عبد القادر الزيتوني سياسي وحقوقي
تونسي مخضرم بدأ وشقيقه مصطفى
مسارهما السياسي مع المحاكمات التي شملت منذ ستينيات القرن الماضي معارضي نظام
الحبيب بورقيبة من بين العروبيين الناصريين والبعثيين واليساريين الماركسيين
المعروفين بمجموعة " آفاق ".. قبل أن يؤسسا عام 2004 "حزب
الخضر"، أو "حزب تونس الخضراء" المناصر للتعددية والحريات الذي دخل
في شراكات مع نشطاء أحزاب الخضر والبيئة الأوروبيين والدوليين ..
برز الزيتوني مؤخرا بمواقفه التي تدعو إلى الافراج عن كل الموقوفين
في قضايا ذات صبغة سياسية "بكل انتماءاتهم" وبتنقية المناخ السياسي
العام في البلاد واستئناف المسار التعددي والاحتكام في حسم الخلافات لصناديق
الانتخابات ..
الإعلامي والأكاديمي كمال بن يونس التقاه فكان معه هذا
الحوار الخاص
بـ "عربي21" حول المستجدات في تونس والمنطقة وحول جوانب من ذكرياته عن
تجارب المعارضة العروبية واليسارية التونسية منذ مرحلة "تبني الفكر الثوري
والانخراط في التنظيمات السرية الثورية اليسارية والقومية العربية والفلسطينية "..
وشمل الحوار عضويته وحزبه في قيادة "الجبهة الشعبية"
التونسية التي أسسها في 2013 زعيم حزب العمال الشيوعي التونسي حمة الهمامي
ويساريون قوميون بزعامة الشهيدين شكري بلعيد ومحمد الإبراهمي وعمر الماجري وعدد من
رموز المعارضة البعثية والماركسية مثل أحمد الصديق وعمر الماجري وعثمان بالحاج عمر
والحبيب الكراي.
كيف تتصور بصفتك الرئيس المؤسس لحزب الخضر التونسي وناشطا
يساريا مع المنظمات والأحزاب الحقوقية والبيئية في أوروبا سبل إخراج تونس من
أزمتها الحالية المتعددة الأوجه؟
ـ بعد
تجارب طولية في اليسار التونسي بمكوناته الماركسية اللينينية والعروبية وبعد نحو
عشرين عاما من النضال الحقوقي والبيئي مع أنصار الحريات والديمقراطية وطنيا
وعالميا، أعتبر أن من أولويات تونس اليوم الانتصار مجددا لخيار التعددية الفكرية
والسياسية والحزبية وتكريس مبادئ حقوق الإنسان العالمية بدءا من الإفراج عن كل
المساجين في قضايا سياسية مهما كانت انتماءاتهم ..
لقد كنت من بين الذين طالبوا الرئيس قيس سعيد في 2020-2021 بفتح
ملفات شبهات الفساد المالي والسياسي. وقد
أرسلت إليه وثيقة حول شبهات سوء التصرف من قبل جهات رسمية في أموال حصلت عليها
تونس من المانحين الدوليين لدعم الإصلاح السياسي والاقتصادي والانتقال الديمقراطي ..
وما زلت أطالب بالشفافية والإصلاح السياسي والإداري.. لكنني أعتقد أنه
لا مبرر للتمادي في إيقاف شخصيات سياسية وطنية معارضة، مهما كانت الاختلافات معها
فكريا وسياسيا وحزبيا..
وأعتقد أن الإصلاح يبدأ بالافراج عن كل السجناء والموقوفين، لأن
القرارات الأمنية والقضائية لا يمكن أن تحسم الخلافات الفكرية والسياسية
والتناقضات بين وجهات النظر ..
الخلافات تحسم في البلدان الديمقراطية والتقدمية عبر صناديق الاقتراع
والحوار السياسي الوطني وعبر وسائل الإعلام وفي مؤسسات المجتمع المدني والهياكل
المنتخبة وليس في السجون..
لذلك أقترح على رئاسة الجمهورية والسلطات المعنية المبادرة بخطوات
تؤدي إلى تنقية المناخ السياسي العام في البلاد عبر الإفراج عن الموقوفين
والمساجين السياسيين ..
وأعتقد أن مثل هذه المبادرة يمكن أن تؤدي إلى تحسين مناخ الأعمال
والاستثمار في البلاد وإلى كسب ثقة البرلمان الأوروبي ومؤسسات صنع القرار
الاقتصادي في أوروبا والعالم، بما يساهم في تغطية حاجيات تونس الملحة للتمويل
والاستثمار وإحداث مئات آلاف مواطن الشغل وموارد الرزق للشباب ولجيش العاطلين عن
العمل ..
