قضايا وآراء

تصحيح المسار والبورقيبية ومشروع التحرر الوطني

لم ينتقد سعيد مطلقا البورقيبية- جيتي
تصدير: "إن الأشكال الوحشية التي يُجسّدها وجود المحتل على الأرض قد تزول زوالا تاما. والواقع أن زوالها هذا لا يعدو كونه تخفيضا للنفقات التي ينفقها المحتل، ولا يعدو كونه إجراء إيجابيا من أجل الحيلولة دون بعثرة قواه. ولكن الشعب الخاضع للاستعمار لا يلبث أن يدفع ثمن ذلك باهظا، يدفع ثمنه مزيدا من تحكم الاستعمار وتلاعبه بمصيره" (فرانز فانون)

منذ الأشهر الأولى للثورة التونسية كان واضحا أن الصراعات الهوياتية بين أهم الفاعلين الجماعيين ستحُول -مع أسباب أخرى ليس هذا موضع تفصيلها- دون التوافق حول أي مشترك وطني أو قاعدة صلبة لبناء سردية جديدة؛ تتجاوز جدليا السردية البورقيبية في لحظتيها الدستورية والتجمعية. كما كان واضحا أن إدارة مرحلة التأسيس تحت سقف البورقيبية باعتبارها "الخطاب الكبير" (أي الخطاب الذي تتحد شرعية سائر الخطابات المتنازعة لإدارة الشأن العام تبعا لدرجة الاقتراب منه أو الابتعاد عنه) سيدفع بورثة المنظومة القديمة وفلسفتهم السياسية وخياراتهم الاقتصادية -داخليا وخارجيا- إلى واجهة السلطة ولو بعد حين، وسيمنع بناء مشروع وطني حقيقي يقطع مع البنية الريعية- الجهوية- الزبونية لما سُمّي بالدولة- الأمة، ويمهّد لبناء "كتلة تاريخية" ذات أهداف تحررية واضحة.

لقد كان "الخبير الدستوري" قيس سعيد (قبل أن يصبح رئيسا) يحرص على اتخاذ مسافة نقدية من البورقيبية. فقد كان ضد توظيف "رفات" بورقيبة في الصراع السياسي، وضد منزعه الاستبدادي وضد آلية الاستفتاء لتعديل الدستور وضد احتكار السلطة للمجال العام وتخوين المعارضة وضد الحكم مدى الحياة.. الخ. وهو موقف علينا أن نفهمه بالرجوع إلى طبيعة المشروع السياسي للسيد قيس سعيد منذ تلك الفترة. فـ"الخبير الدستوري" كان يطرح نفسه باعتباره بديلا للنخب السياسية كلها، ولم يكن يعتبر مشروعه جزءا من الديمقراطية التمثيلية، بل يعتبره دليلا على انتهاء الحاجة إليها وإلى أجسامها الوسيطة (خاصة الأحزاب).

القراءة العميقة لخطاب السيد قيس سعيد ولمواقفه في المرحلتين تظهر وجود ثوابت ظلت على حالها رغم تغير صفته. وهي ثوابت سيكون لها أثرها في منطق تعامل الرئيس مع الفاعلين الجماعيين من جهة أولى، ومع سردية الدولة الوطنية وأساطيرها التأسيسية من جهة ثانية. ولعل من أهم تلك الثوابت هو استهداف الرئيس لكل الطبقة السياسية واتهام الأحزاب والسلطة بالفساد والانقلاب على "الثورة" دون ربط المنظومة السلطوية بالخارج

لقد كان الرئيس في كل تدخلاته الإعلامية وفي حملته الانتخابية حريصا على أن يظهر في صورة "الوطني الصادق" الذي يتحرك بالتقابل مع أدعياء الوطنية في السرديات الكبرى وتعبيراتها الحزبية. فأولئك "الأدعياء" قد انقلبوا على الثورة واستحقاقاتها بما مارسوه من تزييف ممنهج للوعي الجماعي، ومن تلاعب بمؤسسات الدولة وحرفٍ للصراع عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية الأصلية.

بعد وصوله إلى قصر قرطاج، تراجعت ثورية "الخبير الدستوري" تاركة الواجهة لرجل الدولة أو الرئيس، أي لمنطق السلطة ومناوراتها وحساباتها البراغماتية. ولكنّ القراءة العميقة لخطاب السيد قيس سعيد ولمواقفه في المرحلتين تظهر وجود ثوابت ظلت على حالها رغم تغير صفته. وهي ثوابت سيكون لها أثرها في منطق تعامل الرئيس مع الفاعلين الجماعيين من جهة أولى، ومع سردية الدولة الوطنية وأساطيرها التأسيسية من جهة ثانية. ولعل من أهم تلك الثوابت هو استهداف الرئيس لكل الطبقة السياسية واتهام الأحزاب والسلطة بالفساد والانقلاب على "الثورة" دون ربط المنظومة السلطوية بالخارج، أي دون التصريح أو حتى التلميح إلى مسألة "الاستعمار الداخلي" وعلاقته البنيوية بالاستعمار الخارجي، أو ما يسمى بالاستعمار الجديد (الاستعمار الثقافي والاقتصادي).

