الكتاب: "مقاربات وبحوث في التصوّف المقارن"
الكاتب: محمد الكحلاوي
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنّشر، بيروت- لبنان
عدد الصفحات: 175 صفحة
1
يطرح الأثر هدفا طموحا مداره على مقاربة التصوّف الإسلامي من منظور
إيبستيمولوجي يبحث في وجوه تقاطعاته مع الأنساق الصّوفية السّابقة له وانقطاعاته
عنها. لذلك يردف محمد الكحلاوي عنوان كتابه "مقاربات وبحوث في التصوّف
المقارن" بعنوان فرعي هو "أضواء على علاقة التّصوّف الإسلامي بالمسيحية
واليهودية والفلسفة اليونانية والثقافة الفارسية والعقائد الدينية".
وللباحث حافز يدفعه إلى الخوض في المسألة. ففي الأذهان أطروحة سارية
مفادها أنّ التصوّف دخيل على الإسلام وافد من ثقافات أخرى. وحتى يتحقّق من مدى
صلابة هذا الرأي يعلن أنه سيبحث ضمن الخطاب نفسه وجوه تفاعل هذا التّصوّف مع حكم
الشّرق أو روحانيات الأديان السّابقة. فيستنطق النّصوص ويبحث عن المضمرات فيها من
زوايا منهجية جديدة. وعليه يعلن نيته تجديد النّظر في الأطروحات القائمة، انطلاقا
من البحث في تقاطعات مفهوم التصوّف مع أنساق معرفية أخرى كعلم الكلام والفلسفة
والفقه.
ورغم شكواه من أنّ هذه المسائل شائكة لم تحسم إلى اليوم تجعل تعريف
التصوّف إما بالغ الصّعوبة، يقدّم تعريفه الخاص الذي يكرره في أكثر من موضع بصيغ
مختلفة. فيقول "تبيّن أنّ التّصوّف منهج روحي في الحياة وفلسفة في المعرفة
تستند إلى الوجدان والذّوق تعلو على معرفة الحواس والعقل ويعبّر عنها أحيانا شعرا
وفنّا، أو من خلال كتابة رامزة ذات صبغة تخييلية" ويحدّد له هدفَ "طلبِ
الحكمة الإلهية" في مواضع أخرى. ويعوّل على المستشرقين خاصّة في دراسة حضور
تعاليم المسيحية واليهودية في التّصوف الإسلامي ضمن أفق مناهج تاريخ الأفكار
والأديان المقارنة التي تبحث في تطوّر الفكر الدّيني في علاقة بتطور الإنسان وبمدى
تأثّر الأديان بالتّجارب السابقة.
2
كثيرا ما ُيُشار إلى صلة التّصوف الإسلامي برواسب من الفكر اليهودي،
وإلى أنّ نشأته إنما تعود إلى التأثر بنظرية الكلمة فيها التي تنشد الإنسان
الكامل. ذلك "أنّ الله خلق آدم على صورته"، وفقها. والعبارة عند
المتصوّفة حديث نبوي يرفض بعض علماء الحديث نسبته إلى الرسول ويتمسكون هم بمتنه.
ويجدون أنّ شرعيته مستمدّة من الآية من 29سورة الحجر ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾. وللـ"ـكلمة"
في اليهودية، والمسيحية والفلسفة الإغريقية كما سنرى لاحقا، معنى القوة العاقلة
المبثوثة في جميع أنحاء الكون أو الروح الإلهية التي يتجسّد أثرها في كل ما في
الوجود الخارجي من حياة وصيرورة وكون واستحالة.
