نشرت مجلة "The Nation" الأمريكية، مقالا للأكاديمي الأسترالي البارز جون كين، تحدث فيه عن تداعيات اعتقال السلطات
التونسية، لزعيم حركة
النهضة، الشيخ راشد
الغنوشي.
وقال كين، أستاذ العلوم السياسية بعدة جامعات أوروبية، ومؤلف كتب أبرزها "أقصر تاريخ للديمقراطية"، إن اعتقال الغنوشي بمثابة "خنق للديمقراطية في تونس"، مضيفا أن ما حدث بحق زعيم حركة النهضة "ظلما وعدوانا، نذير شؤم لخصوم الاستبداد".
وتاليا الترجمة الكاملة للمقال:
يواجه الوعد المتلعثم بالإصلاح الديمقراطي في العالم العربي تحديات جديدة – وخاصة في تونس.
كان هذا البلد الشمال أفريقي من بين القوى الإقليمية الأولى التي ساعدت في إطلاق ما بات يعرف بالربيع العربي في عام 2011، عندما تمت الإطاحة بالدكتاتور الكريه زين العابدين بن علي، الذي حكم البلاد لما يقرب من خمسة وعشرين عاماً. كما عرف الحراك التونسي أيضاً باسم ثورة الياسمين أو باسم ثورة الكرامة.
والآن، لسوء الحظ، تعمل قوى الاستبداد على خنق التحول الديمقراطي في تونس، حيث تفشت ممارسات الترهيب والتوقيف والسجن والضرب بل وحتى الإعدام. وما عملية الخطف التي قام بها عناصر من أمن الدولة بحق راشد الغنوشي، أهم زعيم روحي وسياسي في البلاد، ومن ثم إدانته إلا نذير شؤم بما يجلبه هذا التيار القبيح.
قابلت راشد الغنوشي لأول مرة في مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد وقت قصير من وصوله إلى منفاه في لندن، حيث ساهم بورقة في ندوة عامة نظمتها حول موضوع مشاركة الإسلاميين في السلطة. ولكم أعجبني تدبره الهادئ والعميق ونزاهته وعفته، وحبه لمعرفة شؤون العالم. كنا في تلك الأيام نتبادل من حين لآخر أطراف الحديث حول الأهمية السياسية للمحاسبة وللتواضع، فقد كانت تلك القيم من أحب الأشياء إلى نفسه.
بالنسبة للغنوشي، الذي ولد لعائلة تعمل في الفلاحة في واحة بالقرب من قرية الحمة، على مشارف الصحراء، تنهى العقيدة الإسلامية عن الغطرسة والتنمر والعنف. لا يوجد في الدين مكان للكبر والإكراه، كما كتب في "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" الذي صدر له في عام 1993. يقول في ذلك الكتاب إن الله منح المؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء حق الكرامة والمساواة ومجالاً واسعاً من الحريات، بما في ذلك حرية التعبير وحرية الملكية وحرية الاعتقاد. فيما يتعلق بهذه القضايا، لم يكن الغنوشي مجرد معتنق لليبرالية الغربية، بل كانت أدلته كلها مستلهمة من العقيدة. فطبقاً للإسلام، كما كتب، لا يحق لأي حكومة أو منظمة سياسية أن تتخذ في شؤون رعاياها قرارات تعسفية. وكان كثيراً ما يقول: "لا يوجد مكان للكنائس ولا للبطارقة الذين يزعمون أن بأيديهم مفاتيح الجنة." كما كان يرى أن حق تفسير الكتب السماوية هو حق للجميع. ولهذا السبب كان يرفض باستمرار مذهب النمط الفرنسي من العلمانية، لأنه لا يحق لأي دولة خصخصة العقيدة الدينية من خلال فرض فصل بين السياسة والدين. وكان يقول إن النموذج اللائكي من العلمانية الفرنسية ليس شرطاً لتحقق الديمقراطية، بل كان يرى أن هذا النموذج هو بحد ذاته خصم للحكم الديمقراطي الأصيل.
متسلحاً بإيمانه بالديمقراطية، مضى الغنوشي ليحقق إنجازات مهمة، فقاد حزبه السياسي، النهضة، نحو الفوز في الانتخابات التونسية عام 2019، وأصبح رئيساً للبرلمان. وكان قد حصل على جائزة ابن رشد المرموقة لحرية الفكر واعتبرته مجلة تايم في عام 2012 واحداً من مائة شخصية عامة هي الأكثر تأثيراً في العالم.
