كتب

الولايات المتّحدة وحلف الناتو يضيّقان الحصار على روسيا

لروسيا مصالح مهدّدة: قاعدتها العسكرية، مفاعلاتها النووية، حماية السكّان الناطقين بالروسية والسكّان الروس (كما في القرم)
الكتاب: هل يجب أن نكره روسيا؟
الكاتب: روبير شارفان
ترجمة: د. مروان إسبر
الناشر: الهيئة العامة السورية للكنتب، دمشق 2022
(248 صفحة من القطع الكبير)


أوروبا الغربية لا تحبّ سوى من يميل للتشبّه بها


إنّ عملية دمج أوكرانيا بروسيا، أي أوكرانيا هي ضحية البولونيين والتي طالبت بها السلطات الوطنية نفسها عام 1667م، ليس لها أيّة قيمة وفقاً للغربيين، سوى تسهيل عملية دخول نفوذٍ معيّن مصدره الغرب والذي تأكّد في القرن الثامن عشر. في نظر الغربيين وحدهما عهدا بيير العظيم والملكة كاترين الثانية حظياً بالرعاية. السبب في ذلك هو عملية «التحويل الغربية» للآداب والأذواق. ويُرى في ذلك ظواهر إيجابية مثل «عملية التحويل الشكلي» التي قام بها كمال أتاتورك في تركيا. ولا تحبّ أوروبا الغربية سوى مَن يميل للتشبّه بها. وأخيراً منح تحدّي الطبيعة الذي يمثّلها تشييد سان بطرسبرغ (التي أُعلنت كعاصمةٍ عام 1713م)، روسيا «نافذةً على البحر». فضْلُ الملكة كاترين الثانية الرئيسي هو في أنّها كانت حسّاسة نحو عصر التنوير الفرنسي خصوصاً بشخص فولتير.

بالنسبة لها، فهي تعترف بعمل بيير العظيم، مع بعض التحفّظات التي لا بدّ منها حول ذوقه الإنساني. وما يتمّ وصفه رغم كلّ شيء "بالانفتاح على العبقرية الغربية" يرتبط بوصف "الانعزال". نلاحظ بالتوازن أنّ أوروبّا لم تقم أبداً بأي "انفتاح" على العبقرية الإسلامية مع أنّ جذورها هي إسلامية ـ يهودية ومسيحية.

يقول الكاتب شارفان بهذا الصدد:"رجعت العدوانية مع حرب القرم (1853 ـ 1856)، إذْ أخذت فرنسا على نيكولا الأول "إرادته في أن يأخذ كامل مكانته في الجالس الأوروبية". أمّا بالنسبة لإنكلترا فهي تعطي ألمانيا، وفقاً للوضع الديني لمدينة ساليسبري /Salisbury/ (1879)، ما يضمن أنّها ستكون إلى جانبها في حالة الصراع مع روسيا. من الآن فصاعداً لعبة النفوذ الغربية التي شرعنها أهل الفكر المهيمنون الخاصّون، هي عملية استخدام روسيا كأداةٍ عندما تبدو لهم "مفيدة"، مع الاحتفاظ بها على هامش مجلس الأمم. بهذا الشكل ينصح عام 1895 غييوم الثاني بالقيام بكلّ شيء من أجل "تعليق روسيا بالشرق الأقصى لكي تنشغل بشكلٍ أقلّ بأوروبا". وهو يدعم المطالب اليابانية ضدّ روسيا (في منشوريا، في كوريا، إلخ..) بينما ستمضي إنكلترا لحدّ عقد تحالفٍ مع اليابان.

ضغينة علماء التاريخ الغربيين في ذروتها بالنسبة للضابط م.بومن /M.Baument/. روسيا "تجسّد آسيا في نواحٍ عديدةٍ"! لم تُقدّم الهزيمة العسكرية الروسية بعد العدوان الياباني عام 1904 ولا بأي شكلٍ على أنّها فشلٌ لأوروبا في آسيا، وهي هزيمةٌ ذات نتائج وخيمة بالنسبة للغربيين، بل كإضعافٍ مفيدٍ للغرور الروسي. رجال القانون ما يزالون غير مدينين بذلك. إنّ تحليل كتب القانون الدّولي التي نُشرت في القرن التاسع عشر وفي بداية القرن العشرين في أوروبا الغربية، والتي تعكس عقيدة شبه مطلقة، هو تحليل كاشف، خاصةً في بلدانٍ مثل فرنسا المتأثّرة بشدّة بالتشريع القانوني والحسّاسة للفرضيات القائمة على المشاكل الشرعية"(ص155).