إن عدم حديث الخبير/ الرئيس قيس سعيد عن منظومة الاستعمار الداخلي (بجناحيها الجهوي والأيديولوجي) وإدارة الصراع السياسي تحت سقف مفاهيم أخرى، مثل الفساد واللا وطنية والتخابر مع جهات أجنبية والتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، هو أمر لا يمكن فصله عن السردية البورقيبية. فالسيد قيس سعيد يعلم جيدا أن طرح مسألة الاستعمار الداخلي سيجعله في مواجهة مفتوحة مع النواة الصلبة لمنظومة الحكم ومع رعاتها الأجانب -خاصة فرنسا ومحور الثورات المضادة- كما سيجعله خصما لأغلب "القوى الحداثية" التي تنتسب إلى البورقيبية أو تتحرك باستلهام خياراتها الكبرى، خاصة في الموقف من الإسلام السياسي ومن علاقة الدين بالدولة أو التشريع. وعوض أن يعتبر السيد قيس سعيد السردية البورقيبية أداة الاستعمار الداخلي فإنه قد انخرط في رمزياتها وتواريخها التأسيسية.

رغم أن "الخبير الدستوري" قيس سعيد -كما أوضح الدكتور سالم لبيض في مقال له بصحيفة العربي الجديد بتاريخ 14 نيسان/ أبريل 2022- لم يكتب نصا واحدا عن البورقيبية "بالنقد أو الانتقاد والمعارضة أو الإشادة والمناصرة والتأييد والموالاة، ورغم أن "الخبير الدستوري" قيس سعيد كان (سنة 2017) ضد أولئك الذين "يذهبون إلى قبر بورقيبة بحثا عن مشروعية سياسية في رفات الموتى"، فإن "الرئيس" قيس سعيد انخرط في السردية البورقيبية باعتبارها جزءا من سردية الدولة الرسمية بعد "التأسيس الثوري الجديد". بل إن المشتغل بالشأن التونسي سيلاحظ أن الرئيس سعيد لم يلمس السردية البورقيبية في تواريخها الرمزية، فضلا عن عدم التشكيك في الرواية الرسمية لتلك التواريخ. وهو ما لم يفعله مع تواريخ الثورة ورمزياتها، إذ عمد مثلا إلى تغيير تاريخ الاحتفال بالثورة، ولم يظهر أي احترام لرموز النضال ضد المخلوع (أغلبهم متهم بالفساد أو الخيانة أو التآمر على الدولة والشعب)، بل إنه لم يتعامل مع رموز الثورة ذاتها (خاصة البوعزيزي) بأية طريقة ترفعه إلى مستوى الرمز الوطني الجامع.

يحمل المشروع السياسي للرئيس تناقضا داخليا جذريا -أو بالأحرى لا مفكرا فيه أصليا- يمكن الوقوف عليه بطرح السؤال التالي: كيف يمكن لـ"تصحيح المسار" أن يكون "تأسيسا ثوريا جديدا" أو تجسيدا لمبدأ "اللا عودة إلى الوراء"؛ وهو يتحرك تحت سقف البورقيبية سواء من جهة التاريخ أو الرساميل البشرية أو الخيارات الاقتصادية والثقافية الكبرى، التي جاءت الثورة لتعبر عن بلوغها أزمتها القصوى ولتضع أساطيرها التأسيسية موضع المساءلة والمحاسبة؟ وهو سؤال يحمل في داخله إشكالا نظريا وتاريخيا مركزيا ما زالت جميع النخب بيسارها ويمينها تتجنب الإجابة عنه بصورة نسقية لا تقبل اللبس: هل كانت البورقيبية مشروعا "وطنيا" للتحرر، أم كانت منظومة سلطوية أشبه ما تكون بالإدارة الذاتية للمستعمرات دون أن تفكر -أو دون أن يسمح لها المستعمر عبر الاتفاقيات والمعاهدات العلنية والسرية- بتحقيق التحرر ومقومات السيادة؟ أو هل كانت البورقيبية نظاما وطنيا تحديثيا أم مجرد منظومة جهوية- ريعية- زبونية كان محصولها منظومة الاستعمار الداخلي (بجناحيه الجهوي والأيديولوجي)، تلك المنظومة التي كرست واقع الجهوية والتبعية والتخلف والاستبداد بجهازٍ أيديولوجي وأمني لا يملك من الوطنية إلا الدعوى والمجاز؟