تمهدت الطريق لدور الغنوشي القيادي الجديد بعودته المظفرة إلى تونس في عام 2011 بعد أكثر من عقدين قضاهما في المنفى. حينها استقبله في مطار قرطاج آلاف المواطنين، بعضهم يحملون في أيديهم أغصان الزيتون والزهور، وبعضهم تسلق الأشجار أو أعمدة التيار الكهربائي لكي يحظوا بنظرة أولى إليه. رفع يديه إلى أعلى وهتف "الله أكبر"، وذلك قبل أن يقول للصحفيين إنه ليس خمينياً آخر. وقال: "نحن نقبل بالديمقراطية بلا قيود. ونحترم قرار الشعب سواء كانوا معنا أو ضدنا." كان همه أن يرى مجتمعاً قائماً على احترام العدالة والمساواة دون خشية من أحد، كما قال. وكانت غايته هي العيش في بلد تتمتع فيه كل امرأة بحقها الذي منحها الله إياه في أن تختار ما إذا كانت ترغب في ارتداء الحجاب أم لا.
أرعبت هذه الكلمات المؤسسة السياسية المضادة للثورة، إلا أن الغنوشي ظل صامداً ثابتاً، يعمل ما وسعه ذلك على العيش طبقاً لأحكام الدين التي قضينا ساعات نتحاور حولها. مورست ضده الافتراءات، والأخبار المضللة، والتهديد بالقتل، والتهم الزائفة، والألاعيب السياسية القذرة. كما نالته انتقادات واتهامات مفادها أنه أطال المكث في عالم السياسة. وألح عليه ناقدوه بالتنحي عن منصبه، والاكتفاء بدور المدافع عن المجتمع المدني، مثلما فعل آدم ميشنك في بولندا وكبير أساقفة جنوب أفريقيا ديزموند تيتو.
للأسف أغلق الباب الآن على هذا الخيار، فها هو يقبع وراء القضبان بعد إدانته بتكفير مسلم آخر، وما زال يواجه تهمة أخطر هي "التآمر على أمن الدولة". لقد حكم الآن على صديقي البالغ من العمر واحداً وثمانين عاماً بالسجن لعام واحد. ما من شك في أن مثل هذا الحكم الصادر عن خصومه المستبدين يعتبر بالغ القسوة بحق رجل في مثل سنه وضعفه.
كما أن للحكم الصادر بحقه رمزية تعكس عنف السلطة، إذ يقصد منه تخويف وردع قوى المعارضة والإصلاح في تونس. من المؤكد أن الرئيس قيس سعيد وحلفاءه سوف يريحهم إقصاء أبرز خصومهم. ولا شك أن سجن الغنوشي يمكن رئيس تونس قيس سعيد وأنصاره من تقويض أساسات المجتمع المدني التونسي الناشئ تحت ذريعة إقامة نظام سياسي جديد.
إن الأساليب التي ينتهجونها نسخة طبق الأصل من كتب المستبدين، بما في ذلك إغلاق البرلمان المنتخب، وإعادة كتابة الدستور، وتحويل الجهاز القضائي إلى أداة في يد السلطة التنفيذية، وحظر الأحزاب السياسية، وترهيب الصحفيين، واعتقال الوزراء السابقين ورجال الأعمال والنقابيين، ومطاردة وسجن التونسيين السود والمهاجرين وغيرهم من الأقليات، والحديث الذي لا يتوقف باسم الشعب، وحث الناس على مساندة النظام الجديد.
ما لن يسر قيس سعيد هو أن حكومة الاستبداد سوف تفشل في جذب الاستثمارات وفي إعادة توزيع الثروة، وفي تحسين فرص المعيشة للمواطنين أو في تجديد ثقتهم بالحكومة. وما سوف يسر معارضيه هو أن ثورة الياسمين لم تمت.
ما من شك في أن معظم التونسيين يفعلون ما يفعله الناس في الظروف الصعبة: يعتصرون الألم ويخفضون رؤوسهم ويمضون في حياتهم اليومية. ولكن هذه مهمة تزداد صعوبة يوماً بعد يوم في تونس قيس سعيد. فمستويات المعيشة في انخفاض، ومعدلات التضخم في ارتفاع، والمعاناة الاجتماعية في تزايد. لم يعد لدى الفقراء زيوت طهي ولا ألبان ولا سكر، ولا غير ذلك من الضروريات بينما تتفشى في أوساطهم مشاعر السخط. ولهذا كثيرون من أهل الثورة يلتزمون بنص حديث يحبه كثيراً راشد الغنوشي، الذي كان يقرأ علينا: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
للاطلاع إلى النص الأصلي (
هنا)