كتاب عربي 21

كأس العالم.. قراءة في ردود فعل الشارع والنخب

1300x600

الكأس في قطر حديث العالم اليوم لا بحجم الإبهار والنجاح الذي حققته الدوحة بما هي اليوم وجه العرب وصوتهم وصورتهم فقط، لكنه أيضا بفعل ما حفّ بأول كأس عربية من جدل تداخل فيه السياسي بالرياضي بالدبلوماسي بالثقافي العقائدي وخاصة بالبعد الحضاري.
 
لم يدرك الشارع العربي إلا مؤخرا طبيعة المعركة وحجم التحدي وعنف الجولة الحضارية المشحونة بكل أبعاد الصراع بين الشرق والغرب وهو ما عبرت عنه صحيفة "لوموند" الفرنسية الشهيرة في أحد أعدادها الأخيرة حين ربطت سياق الحملة على قطر في فرنسا بحمولتها الحضارية الجيوستراتيجية لأنها واقعة بين امبراطوريات آفلة وقوى مشرقية صاعدة. 

من جهتها بقيت النخب العربية باستثناءات نادرة وفية لإنكار معارك الأمة فأشاحت البصر عن الهجمة الإعلامية التي تتعرض لها الدوحة بل إن ما يسمى زورا "البرلمان العربي" قد رفض رئيسه إدانة الهجوم الشرس على دولة عربية. 

وعي "الكتلة الخرساء"

الشارع العربي منفصل عن الأنظمة السياسية الحاكمة وهو جسم عريض غير موحّد البنية والخصائص والوظيفة لكنه يحمل رغم ذلك مكوّنا مركزيا يسمى بالكتلة الاجتماعية أو "الكتلة الخرساء" التي تمثل وسط الجسد العريض. وهي الكتلة الواقعة بين أقصى اليمين المهادن التابع للسلطة ولسرديتها وإعلاميها وأقصى اليسار حيث القسم الثوري الأكثر حركية ورفضا للنظام الرسمي بكل أطيافه القومية أو الإسلامية أو اليسارية أو اللبرالية. 

هذه الكتلة الوسطية هي كتلة ثقيلة الحركة بطيئة ردّة الفعل لكنها تبقى كتلة تابعة شديدة القابلية للانزياح فتنزاح إما يمينا أو يسارا حسب سياق حركة المجتمع فنراها مثلا تنساق وراء الحركة الثورية يوم كانت الموجة الثورية في أوجها ثم نراها خاملة جاثية يوم تمكّن العسكر من الثورات ورموزها. هذه الكتلة الخرساء هي جوهر الصراع اليوم بين النظام الحاكم الذي يعمل بكل الوسائل على إخضاعها وتدجينها وتضليلها وأحيانا بإرهابها من التغيير ومن الخروج عن الوضع السائد وبين القوى الثورية الصادقة التي تحاول تحريكها وتجميعها وإيقاظها لأنها وحدها القادرة على إسقاط النظام وتحرير الإنسان.
 
نفس هذه الكتلة هي التي أقنعتها أذرع النظام الرسمي الإعلامية بأن قطر "دولة إرهابية" وبأن الجزيرة "قناة الفتنة" وبأن الدوحة هي التي أشعلت ثورات الشعوب متحالفة مع الصهيونية العالمية وغيرها من الأكاذيب التي صدّقها كثيرون. 

في تونس مثلا وحتى في مصر وسوريا وليبيا نجح الإعلام الرسمي في إقناع كثيرين بذلك مستفيدا من حالة التمزق التي ضربت محركات الوعي العربية ومضاداته الحيوية بعد عقود من التجريف والتصحير ونشر شعارات المقاومة والممانعة ومحاربة الرجعية. "لا أمريكا لا قطر" هكذا كانت أبواق النظام القديم في تونس تهتف دفاعا عن السيادة الوطنية لتوهم الكتلة الخرساء بأن قطر وأمريكا والإخوان متحالفون ضد تونس التي تسبح فوق محيطات من التخلف والفقر والفساد وانسداد الأفق وصولا إلى الجوع والانتحار عبر قوارب الموت !

 

مع انحسار الموجة الثورية وعودة الاستبداد إلى السلطة في أكثر من دولة بالمنطقة نقصت حدة التشنج بين الأنظمة العربية منذ قمة العلا بالسعودية. ثم إن كل التهم والأكاذيب التي روّجت عن قطر ظهرت سرابا ولم تثبت منها تهمة واحدة بالدليل المادي.

 



لا يمكن أن ننكر حجم النجاح الذي حققته هذه الحرب الإعلامية على الدوحة لتدفع ثمن رفضها الانقلابَ على مطالب الشعوب والمشاركةَ في ذبح الثورات. لم يسلم أحد تقريبا من رموز الدولة من الشيطنة والقذف والتجريح حدا تجاوز كل حدود المنطق والدين والأخلاق والعرف. كان النظام الرسمي العربي يخوض معركته الوجودية التي إن هو خسرها فلن يعود إلى الوجود يوما لذا كانت كل الضربات مباحة وصولا إلى الحصار برا وبحرا وجوا وتهديدا بالغزو العسكري.
 
اللافت في الأمر أن هذه الحملة ضد قطر قد تحالف فيها النظام الرسمي العربي مع الكفيل الأوروبي والأمريكي والصهيوني يوم صرحت صحف دولة الكيان بأن "قطر هي الراعي العالمي للإرهاب في المنطقة وأنها عبارة عن نزل خمسة نجوم للإرهاب الإسلامي". هكذا تقاطعت بشكل علني أهداف الاستبداد العربي مع الأطماع الصهيونية والهيمنة الأمريكية.
 
