يمكن القول إن الدول العربية التي نجحت فيها الثورات
بطريقة سلمية في التخلص من رأس الأنظمة المستبدة وحصل فيها انتقال مؤقت للسلطة قد
فشلت بعد ذلك في استكمال المسار الثوري، ونجحت الثورات المضادة في استعادة زمام
الأمور كما حصل في
مصر وتونس رغم الفارق بين البلدين في حجم ومقدار الخسارة في
صفوف التيار الثوري، لكن النتيجة واحدة وهي عودة الحكم العسكري في مصر، وعودة
الحكم الشمولي في
تونس، ولم يعد هناك أفضلية لأي من النموذجين أو المسارين،
فالنتيجة ماثلة أمام الجميع بهزيمة الخط الثوري مع الفارق في فرص نجاح تجدد
الثورة
واستعادة المسار الثوري في المستقبل القريب.
إسقاط الثورات
من السهل ادعاء الحكمة بأثر
رجعي، لكنها محاولة للاعتبار السياسي. المتتبع للحالة المصرية والحالة التونسية
يجد أن الظروف المحيطة بالثورة كانت متشابهة إلى حد كبير، وأن النتائج النهائية كانت
بالمحصلة متشابهة وإن كانت بأشكال مختلفة ووسائل مختلفة ونتائج مختلفة من حيث حجم
الخسارة ودرجة الانزلاق، فبينما كان سقوط الثورة في مصر حرا ومباشرا بالضربة
القاضية كانت الثورة التونسية تسقط على طريقة الانزلاق طويل الأمد.
المتتبع للحالة المصرية والحالة التونسية يجد أن الظروف المحيطة بالثورة كانت متشابهة إلى حد كبير، وأن النتائج النهائية كانت بالمحصلة متشابهة وإن كانت بأشكال مختلفة ووسائل مختلفة ونتائج مختلفة من حيث حجم الخسارة ودرجة الانزلاق، فبينما كان سقوط الثورة في مصر حرا ومباشرا بالضربة القاضية كانت الثورة التونسية تسقط على طريقة الانزلاق طويل الأمد
في الثورة المصرية سرعان ما
كان الانقسام السياسي بين قوى الثورة على أشده، حاول كل طرف من الأطراف السياسية أن
يستعين بالعسكر على شركاء الثورة، فوجدنا بعض القوى الثورية تتهم الإخوان بالتحالف
مع العسكر ضدهم في أحداث محمد محمود، بينما ذهبت معظم القوى العلمانية اليسارية
والليبرالية للتحالف مع العسكر في أحداث 30 يونيو فيما عرف بجبهة الإنقاذ؛ واصطفت خلف الانقلاب وشرعنته
سياسيا؛ قبل أن يكتشفوا أنهم جميعا أصبحوا أهم ضحاياه، وأن العسكر الشرهين للسلطة
قد التهموا كامل الكعكة وتركوهم خارج المشهد فأنهوا كل ما يتعلق بالثورة والمسار
الثوري وخيار الشعب.
ذات المشهد تكرر في تونس، إذ
سرعان ما كانت الخلافات بين النهضة الإسلامية والقوى اليسارية على أشدها، تلتها
بعض الاغتيالات السياسية التي اتهمت فيها القوى اليسارية حركة النهضة وهو ما رفضته
النهضة، وحصل انقسام طولي في الشارع السياسي، إلا أن استقالة حكومة النهضة الأولى
والثانية والذهاب إلى اتفاق الشيخين السبسي الغنوشي قد نزع فتيل الأزمة وأعطى
للثورة فرصة للنجاة، لكن الفرصة أُهدرت بعد ذلك.
كما كان للخطاب السياسي للقوى
الثورية في مصر، الذي غيّب الخطاب البرامجي واستحضر الخطاب الشعبوي، الدور الكبير
في سقوط الثورة.. قوى الثورة وعدت الناس بالسمن والعسل وتم تصوير الثورة كالعصا
السحرية وأداة سريعة لجلب الرفاه والحياة الكريمة إلى الشعوب، فكان أبرز تجليات
هذا الخطاب ما عُرف بالباروميتر لـ100 يوم الأولى من حكم مرسي. وتم التماهي مع هذه
الحالة ثوريا لكن سرعان ما ارتطم الجميع بواقع أن الحكم وإدارة الدولة وتشابك
العلاقات الدولية ومصالحها والدخول في التفاصيل؛ أمر معقد يحتاج إلى جهود متواصلة
وعقود من العمل الجاد والمثمر للنهوض بالبلد، فارتدت رصاصات الشعبوية نتيجة لهذا
الخطاب على رجال الثورة، وتم استخدام الشعبوية الرخيصة من قبل العسكر الذين صوروا
للناس بخطاب شعبوي آخر؛ أن هناك من يريد خطف هويتهم الوطنية من خلال ترويج ما عُرف
بأخونة الدولة والجيش، وإثارة مخاوف الشعب المصري على عقيدته من خلال استغلال
العسكر للحركة السلفية في التخوف من التشيع، فاغتنم العسكر الفرصة، ومن خلال
المؤسسات وأذرع الدول العميقة الإعلامية، في ترويج هذا الخطاب الشعبوي، مما دفع ببعض
الشعب إلى الشارع في 30 يونيو وتم استثمار هذه الحالة في إسقاط الثورة والانقلاب عليها.
