كتب

كتاب يسلط الضوء على الزعامات الفلسطينية في العهد العثماني

عملت الدولة العثمانية على إضعاف الأطراف الفلسطينية المحلية المتمردة وعملت على تعزيز سيطرتها

الكتاب: دراسات في الزعامات المحلية الفلسطينية في العهد العثماني
الكاتب: خالد محمد صافي
الناشر: مؤسسة عيون على التراث للدراسات والأبحاث غزة ـ فلسطين، عام 2021م
عدد الصفحات: 272صفحة.


ظهر في فلسطين إبان الحكم العثماني عائلات فلسطينية، استطاعت بسط سيطرتها على مناطق واسعة من فلسطين التاريخية، شكلت بوجودها جزءا مهما من الحياة السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية، وتمكنت من القيام بدور الوسيط بين الدولة العثمانية ورعاياها في فلسطين، حاولت الدولة احتواء تلك الزعامات العائلية ضمن هيكلها الإداري فمنحتهم الألقاب، والمناصب الإدارية التي تتناسب مع الدور السياسي والإداري الذي تقوم به، إلا أن العلاقة مع ولاة الدولة لم تكن في انسجام تام، فكان هناك حالات توتر في العلاقة والمنازعات في حالات أكثر، واعتمدت تلك الزعامات على تحصينات من القلاع والقصور والأسوار؛ للدفاع عن نفسها ضد خصومها المحليين أو جنود الدولة.

تكمن أهمية الدراسة في اعتمادها على مصادر تاريخية متنوعة مثل: سجلات المحاكم الشرعية التي تشكل مصدرا رئيسيا من مصادر الدراسة للولايات العربية في العهد العثماني والوثائق العثمانية، وكتب الرحالة، ووثائق السفراء، والقناصل الأجانب، وتقارير البعثات التبشيرية والمذكرات والكتب التاريخية المعاصرة، وكتب التراجم، ووثائق العائلات.

في تقديمه للدراسة يقول الدكتور عبد اللطيف أبو هاشم: "هذا الكتاب مشروع تأسيس لدراسات معمقة عن حقب مفصلية من تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني" (ص1)، سلطت الضوء على الأسر المتنفذة التي تزعمت الوظائف الكبرى الحكومية، مثل آل مكي، وآل أبو غوش، وآل ماضي، وآل عبد الهادي في لواء غزة في أواخر العهد العثماني، كما بيّن صافي طبيعة العلاقة بين الحاكم العثماني في إسطنبول وأتباعه في الولايات التابعة له، وأوضح طبيعة الصراع بين الزعامات المحلية في غزة أو استحواذ ولاة صيدا على الحكم والنفوذ. 

كشف الكاتب مدى مساهمة قناصل الدول الأوروبية في زيادة الفتنة والتحريض على الزعامات المحلية، وأدى ذلك إلى زيادة تغلغلها في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، الأمر الذي كان له انعكاسه على فلسطين التي تزايدت الأطماع الغربية فيها، ونوه صافي في مقدمته إلى "أن هذا الكتاب، مجموعة من الأبحاث العلمية المحكمة التي تم نشر أغلبها في مجلات تاريخية محلية وعربية، ومؤتمرات علمية متخصصة"، (ص4).

الزعامات السياسية في لواء غزة في العهد العثماني 1516 ـ 1918م 

دخلت غزة تحت الحكم العثماني كجزء من بلاد الشام بعد معركة مرجع دابق 1516م، وأصبحت تتبع إداريا لولاية دمشق، وحكم غزة مجموعة من القادة العسكريين الأتراك، حيث لم تبرز به زعامة عائلية محلية قادرة على فرض حضورها السياسي والعسكري في خدمة الدولة العثمانية، التي كانت حريصة على فرض الأمن والنظام (ص11).

