائب المخلوقات، وأن ما يعرفونه منه لا يتجاوز النزر اليسير مما يجهلونه.

ومن آيات هذا القرآن العجيبة حقا، التي تؤكد هذا القول، أنها تأتي في لفظها الواحد جامعة للعديد من المعاني التي تصلح لمخاطبة العقل البشري حسب تطوره في الزمان، مثل الإشارة الضمنية إلى كروية الأرض: "والأرض بعد ذلك دحاها" (النازعات (30) و"الأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج" (ق 7)، التي تعني بكل تأكيد عند التمعن فيها أن الأرض كروية الشكل؛ لأنها في كل مكان ممدودة أمام البصر، وهو ما يعني بالضرورة انتفاء وجود حواف لها، ولا شك أن امتداد الشيء مع خلوه من الحواف لا يكون إلا في الشكل الكروي، وبهذا خاطب القرآن كما هو واضح كل العقول في كل العصور بالحقيقة كما هي دون تناقض، وأننا نجزم أنه لو صرّح القرآن في أول وهلة للبدوي العربي الأمي في الثلث الخالي أن الأرض مستديرة (كالبطيخة)، لما دخل أحد من هؤلاء في الإسلام وقتها؛ لأن مثل هذا القول الصريح قبل اختراع التليسكوب في القرن السادس عشر، يتناقض مع المشاهدة الحسية المباشرة تناقضا صارخا.

كل إنسان مهما يؤت من العلم والمعرفة باللغة العربية، يجد في القرآن ما يثبت له بالملاحظة والتجربة أن ما أخبر به النبي الأمي ﷺ حق، وكأنه نزل اليوم على العالم المكتشف لأي حقيقة من حقائقه التي لا حصر لها.
ومثلها أيضا آية الحديد المبهرة حقا: و"أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز"، الحديد (25)، التي تعني الخلق والإنزال في الوقت نفسه، ولقد ظل المفسرون منذ 14 قرنا يشرحونها بالخلق إلى الثمانينيات من القرن العشرين، عندما أثبت العلماء من غير المسلمين أن كل ذرة من ذرات الحديد الموجود في جسم الإنسان (داخل الكريات الحمراء) وفي باطن الأرض وكل طبقاتها، هو منزل من مسافة تقدر بملايير السنوات الضوئية، حيث تكون في حرارة تقاس بمئات الملايين من الدرجات، وبهذا يأتي العلم التجريبي ليؤكد المعنى الحرفي الثاني للآية، دون أن يتناقض مع المعنى الأول، السائد منذ قرون في لسان العرب، وفي التفاسير المختلفة (...).

ولهذا الغرض، نجد القرآن يزخر بهذه الآيات الحمالة الأوجه والمعاني دون تناقض، التي يمكن أن تكتب عشرات المجلدات حولها في ضوء ما أثبته التطور العلمي لبعض معانيها في الوقت الحاضر، وهو ما نحن بصدد الإشارة إليه هنا (للتذكير فقط وليس للحصر؛ لأن المجال لايقبل الحصر أبدا، وأن القران لا تنتهي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد إلى قيام الساعة).

وبهذا، يكون كل إنسان مهما يؤت من العلم والمعرفة باللغة العربية، يجد في القرآن ما يثبت له بالملاحظة والتجربة أن ما أخبر به النبي الأمي ﷺ حق، وكأنه نزل اليوم على العالم المكتشف لأي حقيقة من حقائقه التي لا حصر لها، كما قال تعالى: "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا" (الكهف/109).

وهكذا، فتح القرآن الكريم عهدا جديدا في تاريخ الإنسان عن طريق العلم الذي تعد "القراءة" أولى خطواته، ثم تليها الخطوة الثانية وهي الكتابة وأداتها القلم، وليس هناك وسيلة أو أداة في مستوى أهمية القراءة والكتابة لتحصيل العلم وتحصينه ونقله إلى الأجيال، ومن ثم وقع التنبيه عليهما من أول نزول الرسالة كعنوان عليها.