المشهد في تونس كان مختلفا
قليلا، فالشعب التونسي تعلم من خطأ الشعب المصري فتجربة العسكر كانت ماثلة أمامه، وأعطى
للثورة ورجالها فرصة وعقدا من الزمان، لكن كان لوجود الحكومات الائتلافية وعدم
وجود حكومة أغلبية، والذهاب إلى فكرة المحاصصة في تقاسم السلطة؛ السبب الرئيسي في
عجز الثورة عن تحقيق أي تقدم مؤثر يذكر فيما يتعلق باحتياجات الناس وضرورات معاشهم
ورفاههم، فاستغل الرئيس سعيد هذا المناخ لتقديم خطاب شعبوي صوّر فيه للناس أن
الفساد هو سبب العثرة في نجاح بلدهم وتقدمها، وقدم نفسه على أنه القادر على تحقيق
ذلك فتقدم الرجل القادم من العدم السياسي انتخابيا بطريقة فاجأت الجميع، وصوت
الشعب التونسي تصويتا عقابيا ضد رجال الثورة لعجزهم عن تحقيق الرفاه والرخاء للناس،
ليستغل سعيد هذه الحالة ويفكك مؤسسات الثورة ومكتسباتها التي قامت على مبدأ تقاسم وفصل
السلطات، ويؤسس لجمهورية الرجل الواحد ويجعل كل مؤسسات الدولة في قبضته.
في الوقت الذي كان للعسكر دور
محوري ورئيسي في الانقلاب على الثورة وإنهاء وجودها في مصر من خلال التدخل المباشر
واستغلال مظاهرات 30 يونيو، لم يكن الجيش التونسي بذات
الظهور. وقد يعود ذلك لدور الرئيس التونسي الراحل بورقيبة عندما أسس الدولة
التونسية الحديثة وبنى الدولة على فكرة إضعاف دور الجيش في الحياة السياسية، وهذا
ما يفسر ابتعاد العسكر التونسي خلال عقد من الثورة عن التدخل بأي صراع مع وبين قوى
الثورة، لكن العسكر استغلوا الفرصة بوجود رئيس منتخب بأغلبية غير مسبوقة وأعطوه
الضوء الأخضر بإنهاء وتفكيك مؤسسات الثورة، وبذلك ولد الصندوق التونسي عدوه بمشهد
يذكرنا بما قام به هتلر الذي جاء عبر الصندوق والذي أنهى الحياة
الديمقراطية في ألمانيا
وأحرق مجلس النواب في القرن الماضي، لتتكرر المقولة مرة أخرى في العالم العربي بأن
"أسوأ الدكتاتوريات هي التي تولد من رحم الصندوق".
الطريق الثالث
بعد أن تكشفت نتائج الطريق
الذي سلكته الثورة المصرية في الاحتكام للصندوق فقط، وحاولت القوى الثورية أن
تستقوي على بعضها البعض بالاستعانة بالعسكر فخسر الجميع، وبعد أن ثبت من خلال
التجربة التونسية أن سياسة التدرج في الثورة والقبول بالدولة العميقة والتعامل
معها والخضوع لابتزازها والتحالف معها أحيانا أخرى، وغياب الحس الثوري.. خطأ
هذا المنهج؛ وإن كان هذا النهج قد أطال عمر التيار الثوري بالسلطة لكن بالنهاية
سقطت الثورة وتم تفكيك مكتسباتها ونجحت الثورات المضادة، فهل هناك من طريق ثالث
يمكن اللجوء إليه لضمان نجاح الثورات وصد الثورات المضادة؟
بكل تأكيد الجواب نعم، لكن الطريق
الثالث لا يعتمد على سلوك قوى الثورة بعد الثورة فحسب، وإنما المزج ما بين سلوك
القوى الثورية ما قبل الثورة وبعدها. وأهم معالم هذا الطريق:
أولا: ما قبل الثورة، تعظيم فكرة
الديمقراطية في نفوس الشعوب. وليكن الأمر واضحا لدينا أن القوى التي تصدرت المشهد
الثوري انحصرت في القوى اليسارية والقوى الإسلامية وقليل من القوى الليبرالية.
