يخرج يوآف غالانت بصورة شبه يومية ليكرر ويؤكد هدف القضاء على حركة
حماس، وذلك دوره السياسي، فالسياسيون يمكنهم أن يطلقوا وعوداً غير واقعية من غير تردد، أما من خبرته العسكرية فيفترض أنه يعرف قبل غيره أن الهدف الذي يعلنه غير واقعي ومتعذر بالكامل، فالحركة نتاج عضوي للحالة
الفلسطينية. في الفيلم الشهير «الإرهاب والكباب» وبعد الاتفاق على خروج المحتجزين في مجمع التحرير، يخرج بينهم الخاطف عادل إمام. لا يتوجه أحد إلى أجهزة الأمن ليخبرهم عن شخصيته، ولا يوجد ما يدفعهم للتشكك في شخصيته، فهو يشبه المحتجزين، ويحمل همومهم نفسها، ومع الوقت، تفهمونه وتشاركونه أزمته، وإلى حد كبير يمكن توصيف المشهد الفلسطيني وموقع الحركة منه.
كيف يمكن فرز حركة حماس خارج الكتلة الغزية بشكل عام؟ وهل توجد حماس واحدة من الأساس؟ ما نعرفه مبدئياً هو وجود جناح سياسي وآخر عسكري، وأدوار كثيرة، وتحديات متتابعة وكبيرة، تجعل الحديث عن هرمية واضحة في تسيير الحركة أمراً مستبعداً، وبالتالي، فالحركة ليست جيشاً نظامياً ولا حزباً سياسياً، ولكنها حالة كاملة تتفاعل بصورة مستمرة ومتواصلة.
في الحروب التقليدية، ومن أهم الشروط والافتراضات، هو إمكانية إعلان الاستسلام من قبل الأطراف المتحاربة، اليابان وألمانيا، فعلتا ذلك في الحرب العالمية الثانية، وفي حالة الحرب الجارية في قطاع
غزة وعليه، فحركة حماس لا يمكنها أن تفعل ذلك، مقاتلوها من الشباب الفلسطيني الذين تشكلت ذاكرتهم وتطور وعيهم تحت الحصار، وفي ظروف عملت على انتهاك الإنسان الفلسطيني لن يقبلوا، وأي فكرة للخروج ستكون من منطلق الهدنة قصيرة أو طويلة المدى. المنتج العضوي في علوم الزراعة يعني الاعتماد على البيئة الخام، وتجنب المدخلات الصناعية المستحدثة وغير الطبيعية، وهذا وصف ينطبق على حركة حماس، أكثر من أي تنظيم فلسطيني آخر، فالثورة الفلسطينية نشأت من فلسطينيي الخارج والشتات، وكانت تدور ضمن الحسابات الثقيلة التي يحملونها على أكتافهم، بدايةً التوظيف من الدول العربية والاستقطابات الأيديولوجية، وكان عليهم أن يتعاملوا مع التقلبات المختلفة، فمن جمال عبد الناصر، الذي كان يعتبرهم جزءاً من مشروع أوسع ويساندهم سياسياً، إلى حسني مبارك الذي أجبر ياسر عرفات على الهواء مباشرة على توقيع اتفاقية تحمل مفاجآت غير مرغوبة للفلسطينيين، كما عملت (إسرائيل) على قصف الأغصان الأكثر فعالية في هذه المنظومة من حادثة الفردان 1973 إلى الاغتيالات المتواصلة التي استهدفت جميع التنظيمات، وصولاً إلى اغتيال خليل الوزير وصلاح خلف بدورهما الكبير في إعادة بناء تواصلية الشعب الفلسطيني في الخارج والأرض المحتلة. وخارج استراتيجية الاغتيالات، أتت سياسة الإقصاء لرجال مثل فاروق القدومي لتصبح الأرضية خالية أمام المقبولين دولياً و(إسرائيلياً) من أجل تشكيل بنية السلطة الوطنية، التي أحدثت تشويشاً على المشروع الفلسطيني بما حازته مما يمكن وصفه (ما يشبه