شيطنة روسيا من قبل المنتصرين في الحرب الباردة

تبقى العدوانية الغربية متّقدة لا سيما وأنّ أملاً كبيراً ظهر غداة نهاية الاتّحاد السوفييتي مباشرةً، وهو روسيا التي أصبحت قوّة كبرى من الدرجة الثانية، والتي قبلت هذا الإبعاد، إذْ لم يكن لديها أي تأثير في أوروبا وبشكلٍ أقل في العالم.

وكما فعل المنتصرون في أحداث باريس الدّامية (كومونة باريس)، لم يكتفِ المنتصرون في الحرب الباردة بالقمع [في فرنسا عام 1871] ولا بتفكيك (الاتّحاد السوفييتي في سنوات 1990)، بل هم بحاجة لشيطنة المهزومين. بالنسبة لبيسمارك و"الجمهوريين" المحافظين الفرنسيين، لم يكن أنصار ثورة 1871 سوى جانحين عن القانون العام يجب معاملتهم كجانحين عن طريق قتل الذكرى فيهم. بالنسبة للثورة في روسيا، فهي لم تكن سوى مظهرٍ إضافيٍ لتأخّرها الثقافي يتعلّق الأمر بضمّه إلى معاداة الروس التقليدية. في كلتا الحالتين، يتعلّق الأمر بإبعاد الهجمة البربرية المفاجئة في قلب الحضارة الغربية.

"البرهان" على هذه النظرية هو تشابه الطرق القمعية، أي خرق حقوق الإنسان: إعدام الرهائن، ومنهم رئيس أساقفة باريس، الهمجية التخريبية لأنصار ثورة 1871، جرائم البلشفية ومنها إعدام نيكولا الثاني والوحشية الستالينية في روسيا.

تبقى العدوانية الغربية متّقدة لا سيما وأنّ أملاً كبيراً ظهر غداة نهاية الاتّحاد السوفييتي مباشرةً، وهو روسيا التي أصبحت قوّة كبرى من الدرجة الثانية، والتي قبلت هذا الإبعاد، إذْ لم يكن لديها أي تأثير في أوروبا وبشكلٍ أقل في العالم.

شيطنة روسيا السوفييتية تمرّ عبر الاتّهام الموجّه إليها بخرق المبادئ الديمقراطية: هذا الخرق هو في "طبيعة" المجتمع الروسي ذاتها. إنّها "غير قابلة للتصحيح". في الحقيقة، إنّ ما يتمّ مقاضاته واتّهامه هو تأكيد السلطات الروسية على سيادة روسيا وعودة نفوذها، مقلّلةً هامش المناورة للعالم الغربي. تنتج الحملات المعادية لروسيا (مثل الحملات المعادية للصين) عن السخط الذي أثاره واقع أنّ مساحاتٍ شاسعةً أفلتت من التأثير السياسي الأمريكي والأوروبي الغربي مضيّقةً انتشار المصالح. إنّه "نقصٌ كبير يجب تعويضه" بالنسبة للغرب.

العالم الغربي يؤكد دائما بأن روسيا تغيب عنها الثقافة الغربية القائمة على  نشر قيم الديمقراطية الليبرالية، و فكرة العقد الاجتماعي والسيادة الشعبية، وهي أسس العالم الغربي. ما يمكن أن يسود في روسيا اليوم كما في الماضي هو "الهذيان الجماعي، وعقدة الحصار"، والقناعة بأنّ "تآمراً كونياً يهدّدها".

يقول الكاتب شارفان في نقده المركزية الغربية :"في بعض الأحيان، المبادرون الغربيون نفسهم ينتحلون صفةَ الممثلين "للمجتمع الدّولي"، محتالين على مجلس الأمن ويمارسون التدخّل المسلّح المباشر أو غير المباشر متذرّعين مثلاً "الدفاع الاحترازي المشروع عن النفس" (وهذا لا معنى له) لأنّ مجرّد أي تهديد بعيدٍ في الزمان والمكان يمكن أن يُشبّه بعدوان. باسم "الديمقراطية" (السياسية الصرفة، تنظيمها الاجتماعي غير مأخوذ بالحسبان) التي يجب على الدّول أن تتقيّد بها وفقاً للأنموذج الغربي، تستخدِم الدّول الغربية التدخّل باسم "الإنسانية") أو باسم "نصيرة الديمقراطية". وقد تدخّلت الولايات المتحدة بهذا الشكل ضدّ /غريناد/ منذ عام 1983، ومن ثمّ في العراق1991و2003، وقامت الدّول الأوروبية بالأمر نفسه خلال أزمة كوسوفو.