فالقوى الإسلامية بقيت حتى قيام الثورات متشككة في الديمقراطية ولديها جدل كبير
حول المشروعية الدينية للديمقراطية، حتى أن بعض القوى الإسلامية الأخرى كالحركة
السلفية كانت تعادي الديمقراطية وتحرض عليها بشكل علني وانحازت للانقلاب في مصر بشكل
فج وعميق. كما أن القوى اليسارية عاشت وتربت على إرث فكري تاريخي طويل يبتذل
الديمقراطية ويعتبرها أداة من أدوات الاستعمار ويعتبر الديمقراطية ترفا سياسيا في أفضل
الأحوال، وكذلك الأمر بالنسبة للتيار الليبرالي الذي عاش في الوطن العربي للنضال
من أجل الحريات الشخصية وأهمل الحريات السياسية..
كل هذه الأجواء جعلت المجتمع والشعب
فقيرا في الثقافة الديمقراطية فضعفت في نفوس الشعوب العربية أهمية الديمقراطية
وقدسيتها في الحياة السياسية. لقد زهدت القوى السياسية بالديمقراطية فزهد بها
الشعب عندما لوحت الثورات المضادة للشعوب بالخطاب الشعبوي، فالديمقراطية لم تكن شيئا
مقدسا لدى القوى الثورية وكما لم يتربّ أتباعها وأبناء الشعب على أنها المسار
الاستراتيجي والوحيد للنهوض وتداول السلطة.
هذه الأجواء جعلت المجتمع والشعب فقيرا في الثقافة الديمقراطية فضعفت في نفوس الشعوب العربية أهمية الديمقراطية وقدسيتها في الحياة السياسية. لقد زهدت القوى السياسية بالديمقراطية فزهد بها الشعب عندما لوحت الثورات المضادة للشعوب بالخطاب الشعبوي، فالديمقراطية لم تكن شيئا مقدسا لدى القوى الثورية وكما لم يتربّ أتباعها وأبناء الشعب على أنها المسار الاستراتيجي والوحيد للنهوض وتداول السلطة
ثانيا: ما قبل وبعد الثورة. يجب
تبني خطاب واقعي يرذّل الخطاب الشعبوي ويعريه في نفوس الشعب، بما يوعّي ويحذر من
هذا الخطاب وخطورته على المسار الثوري وفرص نجاحه. للأسف وقعت جميع القوى الثورية
قبل ثورات الربيع العربي وبعدها في تقديم خطاب شعبوي يثير مخاوف الناس حول هويتهم
الوطنية وهويتهم الدينية، ويعدهم بتحقيق الرفاه والنمو بالعصا السحرية، وغاب
الخطاب البرامجي الواقعي الراشد. إذ كان للخطاب الشعبوي الأثر السلبي الكبير فاستطاع
أنصار الثورات المضادة أن يستخدموا ذات السلاح ويوجهوه إلى صدر الثورة ورجالها،
فخرج الشعب ليطلق رصاص الشعبوية على صدر الثورة ورجالها بعد أن استخدمته الثورة المضادة
ببراعة وكفاءة عالية أكثر مما استثمرته التيارات الثورية في مواجهة الأنظمة
المستبدة.
ثالثا: ما بعد الثورة. كان لا
بد لنجاح الثورات وحمايتها بناء قوات الحرس الديمقراطي، فمن الملاحظ أن الجيش في
مصر تدخل بشكل مباشر في إنهاء الثورة، والجيش في تونس حمى ودعم خيار إجهاض الثورة بالتوافق
مع الرئيس، وما كان للثورات المضادة أن تنجح لولا تدخل ودعم الجيش، فيما غاب عن
القوى الثورية بعد الثورات ضرورة إقامة تشكيلات عسكرية نظامية تكون مهمتها حماية الديمقراطية
والحياة السياسية من أي محاولة لاستخدام القوة في إجهاض الديمقراطية وخيار الثورة.
غياب مثل هذه التشكيلات المسلحة النظامية والرسمية بعد الثورة جعل ثورات الربيع
العربي عرضة لابتزاز الجيش وتدخله في مسارات الثورة ومصيرها، وطمعه في السلطة والاستحواذ
عليها.
الثورات لا تُستدعى من أحد،
ولا تنتظر أحدا، فمتى ما أتمت الثورة حملها وشروطها وجاءت اللحظة التاريخية؛ يأتي
المخاض الثوري في ساعة سريعة خاطفة، لكن المهم أن تكون القوى الثورية قد وعت الدرس
وتعلمت واعتبرت من سوء التجارب السابقة.