تمكنت عائلات عدة من حكم غزة، أهمها عائلة آل رضوان ذات الأصول التركية، التي أكد الكاتب أنها أسرة وافدة، وليست محلية، إذ تولى رضوان بك الحكم 1556 ـ 1572م، وكلف من نائب الشام بإمارة الحاج، ومن ثم عين رضوان بك واليا على اليمن أيضا، وتولى أخوه الأمير بهرام نيابة غزة، وبعد عودته لغزة تنازل عن الحكم لابنه أحمد بموافقة الباب العالي 1572م، الذي تمكن من توطيد أوتاد حكم العائلة في غزة مدة ثلاثين عاماً، التي استطابها وطنا له "أحمد رضوان، هو من صبغ وجود العائلة بصبغة محلية بغزة عندما رفض تولي نيابة حلب.. فما أرادها ولا ورد مرادها؛ لأنه يريد أن تكون غزة وطنا له ولأولاده" (ص15)، وشهدت غزة في عهده ازدهارا اقتصاديا، وارتبط بعلاقات تجارية مع البعثات الفرنسية.
 
ذكر الكاتب عدم تمكن القبائل البدوية في غزة من تولي مواقع ضمن السلطات المحلية، على الرغم من أنهم يشكلون نسبة كبيرة من غزة، "لم تنجح القبائل البدوية في تشكيل سلالة حاكمة محلية، تفرض حضورها على ولاة الدولة، فبقيت القبائل البدوية في دائرة الاتهام والملاحقة من قبل السلطات العثمانية في بلاد الشام، ولم يتم الاستعانة بها في حكم غزة، على اعتبار أنها تشكل مصدر التهديد للأمن، كما أن الزعامات القبلية لم تكن بدورها مستعدة لأن تكون جزءا من السلطة الحاكمة، على اعتبار أن تراثها وحياتها الاقتصادية تعتمد على الغزو والنهب، وهو ما يتعارض مع وجود الأمن والنظام"، ثم إن مصالح الطرفين لم تلتق بين سلطات تريد فرض الأمن والنظام، وتؤمن القوافل التجارية، والحج الشامي وبين قبائل همها النهب؛ لذلك بقيت القبائل البدوية مصدرا رئيسا لتهديد الأم، والنظام للدولة العثمانية (ص21).

 

لم تقم في غزة سلالة حاكمة من الزعامات المحلية كما حدث في سناجق فلسطين الوسطى في القدس ونابلس، بل قامت بها سلالات حاكمة ليست من أصول محلية، ولكنها ذات نشأة محلية كآل رضوان ومكي، إلا أنها لم تستمر طويلا.

 



واكبت غزة سلسلة من المتغيرات في أعقاب فرض القانون العثماني 1858م، الذي نص على تسجيل الأراضي، "فاتجه العديد من تجار المدن، والملتزمين، والمحصلين من الأفندية لامتلاك إقطاعيات كبيرة، أقلها مساحة بالشراء، وأكثرها بالخداع، وبسيف الحياء، وكرباج الملتزم لمن لا يقوى على دفع ما عليه"، (ص36).

جاء تقلد حسين باشا مكي 1757م لولاية دمشق، تتويجا لصعود أسرة محلية إلى الحكم، وعد الكاتب ذلك بحد ذاته مظهرا من مظاهر ضعف الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر، ورافق ذلك تراجع هيبة الدولة دينيا وعسكريا، كما أنه مثل انتقال مركز القوة والمبادرة من يد الدولة وولاتها، إلى أيدي العناصر المحلية المتمردة من قيادات محلية عساكر وشيوخ القبائل البدوية"، (ص45).