معركة الحريات
لكن هل تتوقع أن تتفاعل السلطات مع
مطالبتك بالإفراج عن كل الموقوفين والسجناء في قضايا ذات صبغة سياسية وباحترام
قواعد التعددية الفكرية والسياسية والحزبية مجددا؟
ـ النخب
والأطراف السياسية والنقابية التونسية لديها رصيد طويل في النضال من اجل الحريات
العامة والفردية في عهدي بورقيبة وبن علي ثم بعد 2011.. وعليها مواصلة النضال من أجل
إطلاق سراح الموقوفين ..
بعد 2011 لما شعرنا بالمخاطر التي تهدد المكاسب الحقوقية في عهد
الرئيس المنصف المرزوقي وحكومات الترويكا ثم في عهد الباجي قائد السبسي وحكومتي
الحبيب الصيد ويوسف الشاهد لم نتردد في إعلان معارضتنا ومواقفنا السياسية التي لم
تعجب الحكومات المتعاقبة ..
وفي هذا السياق انخرطنا في 2012 ـ 2013 وبعد ذلك في "الجبهة
الشعبية" وعارضنا مع المرحومين شكري بلعيد ومحمد الابراهمي ورفاقا وأصدقاء
آخرين من أجل منع "تغول" الأطراف التي أفرزتها انتخابات تشرين أول / أكتوبر
2011، بما في ذلك أحزاب النهضة والنداء وتحيا تونس ..
وتابعنا النضال بعد ذلك إلى أن تفككت الجبهة الشعبية من الداخل بعد
انتخابات 2014 وخاصة بعد 2016.. وتعاقبت الاستقالات داخلها وداخل الكتلة
البرلمانية التابعة لها والتي كانت في مرحلة من المراحل تضم 16 نائبا بينهم قوميون
وبعثيون وماركسيون و"ووطد".. الخ
دعم سلطات الجزائر للمعارضين التونسيين
كنت مع شقيقك المناضل البعثي ثم اليساري الفقيد مصطفى الزيتوني قد انخرطتما في حركات "تتبنى المنهج الثوري" لها حضور في فرنسا والجزائر
وليبيا ولبنان والعراق.. ثم أسستم حزب الخضر البيئي وانخرطتم في العمل السياسي
والحزبي القانوني في 2004.. كيف تفسر هذا
التطور؟
ـ أنوه
هنا بكون أغلب النشطاء السياسيين الماركسيين والبعثيين والناصريين الذين انخرطوا
في مرحلة شبابهم في تنظيمات شبابية معارضة "تبنت المنهج الثوري الشعبي"
و"الحراك الثوري المسلح" قاموا بمراجعات بعد ذلك.. وأغلبهم انسحب من تلك
التنظيمات والحركات "الثورية" وانخرط منذ الثمانينات والتسعينات في
هياكل العمل النقابي والحزبي ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني.. البعض انخرط
في حزبي بورقيبة وبن علي (الحزب الاشتراكي الدستوري ثم التجمع الدستوري الديمقراطي)..
فيما انخرط آخرون في "التجمع الاشتراكي التقدمي" (ـ الذي أصبح لاحقا
الحزب الديمقراطي التقدمي ـ) بزعامة أحمد نجيب الشابي وآخرون شكلوا مجموعات "اليسار
الراديكالي" بزعامة حمة الهمامي ورفاقه و"الشعلة" و"الوطد" بمختلف أجنحته ..
في المقابل انضم آخرون إلى الحزب الدستوري الحاكم في عهد بورقية، مثل
مؤسس حركة "الشعلة" السابق في فرنسا المرحوم محمد العربي عزوز الذي انضم
إلى مكتب مستشاري الهادي البكوش الوزير مدير الحزب ما بين 1984 و1987.
وقبل آخرون من القيادات السابقة في
حركات "آفاق" و"العامل التونسي" و"الشعلة" والجبهة
القومية لتحرير تونس وحركات البعث السوري والعراق والأحزاب الناصرية وظائف في
الدولة وفي مؤسسات إعلامية وإدارية وثقافية وسياسية وأمنية وقضائية تابعة لها.. مقابل
الابتعاد نهائيا عن "الخط الثوري" و"التنظيمات السرية والمسلحة"
وعن "اليسار الراديكالي"..
وأريد أن أنوه هنا بالسلطات الجزائرية في عهد الرئيسين "العروبيين"
أحمد بن بلا وهوراي بومدين ثم في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، التي سهلت غالبا
لجوء معارضين تونسيين من عدة
تيارات إليها وسهلت ظروف دراستهم وإقامتهم وعيشهم وتنقلاتهم بين الجزائر وأوروبا والخارج ..
كما استضافت السلطات الجزائرية معارضين من الحجم الكبير منذ الستينيات
بينهم المناضل العروبي اليساري إبراهيم طوبال رفيق صالح بن يوسف كبير معارضي
بورقيبة .