لكن لسائل أن يسأل : أليست قطر مطبعة مع دولة الكيان ؟ أليست تأوي أضخم القواعد الأمريكية على أرضها ؟ نعم هذا صحيح فكل الدول العربية مطبعة سرا أو علنا وقد قامت الدوحة بتلك الخطوة للمساهمة في تمويل المشاريع الفلسطينية في القطاع والدفع بعملية السلام لكنها أقفلت مكتب الاتصال في الدوحة بعد الانتفاضة الفلسطينية في 2001. أما القاعدة الأمريكية فتدخل في إطار التوازن الاستراتيجي لدولة صغيرة واقعة بين دولتين كبيرتين إيران شمالا والمملكة السعودية جنوبا. هنا تدخل القاعدة في إطار بحث الدوحة عن حليف استراتيجي قادر على ردع محاولات الاعتداء العسكري عليها خاصة وأن القواعد الأمريكية مزروعة في كل مكان بالخليج منذ نهاية الحرب الثانية. 

منعرج الشارع العربي 

مع انحسار الموجة الثورية وعودة الاستبداد إلى السلطة في أكثر من دولة بالمنطقة نقصت حدة التشنج بين الأنظمة العربية منذ قمة العلا بالسعودية. ثم إن كل التهم والأكاذيب التي روّجت عن قطر ظهرت سرابا ولم تثبت منها تهمة واحدة بالدليل المادي. في هذا السياق واصلت الدوحة استعداداها للحدث العالمي مع تواصل الهجمة الإعلامية الغربية عليها بعد الانحسار النسبي لموجة الهجمة العربية وقد ظهر جليا أن الهجوم على قطر حول كأس العالم بتهمة الإرهاب وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق المثليين وحقوق العمال.. لم تكن في الحقيقة إلا بدوافع عنصرية استشراقية استعمارية تحاول أن تفرض على الدولة المشرقية نموذجا ثقافيا وسلوكيا غربيا.
 
فكيف لدولة عربية مسلمة أن تنظم بنجاح الحدث الرياضي الأبرز في العالم مع التشبث بثقافتها وقيمها وتقاليدها العربية الإسلامية ؟ ليس النجاح هنا في تنظيم المناسبة فقط بل هو في اكتساب القدرات والخبرات التنظيمية واللوجستية من بنية تحتية واتصالات وأمن وتأطير للحشود الضخمة.. في بلد صغير جغرافيا وسكانيا.
 
هذه المعطيات وهذا الوعي القاعدي هو الذي دفع الكتلة الشعبية الوسطى التي تكوّن الشارع العربي إلى التعاطف مع قطر والدفاع عنها لأول مرة بهذا الوضوح وهذه القوة. ظهر ذلك جليا على مواقع التواصل الاجتماعي العربية التي استنكرت دعوات المقاطعة ومحاولات فرض استهلاك الخمور والممارسات الجنسية الشاذة على الشعب القطري. بدا التعاطف أيضا من حالة الانبهار بالقدرات القطرية وضخامة البنية التحتية والمرافق الحيوية التي ظهرت للمشاهد العربي الذي صار يعتبر هذه الكأس وهذا التنظيم نجاحا شخصيا لأنه تنظيم عربي في دولة عربية على أرض عربية. 

" نخب العار" دائما في الموعد

باستثناءات نادرة هنا وهناك لم يصدر عن النخب العربية تعاطف بحجم المناسبة الرياضية رغم أن هذه النخب تدرك جيدا طبيعة المعركة الحضارية ورمزية كأس العالم بالنسبة للدولة المضيفة وللأمة ككل. النخب العربية كعادتها لا تمثل إلا النظام الرسمي الذي تقتات على موائده وهو ما نلاحظه جليا في البون الشاسع بين تعاطف الشارع العربي ودفاعه عن قطر بفطرة سليمة من جهة وبين الدعم الكاذب والمحتشم الذي تعبّر عنه المنصات الإعلامية التابعة للأنظمة الاستبدادية.
 
هذه المنصات الإعلامية تقودها نخب يرتكز وعيها على فطرة مشوّهة  تستند إلى حسابات السادة الكبار وإلى مناورات الكفيل لذا فإنها اليوم ترقب بحسرة وكمد ما يتناقله الإعلام العالمي من مشاهد احتفالية خيالية من الدوحة. سقطت ورقة التوت عن النخب العربية جميعها باستثناءات نادرة بعد أن كشفت السنوات العشر الماضية أن طاعونَ الأمة نخبُها وسياسيوها ومثقفوها وكتابها وصحفيوها وفنانوها.. فكيف يمكن أن نفهم أن تقود هذه النخب كل مواكب التحريض ضد كل تجربة عربية ناجحة ؟ كيف نفهم أن تعادي هاته النخب أحلام الشعوب وتتحالف مع المنقلب والمستبد والمغتصب والسفاح ؟ ماذا تستفيد نخب العار العربية من فشل قطر في استضافة كأس العالم ؟ أليست قطر دولة عربية مسلمة ؟ أليس شعب قطر شعبا عربيا مسلما كريما مسالما ؟ أليس نجاح قطر نجاح لنا جميعا؟
 
لماذا انبرت الأقلام في الغرب نقدا للدوحة وتهجما عليها واستنقاصا من قيمتها لأنها دولة عربية مسلمة ولم تتحرك الأقلام العربية ليس للدفاع عن قطر فهي لا تحتاجهم بل للدفاع عما ترمز إليه قطر من نموذج عربي نجح حين عجز الآخرون حتى على المبادرة. 

أعظم مصائب الأمة نُخبها التي أعمتها أحقاد الأيديولوجيا وأطماع المناصب وأوهام الأنا المنتفخة فلم تعد تفرّق بين خلافات الإخوة داخل البيت الواحد وبين الصراعات الحضارية التي تستوجب وحدة الجسد إن كان لا يريد الفناء.