تدخّلت القوى الغربية، وبدعمٍ مباشرٍ من دول إقليمية ، بشكلٍ غير مباشرٍ ضدّ النظام السّوري معترفةً بالتمرّد حتّى قبل أن يكون لديه تأثير حقيقي. أصبح هذا النوع من التدخّل غير المباشر في شؤون الدّول، إذْ تقدّم الدول نوعاً من الممارسة التافهة. هكذا كان الحال مع التمرّد في مصر (تموّل الولايات المتحّدة في مصر)، كما هو الحال بالنسبة للهياج الشعبي في كييف، في أوكرانيا عام 2014"(ص193).

وهكذا تمّ القضاء على فكرتين أساسيتين من القانون الدّولي المعاصر وهما سيادة كلّ دولة لمصلحة الأنموذج الغربي للنظام السياسي، وعدم اللجوء إلى القوة، لصالح حقّ مستعارٍ للقيام "بحربٍ عادلةٍ". تمّ وضع خبرات القانون الدّولي للقرن العشرين موضع اتّهام بشكل خاص تلك التي تمثلها نصوص ميثاق الأمم المتحدة التي شاركت فيها روسيا بفعالية: بهذا الشكل تكون هناك عودة لأخلاقٍ دولية منتحلة، قريبة من المعمول بها في القرن التاسع عشر، دون إثارة ردّات فعلٍ من جانب رجال القانون الغربيين مع بعض الاستثناءات.

الولايات المتّحدة وحلف الناتو يضيّقان الحصار على دولة روسيا 

الأمر نفسه ضمن النظام الدّولي، لا تنتفع السياسة الروسية من أي رصيد. وسائل الإعلام الغربية لا تمنحها سوى "سلطة الإضرار". يعتني العالم الغربي في الواقع بفكرة أن التوسّعية الروسية التي تحرّكها "إرادة التأثير" وحدها، مستمرّة رغم نهاية الاتّحاد السوفييتي. وتثبتت الدولة الروسية بالمقابل من تفكّكها الذي نظّمه الغرب منذ عام 1991 مدفوعاً باقتران عمل القوميين المحليين مع الأمل (عند بعض طبقات الشعب المتأثّرة بجاذبية مستوى الاستهلاك الغربي) بميّزات اقتصادية.

عوملت روسيا التي هي في موقع الدّفاع، بشكلٍ متناقض كقوّة عدائيةً من قبل الدول الغربية التي تحثّ على الانفصالية التي هي ضحيّتها. إضافةً إلى أن الولايات المتحدة وحلف الناتو يضيقون الحصار على دولة روسيا مع أنّها لم تعد تمثّل الخطر المشهّر به في العهد السوفييتي. تضاعَفَ عدد القواعد العسكرية على مقربةٍ من الأراضي الروسية. مصالحها الخارجية، وضرورات دفاعها الوطني، والأقليّات الروسية الموجودة في محيطها الخارجي ليس إذاً المعادلة لروسيا مهما كانت خلال الخمس والعشرين سنةً الماضية التي تلت زوال الاتّحاد السوفييتي. وتستمرّ بالقيام بذلك.

مواجهةٌ أخرى مباشرة مع العالم الغربي بالنسبة لروسيا هي مسألة أوكرانيا. تخضع أوكرانيا منذ القرن السادس عشر إلى تأثير مضاعف لروسيا وللبلاد العدائية تجاه روسيا مثل النمسا، بولونيا ثم ألمانيا. بدءاً من القرن الثامن عشر، كانت تشكّل جزءاً من روسيا. مع حلّ الاتّحاد السوفييتي، أصبحت أوكرانيا مستقلّة عام 1991. اعتباراً من الانتخابات الرئاسية عام 1999م كانت في وضع من التشويش، وكانت معاديةً لروسيا. عام 2010، السيدة تيموشينكو /Timochenko/ الموالية للغرب والتي كتبت في المجلّة الأمريكية "قضايا خارجية أجنبية"(أيار حزيران 2007) "احتواء روسيا!" ، هُزمت في الانتخابات أمام ايانوكوفيتش /Ianoukovitch/ الذي كانت خياراته السياسية غامضة: تمّت مساعدته في أثناء انتخابه من قبل الحزب الجمهوري الأمريكي ومستشاريه القادمين من الولايات المتّحدة (مثل كلّ المرشّحين الآخرين)، إلا أنّه سيستدير نحو روسيا نهاية الأزمة عام 2014.

