انتقدت الأكاديمية والباحثة نادية
المرزوقي ما آلت إليه
تونس من تردٍّ للحريات العامة وغياب الديمقراطية تحت حكم الرئيس قيس
سعيد، واصفة ما يجري بـ"المأساة".
وقالت المرزوقي وهي ابنة الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي؛ إن الرئيس الحالي، قيس سعيد، الذي وصل إلى السلطة بطريقة ديمقراطية، يعمل منذ استلامه لمنصبه بشكل منتظم على تفكيك الديمقراطية في البلاد، فقد قام بحل البرلمان، وفرض دستورا جديدا يمنحه صلاحيات هائلة، ومارس
القمع بحق كل من تسول له نفسه معارضته.
وأضافت في مقال لها بصحيفة
نيويورك تايمز ترجمته "عربي21": "ها نحن في المحصلة نعيش بلا حرية وبلا ماء وبدون ما يكفي من الطعام. يوشك الاقتصاد على الانهيار، ووصلت البطالة حد الجائحة، بدلا من التصدي للأزمات التي تعاني منها البلاد، يفضل قيس سعيد إلقاء الخطابات الرنانة حول الولاء والتآمر. ما يجري في تونس ليس أقل من مأساة".
وتاليا نص مقال نادية المرزوقي:
كان ذلك في شباط/فبراير من عام 2011، بعد بضعة أسابيع فقط من انطلاق الانتفاضة الشعبية التي أجبرت زين العابدين بن علي، دكتاتور تونس لفترة طويلة من الزمن، على التنحي ومغادرة البلاد. عدت حينها إلى البلد لأول مرة منذ عشر سنين، وكان والدي من أبرز معارضي النظام، فلم يكن آمنا لي البقاء فيها. في عام 2011، عندما وصلت إلى تونس، وكنت قد تعودت كلما قدمت على أن أتعرض للتفتيش والتحقيق في المطار، استقبلني ضابط من أمن المطار بابتسامة عريضة، فعرفت حينها ما الذي أنجزته الثورة.
في شهر كانون الأول/ديسمبر من تلك السنة، انتخب والدي، منصف المرزوقي، رئيسا من قبل المجلس التأسيسي. غمرني شعور بالفخر وأنا لا أكاد أصدق ما يجري من حولي. أتذكر مبتسمة كيف أنني وشقيقتي كان علينا أن ندفع سيارته البيجو القديمة كل صباح حتى تشتغل (وحتى يوصلنا إلى المدرسة في الوقت المحدد). لقد كرس والدي حياته، كطبيب وكناشط في الدفاع عن حقوق الإنسان وكسياسي، للنضال من أجل الديمقراطية، وكم كانت تكلفة ذلك باهظة بالنسبة له شخصيا، ثم، ها هو يصبح أول رئيس في تونس الديمقراطية.
أشعر وكأن دهرا طويلا مر على ذلك الحدث. فالآن لدينا رئيس يحكم بالمراسيم، ويحمل في يده معولا يدمر به مؤسسة القضاء، ويذكي نار الكراهية ضد المهاجرين السود، ويهاجم المعارضين، يدعمه في كل ذلك برلمان منبطح. تمتلئ سجون البلد بالصحفيين والنشطاء والمعتقلين السياسيين، الذين حبسوا ظلما وعدوانا ويحتجزون في ظروف غير إنسانية. ناهيك عن الكثيرين الذين فروا من البلد؛ خشية أن يلقوا نفس المصير. في أقل من عقد من الزمن، انحطت تونس من الديمقراطية إلى الدكتاتورية، ومن الرجاء إلى الرعب.
وصل الرئيس الحالي، قيس سعيد، إلى السلطة بطريقة ديمقراطية، فبعد حملة شعبوية في عام 2019 قدم نفسه فيها على أنه قادم من خارج المؤسسة ليقف مع الشعب في وجه النخبة الحاكمة، فاز في الانتخابات بما نسبته 72 بالمائة من الأصوات، إلا أنه منذ استلامه لمنصبه، وهو يعمل بشكل منتظم على تفكيك الديمقراطية في البلاد، فحل البرلمان، وفرض دستورا جديدا يمنحه صلاحيات هائلة، ومارس القمع بحق كل من تسول له نفسه معارضته.