"تبيّن أنّ التّصوّف منهج روحي في الحياة وفلسفة في المعرفة تستند إلى الوجدان والذّوق تعلو على معرفة الحواس والعقل ويعبّر عنها أحيانا شعرا وفنّا، أو من خلال كتابة رامزة ذات صبغة تخييلية"
ثم تطورت دلالتها. فأخذت معنى "العقل الإلهي" و"القوة
المدبّرة للكون" و"الواسطة بين الذات الإلهية والعالم". فقد أفاد
اليهود من تمييز هيراقليطس وأنكساغوراس بين "العقل بالقوة أو العقل
الكامن" و"العقل بالفعل" المتجلي في المخلوقات. ومثلهم، وبتأثير
منهم، فعل والمسيحيون وفلاسفة الإسلام ومتصوفته. وكانت الكلمة في اليهودية تعني
كلمة الله وتقديره ثم أصبحت تدل بعد تفاعل الفكر اليهودي مع الفلسفة اليونانية على
العقل يهوه. ومن ثمة انتهى فلاسفة اليهود إلى أنّ كلمة الله مصدر الوحي حافظ للكون
ومدبّرة له.
وإلى هذه الخلفية النظرية يردّ الدّارسون مثلا تقدير ابن عربي أنّ
"الإنسان الكامل"، "روح للعالم" أو "صورة لله" أو
أنه "خلق على صورة الله". فتصوّفه عندهم متأثر بنظرية الكلمة في الفكر
اليهودي. وإليها يرجعون إدماجه للأسماء والصفات الإلهية في تحديده لماهية الإنسان.
"فروحه، يقول ابن عربي، روح مصغّرة من روح الله وعقله صورة مصغّرة من العقل
الكلّي وجسمه صورة مصغّرة من العالم الطبيعي" ومن هنا مأتى "الكون
الأصغر" ذلك المفهوم المحوري في تصوّره الذي يقابل الكون عامة أو "الكون
الأكبر". وإليه يعود التناظر في فكره الصّوفي بين الوجود والإنسان والقرآن.
على أنّ بعض الدراسات تجاوزت المقارنة بين الفكر اليهودي والتصوّف الإسلامي والبحث
في الخلفيات النظرية إلى الإشارة إلى تشابه في الممارسات والطقوس أحيانا.
3
يرصد الباحث اتجاها ثانيا في تحديد أصول التصوّف الإسلامي. ومضانه
مباحث المستشرقين خاصّة. فهم يتفقون، بدرجات مختلفة وتصورات متباينة أحيانا، في
تأكيد دور التّعاليم المسيحية في نشأة هذا التّصوّف الإسلامي. ويحاولون عرض أسسها
النّظرية مبيّنين أنّ التصوّف مثّل نظاما فكريا وفلسفيا لتأويل النصّ القرآني
تأويلا مختلفا عن القراءة الحرفية التي ميّزت الفقهاء، يستند إلى لغة أدبية رامزة
ذات بعد إشراقي عرفاني ذوقي. فالتّجارب الرّوحية لدى كبار متصوفة الإسلام هي في
جوهرها سعي لتجاوز حدود الإيمان بما هو تصديق يتبعه العمل، إلى مداومة الذّكر والتّأمل
إلى بلوغ درجة المعرفة المباشرة التي تهيئ لها تجليات وواردات عالية. فيكون سبيلها
الكشف والبصيرة. ويمنح هذا التصوّر للإيمان العابد روحانية متعالية ويقينا داخليا
عميقا.
ويردّ المستشرقون هذه النزعات الناشئة في الإسلام إلى تأثّر المتصوفة
بشدّة بنساك العصور الوسطى وعبّاده واللاهوتيّيه. فاقتبسوا طقوس الرّهبان. وحاكوا
تعبّدهم وزهدهم. وأخذوا عنهم مبادئ المحبة الإلهية ومبادئ الرهبنة المسيحية. وهو
الرأي نفسه الذي قال به بعض الفقهاء والسبب في إقصاء الفكر الصّوفي من دائرة البحث
عند قدماء المفكرين المسلمين. فلم يتمّ الرّجوع إلى مدوناته والاشتغال عليها إلاّ
من خلال دراسات المستشرقين.