الشرعية)، و(الأمر الواقع) و(احتكار التمثيل المؤسسي)، مقابل، المشروع الواسع الذي يتضمن ملفات كثيرة ومتداخلة من أهمها، وجود دولة حقيقية لا تنحصر أدوارها في تقديم وظائف متناسبة مع (إسرائيل)، وحق العودة والتعويض للاجئين، باستخدام واو العطف وليس أو التخيير. ظهرت حركة حماس في الانتفاضة الأولى، وعلى الرغم من مرجعيتها الإسلامية، إلا أنها كانت تمثل جانباً من العرض السياسي العام، وأمامه طلب واسع من شباب فلسطيني يرى المظلومية تتفاقم والحلول تتواضع، والشاب نفسه الذي كان يرتدي الكوفية الحمراء ليردد شعارات الجبهة الشعبية، وجد حماس لتكون الإجابة التي يبحث عنها، لأن الجبهة كانت وقتها تعاني من الارتدادات الخاصة بتراجع الأيديولوجية التي تتبناها مع انهيار الاتحاد السوفييتي، والشاب الذي انتمى لحماس وضع أمامه أجندتها المقاومة قبل صبغتها الإسلامية، ففي قطاع غزة توجد حركات سلفية متعددة الأطياف نازعتها الخطاب الإسلامي، وقامت الحركة بتحييدها وأحياناً ضربها بعنف كما فعلت مع جماعة جند الله.
يبدو الهدف المعلن من غالانت عبثياً، لأنه لا يعني حتى معنى البتر، فيمكن بتر يد أو قدم أي شخص مع بقائه على قيد الحياة، ولكن حماس أبعد من ذلك في تجسداتها الفلسطينية، وحتى في حالة تراجع الحركة والعمل على تذويبها ستظهر حركة أخرى لتستقطب الغضب الفلسطيني وتوظفه، لأن الظروف الموضوعية التي أنتجته قائمة ومتواصلة، وهو الأمر الذي لا يفهمه رجال السياسة الذين يعتقدون أن العالم سينتهي بمجرد أن يغادروا مناصبهم، ولا يفكرون إلا في الانتخابات المقبلة ويحاولون تصنيع العالم بصورة مواتية لتعزيز فرصهم الانتخابية. هذه المرجعيات الذهنية التي تصنع تفكير نتنياهو وغالانت ولبيد وغيرهم، لا تنطبق على حركة حماس في الطرف المقابل، أما في حال طلبت النصيحة الاستراتيجية من أجل تحييد الحركة، فالإجابة بسيطة، العدل والحرية والأمن للفلسطينيين، بذلك يمكن أن تتراجع المقاومة العضوية ويبدأ الفلسطينيون في عيش حياة طبيعية مثل أي شعب آخر لتصبح همومهم متعلقة ببناء الجسور والمجمعات التجارية وضبط أسعار الفواكه في الأسواق، أما أن تحاصرهم صورة جنود
الاحتلال يفتشون أجساد فتيات فلسطينيات بصورة تحمل تحرشاً جنسياً رخيصاً، فهذه ورقة أخرى تضاف إلى قضية ستتواصل لأجيال قادمة، ولا يمكن لحلول جزئية مثل الاقتصاد والتطبيع أن تعمل على تقديم أي نتائج مستدامة، لأن المطلوب هو تطبيع حياة الفلسطينيين بالدرجة الأولى.
لا يمكن اقتلاع حماس، أو القضاء عليها، ببساطة، لا تشكل حماس سوى كريات الدم البيضاء التي تتكاثر لمواجهة البكتيريا والفيروسات التي تدخل الجسم، وحماس ليست يداً أو قدماً يمكن بتره كما ذكرنا، فهل تسعى إسرائيل إلى تصفية الشعب الفلسطيني؟ وهل تستطيع، ودماؤه موزعة على قارات العالم كلها، ومناصروه يزيدون مع صور العنف الدموي والفاجر الذي تمارسه دولة الكيان المأزومة وجودياً وأخلاقياً وسياسياً.
(القدس العربي)