في الآونة الأخيرة، انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي صور وأخبار عن هدم وإزالة
مقابر تاريخية لشخصيات مهمة، أدت دورا فارقا في تاريخ
مصر الاجتماعي والسياسي والثقافي. صور لجرارات وأبنية متهدمة وشواهد قبور نقشت عليها أسماء شهيرة. أكياس ممتلئة بما تبقى من عظام موتى كثيرين؛ فانطلق عديدون، كمراسلي الحرب تماما، يتقافزون أمام وحول أدوات الهدم والتدمير تلك، يوثقون ويدونون بالصور في المقام الأول تلك البنى، قبل أن يطويها العدم كما فعل بساكنيها من قبل، حتى بقايا بعضهم ديست ودهست ووحده الله يعلم أين تناثرت.
قبل ذلك كانت الاستغاثات العديدة جأر بها المهتمون وذوو الراحلين بأعلى ما تمكنوا من صوت، لكن دون جدوى، لذا ليس من مبالغة في تشبيه من اضطلعوا بمهمة التوثيق الأخيرة تلك بمراسلي الحرب، بل هم فوق ذلك (ربما دون أن يعلموا أحيانا) جنود في معركة خطيرة، وإن خاسرة للأسف في هذه المرة: معركة الجمال ومفهوم القيمة.
لمن لا يعلم، فكثير من تلك المقابر ليست مجرد أحواش بقبور بسيطة، بل هي في كثير من الحالات تحوي تحفا فنية، أنفق أصحابها عليها بسخاء ما تجسد في تصميماتها المعمارية وتشكيلات الجص والمواد المستخدمة كأرقى أنواع الرخام وما حفلت به من نقوش، وبذا تعد شاهدا على الحقب التي شيدت فيها (ولا يعني ذلك بالطبع أن القبور العارية من مناحي الجمال تلك مستباحة).
لكن قبل هذا وذاك، فأهم الاعتبارات هو الكرامة الإنسانية، الحق البسيط للإنسان في أن يكرم ما تبقى منه، رفاته، وما يليق بقيمته كإنسان في المقام الأول وما يتفق مع قناعاته وعقائده.
انزعجت كغيري وأنا أراقب قوى التدمير تلك المنفلتة من عقال العرف والمعنى، متألما إذ أتابع تلك الصور والمناشدات والاستنجادات التي تضافرت لتشكل مرثية حزينة لأناس يموتون مرتين، الأولى حين رحلوا عن دنيانا والثانية حين قض سباتهم، وربما تذكرت رائعة الراحل أسامة أنور عكاشة «الراية البيضا»، حيث وثق وتنبأ بما صار صراعات متتالية بين قوى التدمير ومعنى الجمال وتجسداته.
ولعل ما زاد من حيرتي، هو إدراكي لما للمكانة التي يحتلها الموت والطقوس المحيطة به وبجسد الميت ومصيره في الوجدان والمخيال الجمعي المصري، فلئن كان جسد الميت والتعامل معه شكلا هاجسا للبشرية منذ بدء الخليقة، ولما كانت طقوس الدفن تعد من أوائل علامات التحضر، ودليلا على بداية تشكل المفاهيم والقناعات التي صقلت فيما بعد في صورة ديانات وأساطير، فإن الحيز والاهتمام الذي حظي به جسد الميت والحفاظ عليه أملا في البعث في الفكر المصري منذ فجر التاريخ، كان فائقا وفارقا.
لكنني إذ تأنيت وراجعت نفسي ومحصت الأمر، وصلت إلى قناعة بأن الدهشة والحيرة التي استبدت بي وبغيري غير مبررة على الإطلاق، وتتسم بسذاجة لا محل لها في هذا المفترق من تاريخ مصر والمنطقة، فنحن بتلك المشاعر وردود الأفعال نثبت أننا ما زالت لدينا أوهام عن حقيقة وطبيعة هذا النظام، أو أننا نرفض أن نرى الواقع على قبحه، أو الاثنان معا. في المقابل، فإن نظام
السيسي في خطوة كتلك متسق مع نفسه أتم الاتساق؛ فهي تتسم بكونها امتدادا منطقيا تماما لمجمل سياساته وانحيازاته.
فالسؤال أولا، في حقيقة الأمر وصلبه، سؤال عن القيمة: ما قيمة حياة الإنسان؟ ما قيمة كرامته؟ ما قيمة بقاياه، رفاته؟ ما قيمة مشاعره وقناعاته التي يعيش بها؟ ما قيمة الجمال، بل ما هو «الجميل»؟ ما قيمة الأشياء؟ ما الذي له قيمة من الأصل؟ والسؤال بالمناسبة، وإن كان ملحا وفي عمق السياق الآن، فليس بالجديد، ولعل أشهر صيغه هو سؤال ما الذي له قيمة أو ما صانع القيمة، طاقة أو قوة العمل أم رأس المال؟
إن الإجابة على هذا السؤال كفيلة بتفسير ما ترى من هجمة شرسة.