وحمت في مرحلة من المراحل رموز
المعارضة العروبية المسلحة مثل عزالدين الشريف قائد كومندوس قفصة 1980، الذي كان
برمج "ثورة شعبية مدعومة بثوار مسلحين في عدة جهات لإسقاط نظام بورقيبة"
بدعم من سلطات طرابلس والجزائر وتنظيمات عروبية ويسارية سرية وأخرى مسلحة كان
لديها مئات النشطاء السياسيين والمقاتلين في لبنان وفرنسا وليبيا والجزائر.
جبهات "تحرير تونس"
يقدم شقيقكم الفقيد مصطفى الزيتوني في
كتابه "سيرة مناضل" شهادات نادرة.. من بينها ما يهم مقابلات مع عزالدين
الشريف زعيم كوماندوز هجوم قفصة في يناير 1980، المحسوب على "الجبهة القومية
الثورية لتحرير تونس".. وكان الكوماندوز المسلح دخل تونس قادما إليها من
الجزائر وليبيا.. هل لديك علم بذلك؟
ـ أعلمني
شقيقي مصطفى الزيتوني مبكرا أن عزالدين الشريف طلب مقابلته واثنين من رفاقه في
باريس في 1979 وأعلمه بمشروع تنظيم "عملية كبيرة" ضد نظام بورقيبة في
الذكرى الثانية لحوادث 26 يناير 1978 الدامية التي سقط فيها مئات القتلى والجرحي
ووقعت بعدها محاكمة عدد كبير من المعارضين النقابيين بزعامة الأمين العام لاتحاد
الشغل الحبيب عاشور .
وكان الشريف ضمن الفريق الذي كلفه الرئيس الجزائري هواري بومدين مع
العقيد في جيش الجزائر بلهوشات بشراء الأسلحة من فرنسا وخارجها وتنظيم دورات تدريب
في الجزائر وليبيا للمجموعات المسلحة التابعة لجبهة البوليساريو الصحراوية..
وقد قابل شقيقي مصطفى زعيم "ثورة قفصة" مجددا بباريس مع إثنين
من رفاقه قبل شهر واحد من تنفيذ الهجوم الملسح ونصحه بـ" تأجيلها ".
لماذا طلبوا منه التأجيل؟
ـ لأن
زعيم هذه الحركة عزالدين الشريف أوحى برغبته في التثبت من بعض الأسلحة وتجهيزات
الاتصال اللاسلكية التي وفرتها له القيادة الليبية ونقلتها إلى الجزائر وتونس
استعدادا للحظة الصفر ..
وقد وقع الاستنجاد بعسكري تونسي سابق للتثبت.. لكنه وصل فرنسا متأخرا
بعد رحلة سرية قادته من تونس إلى اليابان ثم باريس.. التي غادرها الشريف دون
التثبت من مسافة تغطية "جهاز الاتصال اللاسلكي" الذي سيستعمله للتواصل
مع "الثوار" في عدة مدن تونسية وخارجها ..
وقد فشلت "ثورة قفصة".. لأن الجهاز الذي سلمته له شخصيات
مسؤولة ليبية وجزائرية له كان مداه قصيرا جدا.. ولا يغطي إلا بضعة كيلومترات في
مدينة قفصة.. وقد دون شقيقي مصطفى الزيتوني هذه المعلومات في كتابه "سيرة
مناضل" الذي نشره بالغة الفرنسية عام 2014 عن دار سحر للنشرالتونسية .
نقاط استفهام
هنا تطرح تساؤلات خطيرة: هل تعمدت بعض القيادات الليبية
والجزائرية إجهاض الثورة المسلحة" التي اعتزمت "الجبهة القومية لتحرير
تونس" تفجيرها انطلاقا من قفصة؟ وهل أرادت فعلا دعم تمرد شعبي وآخر مسلح لإسقاط
حكم بورقيبة أم إنها ورطت بعض "عملائها" في تمرد محدود للضغط على
السلطات التونسية وتحقيق مكاسب سياسية أمنية فقط
ـ هذه قضايا يناقشها الخبراء والمؤرخون..
لكن ما أعلمه أن أغلب المعارضين اليساريين والعروبيين في المنفى عادوا إلى تونس
بعد مرض الوزير الأول الهادي نويرة بعد هجوم قفصة وتشكيل حكومة محمد مزالي في 1980.
ثم الإفراج عن الدفعات الأخيرة من الطلبة والنقابيين اليساريين الذين كانوا في
السجون.
هذه القضايا وغيرها تحتاج دراسات عميقة وجريئة.. مع التثبت في
المصادر والشهادات والاستفادة من وثائق محاكمة المتهمين في التنظيمات السرية
والمسلحة وبينها مجموعة قفصة 1980.
ونحن إذ نتوقف عند بعض المحطات
التاريخية نؤكد اليوم مجددا أن الأهم
اليوم بالنسبة للأجيال الجديدة هو المضي في تنقية المناخ السياسي والاجتماعي
وتحسين مناخ الأعمال والاستثمار ومعالجة معضلات الفقر والبطالة.