مشروع يحتاج إلى سردية وطنية تحررية حقيقية، وإلى وجود توافق كبير حول أهدافه ورموزه. ولا شك عندنا في أن البورقيبية باعتبارها واقعيا أيديولوجيا "الاستعمار الداخلي" عاجزة عن أداء هذا الدور، بل إنها تمثل العائق الأبرز أمام تحقيق الاستقلال ومقومات السيادة والعدالة الاجتماعية

إن طرح موضوع "التحرر" أو الاستقلال والسيادة ورفض الإملاءات الخارجية هو أمر أكبر من أن يكون مجرد ردة فعل على مواقف دولية سلبية من مسار "تصحيح المسار"، وهو أيضا مشروع جماعي قد لا يقتضي -كما تثبت العديد من التجارب السياسية- وجود الديمقراطية التمثيلية أو الوسائط الحزبية بالضرورة، ولكنه لا يمكن أن ينفك عن الانخراط الشعبي الواسع والطوعي فيه. إنه مشروع يحتاج إلى سردية وطنية تحررية حقيقية، وإلى وجود توافق كبير حول أهدافه ورموزه. ولا شك عندنا في أن البورقيبية باعتبارها واقعيا أيديولوجيا "الاستعمار الداخلي" عاجزة عن أداء هذا الدور، بل إنها تمثل العائق الأبرز أمام تحقيق الاستقلال ومقومات السيادة والعدالة الاجتماعية (ببعديها الفئوي والجهوي).

ونحن نذهب إلى أن الرئيس قيس سعيد يعلم جيدا هذه الحقيقة، ولكنه يحتاج إلى البورقيبية لأسباب براغماتية لا علاقة لها بمشروع التحرر من وكلاء الداخل وإملاءات الخارج. فالبورقيبية هي مبدأ تجميعي لكل "القوى الحداثية" التي يحتاجها الرئيس في صراعه ضد حركة النهضة (ليس فقط باعتبارها حزبا ذا مرجعية إسلامية، بل باعتبارها مركز الحياة السياسية في الديمقراطية التمثيلية)، والبورقيبية أيضا توفر للرئيس قيس سعيد مرجعا نظريا وتاريخيا لمشروع مركزة السلطة وعبادة الزعيم، وهي أخيرا تمثل رسالة طمأنة لفرنسا ووكلائها في الداخل مفادها أن "الجمهورية الجديدة" لن تتراجع عن الخيارات البورقيبية الكبرى، خاصة في المستويين الثقافي (الفرنكفونية وفلسفة الحكم اللائكية) والاقتصادي (النظام الريعي والامتيازات الفرنسية).

الحديث عن مشروع للتحرر في ظل دولة فاقدة لجميع مقومات السيادة (ماديا ورمزيا)، وبالتعويل على جزء أقلي من الشعبي التونسي أو بالأحرى ضد إرادة أغلبيته (وهو ما تثبته نسبة المشاركة الشعبية المتدنية في الاستشارة الإلكترونية والاستفتاء والانتخابات البرلمانية)؛ هو مجرد كلام مرسل لا تتجاوز وظيفته تحقيق "الإشباع النفسي" لأنصار تصحيح المسار

ختاما، فإننا نعتقد أن المشروع السياسي للرئيس قيس سعيد لا يمكن أن يتجاوز سقف ما سبقه من مشاريع قبل الثورة وبعدها: خدمة النواة الصلبة لمنظومة الحكم وشرعنة امتيازاتها المادية والرمزية، أي تكريس منظومة الاستعمار الداخلي وعدم تهديد مصالحها أو مصالح رعاتها الأجانب. فما دامت البورقيبية وأساطيرها التأسيسية خارج أية مساءلة جذرية في سجال عمومي غير موجّه ولا متلاعب به، وما دامت "الكتلة التاريخية" مجرد حلم في زمن "الهويات القاتلة"، فإن أي نظام سياسي لن يكون إلا وكيلا جديدا لإدارة واقع التخلف والتبعية. وهي وكالة ترتبط أسباب ظهورها وبقائها -بعيدا عن الادعاءات الذاتية والمزايدات الكاذبة لأغلب الفاعلين الجماعيين- بمتغيرات ومعادلات خارجية بالأساس.

ولذلك فإن الحديث عن مشروع للتحرر في ظل دولة فاقدة لجميع مقومات السيادة (ماديا ورمزيا)، وبالتعويل على جزء أقلي من الشعبي التونسي أو بالأحرى ضد إرادة أغلبيته (وهو ما تثبته نسبة المشاركة الشعبية المتدنية في الاستشارة الإلكترونية والاستفتاء والانتخابات البرلمانية)؛ هو مجرد كلام مرسل لا تتجاوز وظيفته تحقيق "الإشباع النفسي" لأنصار تصحيح المسار وترسيخ منطق الهروب إلى الأمام.

twitter.com/adel_arabi21