مهما كانت درجة الاستيار عند قسمٍ من سكّان كييف، والتي كانت حقيقية في مواجهة إدارة سيئة أكيدة، فإنّ إقصاء رئيس الدّولة هو قبل كلّ شيء ثمرةٌ سياسية "تصدير الديمقراطية" التي قادها الرئيسان بوش وأوباما، بالأساليب نفسها المتّبعة مع الانتفاضات العربية، الجورجية، والقرغيزية. تحتلّ قرغيزيا موقعاً استراتيجياً على الحدود مع الصّين، وتستضيف قاعدة روسية وقاعدة أمريكية أكثر ضخامةً بعشر مرّات. افتُتِحَ مركز إعداد وتكوين للقرغيزيين تنشّطه مختلف المنظّمات الأمريكية. عام 2009 وصل "تصدير" الديمقراطية إلى أوكرانيا بعد حركات التمرّد في البلاد العربية.

في الواقع ليست الحالة الأوكرانية استثناءً. فالمال الآتي من الولايات المتحدة يغذّي عدداً من الهيئات ومراكز "الدراسات" والجمعيات والمؤسسات، وشخصيات الشتات، إلخ.. للبلد المستهدف. يمكن أن نذكر المعهد الدولي الجمهوري (بإدارة السيناتور ج.ماك كين /J.mac. Cain/، خصم أوباما)، مؤسّسة أينشتاين (التي تعلّم "كيف نتآخى مع الشرطة"، "وكيف تُضعف جيشاً"، "كيف نحلّ نظام السلطة"). في كلٍّ من هذه البلدان، يشكّل الطلاب والشباب غير المنظّم قوّة ضاربة يسهل إغراؤها: اكتشافهم للأساليب السياسية ذات الطابع الأمريكي يساعد على جذبهم في مواجهة تقنيات تقليدية للإشاعة بشكلها القديم.

يقول الكاتب شارفان: "لروسيا مصالح مهدّدة: قاعدتها العسكرية، مفاعلاتها النووية، حماية السكّان الناطقين بالروسية والسكّان الروس (كما في القرم). أدلى هنري ليفي /B.H. Levy/، الناطق الحقيقي للرئاسات الفرنسية المتعاقبة في كييف، بخطاب بليغ وحربيّ مهاجماً بشكلٍ مباشرٍ روسيا. عندما توجّه بتاريخ 2 آذار عام 2014 إلى السكّان في كييف، شهّرَ بشكلٍ سوقيّ ومبسّط برئيس الدّولة الرّوسية: "أنتم وقفت بوجه بوتين!" لدينا وسائل لمعاقبته.. لتسقط القوائم في القرم! الرجل الذي يخترق الحدود الأوروبية، والذي يثير الفوضى في أوروبا لا مكان له في المجتمعات الكبيرة! "أمام ردهة المسرح وأمام المتشدّدين بعضهم دون شكّ معادون للسامية. ذهب هنري ليفي في تماديه إلى حدّ التجرؤ والتلفّظ بشعار الجمهوريين الإسبان المعادين لفرانكو "لن تمر، No Passaran"! تميل الدبلوماسية الغربية مع البقاء حذرةً من أجل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية بدعمٍ من وسائل الإعلام، إلى أن تستنسخ بالمضمون النموذج الخطابي نفسه"(ص205).

وهكذا يقلب الناطقون باسم العالم الغربي والمسؤولون السياسيون أو أشباه المفكّرين المواضيعَ الحقيقية محرّكين زعماء الأزمة الأوكرانية. يتجرّأ العالم الغربي على اتّهام روسيا بأنّها دولة مصابة بالهذيان وعدائية، منكراً أنّ كل شيء قد تمّ القيام به لجعل التأثير الروسي يتراجع عبر قلب النظام الدّاخلي للدول المجاورة وإقامة قواعد عسكرية أمريكية بعيدة جداً عن الولايات المتّحدة في كل محيط روسيا. بوصفه التمرّد في كييف "بالثورة"، وبتساهله مع الوجود العلني للقوى المعادية للديمقراطية في صفوفه (مثل" "Section Droit و"Svoboda")، وبتصفيته النظام الدستوري السابق "للثورة"، يجرؤ العالم الغربي مع ذلك بالتشهير بعدم احترام الشرعية الدستورية من قِبل سلطات جمهورية القرم المستقلّة ومن قِبل روسيا (قضية الاستفتاء على الارتباط بروسيا الاتحادية).

إقرأ أيضا: هل تجاهل الغرب مصالح روسيا وإمكاناتها في لعب دور في العالم الجديد؟

إقرأ أيضا: لماذا عدّت روسيا مواجهتها مع ألمانيا النازية حربا وطنية عظمى؟