العقائد المسيحية التي كانت منتشرة في الشام ومصر ترتكز بدورها على الاعتقاد بكلمة الله. وكان للرّهبان صلات بالمسلمين وتأثير في المتصوّفة، وهو ما يؤكده القدماء كابن الجوزي أو المعاصرون كأبي العلاء عفيفي، مع تباينات مختلفة.
فمن أطروحات ماسينيون مثلا قوله بأنّ جوهر تصوّف الحلاج يعود إلى
البعد الحلولي المسيحي. فقد وسّعه وارتقى به من التّطهر الروحي إلى الحلول بالذات
الإلهية إلى الفناء فيها. ولئن نقد المستشرقون آخرون هذا التصوّر ووجدوه مغاليا في
ربط الصلة بين الحلاج والفكر المسيحي، فإنهم لم ينفوا وجود جسور متينة بين
المسيحية والتصوّف الإسلامي.
يردّ المستشرقون قول المتصوّفة بالاتحاد بالذّات الإلهية والفناء
فيها إلى نظرية الكلمة، من منظور مسيحي. فالعقائد المسيحية التي كانت منتشرة في
الشام ومصر ترتكز بدورها على الاعتقاد بكلمة الله. وكان للرّهبان صلات بالمسلمين
وتأثير في المتصوّفة، وهو ما يؤكده القدماء كابن الجوزي أو المعاصرون كأبي العلاء
عفيفي، مع تباينات مختلفة. وكلمة الله في المعتقدات المسيحية هي المسيح نفسه. فهو
"ابن الله الذي هو على صورته" و"الروح السارية في الكون" ثم
تأخذ هذه النّظرية معنى القوة العاقلة أو القوة الأزلية القديمة. فالمسيح وفق
كلمنت أحد أبرز مدرسة الإسكندرية المسيحية ق 2 ـ 3 للميلاد هو هذه القوة العاقلة.
وهو "مصدر الحياة في الوجود" و" مصدر العلم والوحي".
5
يردّ الباحث مقولات التصوّف الإسلامي الكبرى ذات الصّلة بقضايا
المعرفة والوجود والإلهيات والإنسانيات إلى التأثر بالديانتين اليهودية والمسيحية
إذن. ولهذه المقولات، في الديانتين أصول فلسفية يونانية. وعليه فمن ضمنيات الأثر
أنّ التصوّف الإسلامي يصدر عن مقولات التراث الفلسفي اليوناني وإلى مبادئ
الأفلاطونية المحدثة الخاصّة بالفيض، التي مدارها على النور الإلهي وإشراق المعرفة
في الذات إشراقا نورانيا مولدا للسعادة
الروحية. ويتمّ هذا التأثر بطريقة غير مباشرة. فتمثل اليهودية والمسيحية جسرين
واصلين يعبر من خلالهما هذا الفكر إلى تصوّراتهم وإلى البيئة الثقافية العربية
عامّة.
وطبيعي أن يتأثر في كل حاضنة بخصائصها المعرفية، أو بطريقة مباشرة.
فيتأثر المتصوّفة بالتراث اليوناني فينفتح خطابهم عليه ويقتبس مصطلحاته ومفاهيمه
دون أن يتماهى معه أو يتحوّل إلى خطاب فلسفي صرف. ومما يعرض الباحث من وجوه تأثير
الأفلاطونية المحدثة خاصّة في هذا التصوّف قول أصحابه بالكشف والشهود ونظرياتهم في
المعرفة وفي النّفس التي تنزل من عالم المثل أو كلامهم عن العقل الأول والنّفس
الكلية والفيوضات. وتم ترحيل مفهوم الحكمة إلى التصوّف. فلكل هذه
المفاهيم ما
يناظرها مثلا، في قول محيي الدين بن عربي في وحدته الوجودية وفي نظريته في الحقيقة
المحمدية التي يعدّها أول فيض من الذّات الإلهية.