بشح ثقافته، بأفكاره التلقائية المكتسبة من محيطه المباشر وبيئاته المتعاقبة، بصلفه واعتداده الغريب بذاته، بمركبات نقصه، بدمويته المفرطة، فإن السيسي بصفته خير تمثيل عن الطبقة الحاكمة وفئة ضباطه الكبار المنتقين وداعميه بنهمهم المسعور، يجيب على سؤال القيمة دون أن يتكلم.
لن أسأم من تكرار رأي لا تزيده الأيام وما تتكشف عنه إلا تعمقا؛ إن مذبحة رابعة هي الفعل المؤسس لهذا العهد والمعبر الأمثل عن رؤيته وأولوياته وانحيازاته، فالنظام الذي تعمد بالدم لدى إعادة إنتاج نفسه بعد ضربات الموجة الثورية، قد أجاب بوضوح على أسئلة القيمة، والسيسي تحديدا، ذلك المهووس بالقوة «الغاشمة» على حد تعبيره وسياسات القبضة الحديدية، لم ير قيمة للحياة البشرية حينذاك، بل تعمد التصعيد ليضرب مثلا ويوصل رسالة بالدم والبارود والجثث، فأي عجب إذن إزاء تجريف القبور وإزالتها من شخص قتل الناس وأحرق مصابيهم، وحمل الجثث بالجرارات حتى وجد بعض منها في مقالب القمامة؟
إن النظام والرجل اللذين لم يحافظا على كرامة الأحياء، لن يلتفتا لكرامة الموتى.
هناك تصور ما أو مصلحة ما من إزالة هذه المقابر، لتوسيع أو إنشاء الطرق، أيا يكن، هذا له قيمة في نظر السيسي ومن حوله، أما الجثث وشواهد القبور وجمال العمارة وحق الموتى في السكينة، والارتباطات العاطفية والأسرية، فكلها اعتبارات لا قيمة لها، بل هي اعتبارات تافهة و«مخنثة». الأساس هو المكسب وما يرونه المصلحة «العامة» التي يحددونها هم حصرا، ضد رغبات ومشاعر «العامة»، الذين اتفقنا أنهم ما لم يشكلوا بجموعهم الضخمة تهديدا بثورة، فلا قيمة لهم من الأساس!
ليست هذ بالسابقة الأولى في التاريخ التي تزال فيها قبور توطئة للإنشاءات العامة، لكن كان بمقدور الحكومة التروي ريثما تقوم ببناء مقابر بديلة يتم نقل أو تقليد الحالية بمنجزاتها الجمالية إليها ثم نقل ساكنيها، لكن هذا يؤدي، بل يستلزم التأخير، ما يراه النظام «مضيعة للوقت»، ونفقات على أشياء لا قيمة لها في نظره.
كما أن هناك هاجسا أو هما آخر لا بد أن نلتفت له وأكاد أجزم أن له دورا: توسيع وتهيئة شوارع القاهرة بما يمكن من الانتشار السريع للمجنزرات من دبابات وحاملات جنود في حال اندلاع تمردات أو ثورات مقبلة، ومرة أخرى أقول إن البشر، خاصة ميتين، والقيم الجمالية، لا قيمة لها البتة في نظر النظام أمام ذلك الاعتبار الوجودي بالنسبة لهم: بقاء النظام وسيطرته.
في المحصلة، في مصر السيسي وفي ظل نظامه، أنت لم تعد فقط لا تضمن الحياة الكريمة لك ولأبنائك، لا تضمن رعاية صحية تليق بالكائنات الحية، لا تضمن تعليما جيدا، لا تضمن عدلا ولا قضاء مهنيا ناجزا، بل لم تعد حتى تضمن الرقاد بسلام بعد أن تنعتق من الدنيا وبلاويها ومن جحيم خلقه النظام، ليس لك أن تضمن أن تخلد في سكون، أن تترك في حالك.
المضمون الوحيد ربما هو أنك إن عارضت النظام أو انتقدته، أو حتى هممت بذلك، فمكانك محفوظ مضمون في سجون النظام المتكدسة.
لم تعد الحياة هي الصعبة فقط في مصر، بل الموت أيضا، ولئن كان هم الكثيرين من الناس الخروج من مصر، الفرار من سجن السيسي وجحيمه كما فعل لاعب المصارعة المصري في الفترة القريبة، فيبدو أن الأمر نفسه صار ينسحب على الموت، وكما ننصح الناس بالبحث عن الرزق خارج هذا البلد، فإننا ومن نفس المنطلق ننصح بالبحث عن مكان قصي للدفن، لا يبدو أن شهية النظام ستنفتح له قريبا. وكما أننا نقول لا تنتظر علاجا أو تعليما أو عدلا، فإننا أيضا يجب أن نقول الآن: لا تمت في مصر!
(القدس العربي)