يبدو الجميع عالقا في الحرب على
غزة، لا أحد يستطيع أن يتخذ قرارا بالتراجع، أو يضع على الطاولة أي مبادرة قابلة للتطبيق، فنهاية الحرب تعني الإطاحة بالكثير من الرؤوس، وفي عالمٍ يتحسس فيه الجميع رأسه، من الصعب أن يتخذ أي قرار على أرضية العمل الإنساني، من أجل وقف المجزرة التي تجري في قطاع غزة.
تبدو إسرائيل الغريق الذي لا يخاف من البلل بعد أن عبرت الخطوط الحمر كلها، ولم يعد ثمة فارق جوهري بين 25 و30 أو حتى 50 ألف ضحية بين المدنيين، والعالم أصبح متآلفا مع الأطفال المرتعشين من تحالف الجوع والبرد والخوف على أجسادهم الصغيرة، ولا تفجعه صورة الأطفال الذين يلتحقون بعالم الإعاقة من مداخل كثيرة، بتر الأطراف أوضحها، يمكن تحسسه وقياسه، ولكن داخل نفسيات الأطفال والمراهقين تتمدد الإعاقات النفسية، التي لا يمكن تحديد المدى الذي ستتوقف عنده. في المقابل، لا تمتلك حماس أي استراتيجية تهدئة مناسبة، فهي لا تمتلك طاولة التفاوض، وليس من المؤكد أن تكون طرفا في تفاوض حقيقي من ذلك النوع الذي يمكن أن ينهي الحرب، ولكنها في الوقت نفسه، لا يمكن أن تقنع بالعودة إلى المقاعد الخلفية، لتترك قراراتها عند أي جهة أخرى، بل لا يبدو أن أي جهة أخرى تريد أن تتولى المزيد من المسؤوليات نيابة عن حماس.
ما الحل؟ وما هي الاستراتيجية للخروج من المأزق؟
تتسوق إسرائيل في المنطقة بحثا عن حرب، وعدم قدرتها على إنتاج حالة مواجهة مناسبة لخروجها من ورطة غزة.
الخروج من حرب غزة المكلفة إلى حروب أخرى، وتحت ذلك يمكن الحديث عن استهداف الحوثيين في اليمن، وتواصل التحرش بحزب الله في لبنان، ويبدو أن إيران أدركت هذه اللعبة في مرحلة ما، والسعي المتواصل لأن تكون طرفا في حرب تستطيع أن تسحب التوتر في حرب غزة، فالمطلوب هو دخول غزة في منعطف أوسع، يبرر انسحابا إسرائيليا من الرهان على أهداف غير واقعية مثل اقتلاع حماس، أو تفريغ القطاع، ويمكن ذلك من خلال التحجج بإعادة التمركز لمواجهة مخاطر وجودية أخرى، هكذا سيتم تسويق الأمر للداخل الإسرائيلي. يمكن لحرب أوسع ومختلف في فصولها واستراتيجياتها أن تحتفظ لنتنياهو بموقعه المفضل في قيادة الحكومة الإسرائيلية، خاصة هذه النسخة العصابية التي يمكن أن تشعل حربا أهلية داخل إسرائيل، والشرط أن تكون هذه الحرب أقل كلفة من حرب غزة، لا تحمل أهدافا طموحة، حربا يمكن توصيفها بالحرب الدفاعية. الخدعة الإسرائيلية المفضلة، الدفاع! حسابات مدروسة وصعبة ومعقدة، وإن يكن من المبكر وصفها بالذكية أو المتهورة، جعلت إيران تنتهج الاستراتيجية نفسها، وتبدأ في عمليات عسكرية محدودة في العراق وسوريا، مع الضربة المفاجئة وغير المفهومة لباكستان على أرضية مطاردة جماعات مرتبطة باستقلال إقليم بلوشستان ذي الأغلبية السنية في إيران، وهو الإقليم الذي يقع الجزء الأكبر منه في باكستان. بالطبع، لا تمتلك إيران الرفاهية لنبش الصراعات في بلوشستان في هذه المرحلة، ولكن الرسالة واضحة، وتعني عدم البحث عن حلول وراء الصراع القائم في غزة، وإذا كانت إسرائيل تبحث عن حرب، فنحن نمتلك أيضا خيارات كثيرة في انتقاء حروبنا، والواقع أنه لا أحد يريد أن يستورد نصيبا من الأزمة التي دخلت في مرحلة غير مسبوقة، مع الدعوى التي أطلقتها جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، وهي الخطوة التي ستعيد تعريف الصراع في الشرق الأوسط، ولذلك تردد العديد من الدول في مقاربة هذه المسألة؛ لأنها تتعامل مع طرف يمتلك الخبرة في العيش تحت حالة النبذ الدولي، وهو جنوب أفريقيا نفسها.
تتسوق إسرائيل في المنطقة بحثا عن حرب، وعدم قدرتها على إنتاج حالة مواجهة مناسبة لخروجها من ورطة غزة، سيجعل الهدف المتاح هو الضفة الغربية، بما يعني أن يتوزع الضغط على ساحتين، وأن يبدأ البحث عن حل في صفقة أبعد من الاشتباك المحرج الذي تمرغت فيه إسرائيل في الوحل، ولم تعد قادرة على الخروج بمظهر وصورة تليق بما استثمرت في بنائه لعقود من الزمن، ويبدو أن السؤال عن الضفة الغربية لم يعد سؤالا حول وقوع الاشتباكات الواسعة، أو الحرب في نسختها الثانية، ولكن حول التفاصيل، متى وكيف وأين؟ ما زالت إسرائيل تبحث عن حرب تجنبها التورط في مستنقع جديد، حرب دولية يمكن أن تستمر لسنوات في حالة حرب، تبادل قصف، ولكن من غير مواجهة كثيفة، ويجب أن يكون مقابلها بالطبع طرف يرحب بهذه الحرب، وما زالت إيران تستوصي بالصبر الاستراتيجي. حرب غزة لن تنتهي إلا بوجود تهديد آخر لإسرائيل يتيح الدوران للوراء، يفضل أن تكون حربا أو حالة حرب خارج الحدود، ولكن المتاح، خاصة بعد عملية الاستهداف متعددة الفاعلين في رعنين، هو الحرب في الضفة الغربية، ويبدو أن إسرائيل ستحاول استهلاك الوقت قبل أن تلتقط هذه الورقة من على الطاولة، وترى ما الذي يختفي وراءها.
المصدر: القدس العربي