كثيرون من أصدقائي وأفراد عائلتي كانوا من بين ما يقرب من ثلاثة ملايين تونسي منحوا أصواتهم لقيس سعيد، وقالوا إنه يظل أفضل من منافسه الذي كان مرشحا مدعوما من قبل مزيج من فلول النظام السابق وشبكات الأعمال الفاسدة. ولكن منذ اللحظة الأولى، بدا لي مشروع قيس سعيد مرعبا. ولما كنت دارسة للدين، أوليت اهتماما خاصا لمحاضرة ألقاها في شهر أيلول/سبتمبر من عام 2018، عندما كان لا يزال أستاذا في القانون، حول علاقة الإسلام بالدولة. لم تكن رؤيته السياسية معادية للديمقراطية فحسب، بل كانت شكلا متخلفا من أشكال العصبية المحلية، حيث يصبح كل شيء خاضعا لسلطان الحاكم.
لم يكن مستغربا أن يأمر الرئيس بقمع المهاجرين وهو المسكون بفكرة النقاء العرقي. استعان في شباط/فبراير بنظرية مؤامرة الإحلال العظيم؛ لكي يتهم المهاجرين الواردين من جنوب الصحراء، وهم قلة قليلة على أية حال، بالتخطيط لإعادة تشكيل الهوية التونسية. سرعان ما أشعلت تصريحاته موجة من العنف الوحشي ضد السود في البلاد، فجرح العشرات أو ألقي القبض على البعض وطرد البعض من منازلهم.
وغاية قيس سعيد هي تنقية المجتمع من المؤثرات الملوثة له، فالمقصود هنا هو تحقيق النظافة الاجتماعية لا العدالة الاجتماعية. والمشروع برمته أخلاقي النزعة بدلا من أن يكون إجرائيا وسياسيا، وشروطه يحددها قيس سعيد بنفسه. لقد استهدف بشكل ممنهج استقلال القضاء، على سبيل المثال، فراح يصدر المراسيم التي تمنحه صلاحية طرد القضاة من مناصبهم. وفي مرسوم آخر، أمر بمحاكمة أصحاب الأصوات المخالفة، الذي قد يضرون "بالأمن الوطني والدفاع الوطني"، وبذلك يتم التخلص من مفاهيم مثل: الحريات المدنية والمعارضة السياسية وحرية التعبير؛ باعتبارها تشكل خطرا على المجتمع.
يبدو كل ذلك بالنسبة لي، ويا للأسف، مألوفا، وخاصة إذا ما عدت بالذاكرة إلى عهد الدكتاتورية أيام حكم بن علي. في شهر نيسان/ إبريل، اجتمع أبناء العديد من السجناء السياسيين في جنيف، فتحدثوا وطالبوا الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على نظام قيس سعيد، وجدت شهاداتهم لدي صدى، حيث ذكرتني بأمسيات الأحد الكئيبة في ربيع عام 1994 عندما كنت ووالدتي نقوم بإعداد سلة الغذاء التي يسمح لنا بأخذها لوالدي في محبسه. أتذكر كيف شعرت حينها وأنا أتكلم معه عبر القضبان وفي وجود من ضباط الشرطة المسلحين.
ومع ذلك، فالإحساس هذه المرة أسوأ، حيث إن الغاية لا تقتصر ببساطة على سحق المعارضة، ولكن أيضا امتهان السجناء السياسيين وعائلاتهم. في جنيف، وقفت كوثر فرجاني تتحدث واصفة كيف تم اعتقال والدها، وهو عضو برلماني سابق، وكيف تتم معاملته في محبسه، حيث يحتجز في زنزانة مزدحمة جدا، عدد من فيها من النزلاء مائة وعشرون. ولا يتوقع أن يكون مصير راشد
الغنوشي، الرئيس السابق للبرلمان ورئيس حزب النهضة الذي اعتقل في نيسان/ إبريل، أفضل من ذلك بكثير.
قالت لي صديقة اعتقل والدها ودوهم منزلها؛ إن أسوأ لحظة مرت بها كانت عندما دخلت الحمام بعد كل ما تعرضوا له في تلك الليلة المريعة، ففتحت الصنبور لتغسل وجهها فلم تجد ماء. لقد نسيت أن الماء مقطوع؛ لأن المياه تتوقف كل مساء بسبب ما تمر به البلاد من جفاف شديد. تساءلت صديقتي: "هل هذا ما تخلينا عن الديمقراطية من أجله؟"
ها نحن في المحصلة نعيش بلا حرية وبلا ماء وبدون ما يكفي من الطعام. يوشك الاقتصاد على الانهيار، ووصلت البطالة حد الجائحة. بدلا من التصدي للأزمات التي تعاني منها البلاد، يفضل قيس سعيد إلقاء الخطابات الرنانة حول الولاء والتآمر. ما يجري في تونس ليس أقل من مأساة.