ويردّ الباحثون الذين يعتقدون بتأثر التصوّف الإسلامي بالتراث
الإغريقي الفضل إلى كتابات ترجمت إلى العربية مثل "قول في الربوبية" وهو
ملخص لكتاب "التاسوعات" لأفلوطين وقد كان ينسب خطأ إلى أرسطو وكتاب
"الإيضاح في الخير المحض" الذّي ينسب بدوره إلى أرسطو خطأ، وهو في الأصل
ملخص لكتاب المبادئ الإلهية لابروقلس وأثر "الله المقدس" لكاهن سوري
مجهول الاسم من تلاميذ استيفن بارصديلي.
6
ولأنّ الباحث مأخوذ بفكرة جعل أثره جامعا مانعا أخذ يعرض وجوه
التشابه بين تجارب روحية وثقافات دينية إشراقية لدى أمم أخرى. فيجد في الثقافة
الفارسية وما تنطوي عليه من الحكمة الإشراقية وفي الثقافة الهندية وما في البوذية
من قول بالحكمة والتّسامي الروحي أصولا للتصوّف الإسلامي أيضا. ففي الحضارتين سعى
الحكماء إلى إدراك الحق واليقين إدراكا مباشرا وإلى الفناء في موضوع المعرفة
وانتهى بهم الأمر إلى وجوه مختلفة من الاندماج في أسرار الربوبية. وهذا يصادف نزوع
المتصوّف المستمر إلى أن يكون صورة جامعة لكل المعارف ولجوهر الحقائق. فتسربت
مقولاتها إلى خطابه وهو يحاول أن يجاوز حدود المتناهي إلى اللامتناهي والنسبي إلى
المطلق. ولكن يقدر أن الأمر يتجاوز الاقتباس والتأثر. إنه شكل من أشكال التلاقي
دون التماهي. فقد كان يتمثّلها ثم يعيد إنتاجها في نظام معرفي وأخلاقي جديد.
7
تبدو رغبة الباحث محمد الكحلاوي في الإحاطة بمسألة التّصوّف الإسلامي
وضبط صلتها بالنّزعات الصوفية في الفكر الإنساني عامة جلية. وهذا ما يؤكّده.
فيختزل القول في طبيعة الوشائج وأنظمة العلائق التي ربطت التّصوّف الإسلامي
بالأنساق الثقافية والفكرية والدينية الناشئة في حضارات الأمم الأخرى بقوله
"إنها لم تكن رفضا مطلقا كما لم تكن قبولا أو محاكاة باهتة، وإنما كانت
تواصلا جدليا يقوم على التفاعل المثمر وعلى النقد والتجاوز، التماثل والاختلاف،
الانصهار وإعادة الإنتاج."
فضلا عن ذلك يذكر محمد الكحلاوي في تقديم الكتاب "إن مقصدنا
الأسمى من خلال هذه المقاربات التي ننزلها ضمن مباحث "التصوّف المقارن"
يتمثّل في محاولة التأسيس لأرضية معرفية نظرية ذات معقولية منطقية نقرأ في ضوئها
موروثنا الفكري. وننظر من خلالها إلى علاقة هذا الموروث بثقافات الآخر". لكن
هل يصل إلى صياغة "أرضية معرفية نظرية ذات معقولية منطقية" كما يعلن؟
فرغم الجهد المبذول في الجمع والتوثيق والتأليف بين المقاربات المختلفة من قبل
الباحث، نقدّر أنّه رفع الرّهان عاليا جدّا. فهو لم يشتغل على النص الصوفي مباشرة.
واكتفى بعرض بعض المباحث وتلخصها وترتيب أفكارها. زد على ذلك أنّ متن الكتاب قد اقتصر
على نحو 140 صفحة بعيدة عن التّكثيف والاختزال والرؤية التأليفية الجامعة. ومثل
هذا الحيّز لا يمكن أن تستوعب مبحثا ضخما مشكلا كُتب فيه من خلفيات كثيرة ومقاربات
منهجية متباينة.