كشفت حرب إسرائيل الحالية على
غزة، عن تحول
مذهل في اتجاهات
الرأي العام الغربي، فقد شهدت جميع المدن الكبرى في الولايات
المتحدة وأوروبا، مظاهرات حاشدة تدين إسرائيل، وتعلن تعاطفها التام مع
الفلسطينيين، ليس فقط لأنهم يتعرضون لعدوان وحشي، ولكن لأنهم محرومون من العيش في
وطنهم، مما يعني أن شرائح واسعة في الغرب، لم تعد تكتفي بإدانة الحرب، بل رجعت
بالذاكرة إلى أربعينات القرن العشرين، وصارت ترى أن قيام إسرائيل على أرض فلسطين،
هو الخطيئة الكبرى التي تناسلت منها خطايا إسرائيل اللاحقة.
ولكن الغرب الرسمي، أي الحكومات، ما زال
يوالي إسرائيل في المنشط والمكره، وبلغت تلك الموالاة حد السخف في كندا، حيث صار
التعاطف مع غزة جريمة عقابها الفصل من العمل الحكومي، وإغلاق الحساب المصرفي،
بينما بلغ السقوط الأخلاقي بمايك بنس نائب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب،
درجة أن وضع توقيعه على قذيفة صاروخية قبل إطلاقها في اتجاه غزة، على أمل أن يؤدي
ذلك لانطلاقة صاروخية له كمرشح للرئاسة في بلاده، التي تتحكم الأموال ووسائل
الإعلام اليهودية، في مصائر من يصبون للوصول إلى كراسي الحكم.
ظلت الشعوب الغربية تخضع لعمليات غسل أدمغة
ذكية على مر عقود طوال في سياق هندسة وبرمجة المجتمعات، تقف وراءها الحكومات
الخاضعة لسطوة أصحاب رؤوس الأموال، ومالكي كبريات وسائل الإعلام، فنشأت عقلية
القطيع الذي يساير الراعي في بلد مثل الولايات المتحدة، حيث يعتبر كثيرون إسرائيل
ولاية أمريكية، والدفاع عن سياساتها وغزواتها ونزواتها فرض عين، ولكن السنوات
الأخيرة شهدت طفرة في ديمقراطية المعلومات، فبظهور الأنترنت وأجهزة الاتصال
الحديثة الذكية، خرج الملايين في جميع البلدان من بيت طاعة القنوات التلفزيونية
العملاقة من شاكلة بي بي سي، وسي إن إن، بعد أن صارت المعلومات والأخبار مبذولة في
منصات التواصل الاجتماعي، من شاكلة فيسبوك وإنستغرام وإكس (تويتر سابقا) وتك ـ توك
ويوتيوب، فكان ما نشهده اليوم من تعاطف كاسح مع الشعب الفلسطيني في مواجهة آلة
الحرب الإسرائيلية، بل إن وسائل الإعلام البديلة هذه كشفت سوءات النظام السياسي
الغربي ليبراليا كان أم محافظا، وعرَّت نفاقه عندما يتشدق بحقوق الإنسان والحريات
والسلام العالمي.
عندما تفجرت الأوضاع في فلسطين المحتلة
بعملية طوفان الأقصى في 7 تشرين أول/ أكتوبر من العام الماضي، كانت قنوات التلفزة
الغربية العملاقة هي الأقدر على نقل الوقائع بحكم وجود مراسليها وكوادرها على
الأرض، فكان أن تعالى الصراخ حول استهداف كتائب القسام لكبار السن واغتصاب النساء
وذبح الأطفال في إسرائيل، فثارت ثائرة الشعوب الغربية في انسجام مع غضبة حكوماتها.
صمود غزة في وجه جيش ترتيبه التاسع دوليا، من حيث القوة والعدد والعدة، عاد على القضية الفلسطينية بالمزيد من التقدير والتأييد
وشيئا فشيئا نجح نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي في دخول المشهد وتغطية الأحداث،
فكان أن عرف العالم بأجمعه بشاعة ما تقترفه إسرائيل في غزة، ومن ثم صار الحكم على
ما يجري، يتم بموجب الضمير الإنساني، استنادا إلى شهود عيان وليس بموجب ما تردده
قنوات بي بي سي، وسي أن أن وفوكس وغيرها، بل إن مصطلحات مثل النكبة والانتفاضة
والنكسة والتمييز العنصري عادت إلى الظهور بقوة
فكان ذلك "تأصيلا" للقضية الفلسطينية، بإعادتها إالى المنصة
الأساسية، وهو قيام دولة لليهود على حساب أصحاب الأرض الفلسطينيين.
هناك من يرى أن الحكومات الغربية ظلت وستظل
تساند إسرائيل مهما اشتطت في العسف والقصف والنسف، لأن إسرائيل مخلب قط للغرب
الساعي لتفكيك الدول العربية، والاستيلاء على مقدراتها!
ولأن الغرب يريد التكفير
عن الذنب الذي اقترفه بحق اليهود عبر القرون، وفي هذا بعض الصحة، ولكن وفوق ذلك
كله فإن إسرائيل ظلت تقف في خط الدفاع الأول عن المعسكر الغربي الرأسمالي، في حربه
الباردة والساخنة ضد الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، ومن ثم كان الزواج
الكاثوليكي بين دول الغرب وإسرائيل، الذي تم تمتينه بمؤسسات مشتركة، ومن ثم فلا
عجب في أن نسمع لغة ساقطة أخلاقيا من الحكومات الأمريكية والبريطانية والفرنسية،
تدعو إسرائيل إلى ضبط النفس، وليس إلى وقف
العدوان على غزة، وإلى وقف العمليات
البرية ضد غزة والاستعاضة عنها بضربات بالقذائف فائقة الدقة، ولا بواكي في العواصم
الغربية على عشرات الآلاف ممن صرعتهم وجرحتهم آلة الحرب الإسرائيلية، رغم تعالي
صيحات الاستغاثة والاستنكار الغاضبة من شهود عيان دوليين عدول، يشاطرون أهل غزة
ويلات الحرب، ولا يمكن اتهامهم بالانحياز الأعمى للجانب الفلسطيني.
صمود غزة في وجه جيش ترتيبه التاسع دوليا، من حيث
القوة والعدد والعدة، عاد على القضية الفلسطينية بالمزيد من التقدير والتأييد، فها
هي الحرب تدخل شهرها الرابع، وها هي حكومة نتنياهو تستغيث بالغرب ليمدها بالسلاح،
مما يعني أنها صبت جُلّ ما في ترسانتها على غزة دون أن تؤتي أُكْلها المرجو، وكما
يقول الكاتب الإسرائيلي ناحوم برنيع فإن أعضاء الحكومة الإسرائيلية يقاتلون من أجل
بقائهم السياسي، ومن ثم فقد يدفعهم اليأس والخوف من اتساع رقعة الرفض الشعبي
العالمي لجرائمهم في غزة، إلى استخدام أسلحة محظورة دوليا.