شهدت فترة الحكم القصيرة لحسين باشا مكي لولاية دمشق حادثتين مهمتين تعكسان تراجع هيبة الدولة العثمانية، تمثلت الحادثة الأولى في ازدياد سطوة ونفوذ اليرلية في دمشق على جند الدولة، القبيقول. أما الحادثة الثانية الأكثر أهمية، فهي مهاجمة البدو لقافلة الحج الشامي وإبادتها بصورة شبه كاملة (ص55)، وعن هذه الحادثة يقول: "تعد قافلة الحج الشامي من أهم قوافل الحج (قافلة الحج المصري، الحج العراقي، الحج اليمني) في الدول العثمانية، وكان لقوافل الحج أهمية خاصة للدولة العثمانية بشكل عام وللسلطان العثماني بشكل خاص... اتخذ السلطان لقب حامي الحرمين الشريفين، وهذا يقتضي تأمين سلامة الحجاج في المناطق الشرقية والشمالية"، الذين قدر متوسط عددهم في الشام بنحو 20.000 سنويا (ص62)، وشكلت هجمات القبائل البدوية الخطر الرئيس على القافلة، فعمدت الدولة إلى تأمين سلامتها، من خلال شراء ولاء بعض القبائل البدوية الكبرى التي تسيطر على طريق الحاج، وعرف المال الذي كان يدفع للقبائل بحق الطريق، أو الصرة؛ كونه يدفع على شكل صرة، يدفع نصفه في الذهاب والنصف الثاني بالعودة، وأرجع صافي مهاجمة القافلة الشامية عام1757م، إلى عدة عوامل في عملية مهاجمة ونهب قافلة الحجاج، أهمها امتناع حسين باشا مكي عن دفع مال الصرة للبدو وهي عادة مألوفة لديهم، في الوقت الذي كانوا يعانون فيه من شدة القحط وجفاف المياه وقلة المراعي، وكذلك استبعاد قبيلة بني صخر من عملية نقل الحجاج وتأجير الجمال لهم منذ ولاية أسعد باشا العظم، الذي اتبع سياسة شديدة تجاه القبائل الصغيرة، مثل قبيلة بني صخر، في مقابل التودد الذي أبداه تجاه القبائل الكبيرة، (ص69).

ثورة القدس وما حولها 1824 ـ 1826م

طرح الكاتب ثورة القدس بتفاصيل لم يرد لها ذكر في المصادر التاريخية اللبنانية المعاصرة، فلم تثر اهتمام المؤرخين اللبنانيين، واعتبر الكاتب أن عدم تناولها من المصادر الدمشقية يثير الاستغراب، على الرغم من مشاركة والي دمشق مشاركة فعلية في قعمها، وقد تمت تغطية الحديث عن الثورة فقط من قبل الراهب اليوناني نيوفتوسبيريدوم، الذي كان يقيم في دير يوناني في القدس، ووثق الأحداث في كتاب تحت عنوان حوليات فلسطينية 182- 1841م، الذي كان له الفضل في إماطة اللثام عن تفاصيل هذه الثورة، إلى جانب سجلات محكمة القدس الشرعية.

عديدة هي أسباب الثورة، وأهمها فرض الضرائب الباهظة على السكان من قبل المتسلم الذي عينه مصطفى باشا على سنجق القدس إسماعيل بك، الذي طالب بدفع عشرة أضعاف الأعشار التي فرضت في السابق؛ ما أدى إلى سخط وتذمر السكان الذين شاركوا في ثورة ساهم فيها الكثير من الفلاحين، والتذمر من سياسة الولاة المحليين وأسلوب جبايتها، ويقول الكاتب عن عادل مناع: "هدف الأهالي إلى تغيير الحكام وسياستهم فقط، وليس تحدي شرعية الحكم العثماني برئاسة السلطان"(ص84). وكان على رأس الفلاحين آل أبو غوشة، فعندما رأى مصطفى باشا أن الفلاحين سوف يدفعون فقط الضريبة المعتادة، عزز من قواته فأرسل مائة جندي لحراسة قلعة القدس، حيث لا يوجد هناك سوى ستين جندي فقط لحمايته، وأرسل إلى المتسلم مضاعفة الضريبة على الفلاحين، الذي أطاع الأمر، وبدأ بتنفيذه حيث قام الفلاحون على الفور بالثورة، وإذا طردوا رجال المتسلم من قرى نواحي السنجق (ص86).

 

واكبت غزة سلسلة من المتغيرات في أعقاب فرض القانون العثماني 1858م، الذي نص على تسجيل الأراضي، "فاتجه العديد من تجار المدن، والملتزمين، والمحصلين من الأفندية لامتلاك إقطاعيات كبيرة، أقلها مساحة بالشراء، وأكثرها بالخداع، وبسيف الحياء، وكرباج الملتزم لمن لا يقوى على دفع ما عليه".

 



حينما فشل إسماعيل بك في تحصيل الضرائب، قرر أن يقوم مصطفى باشا بجولة تفتيشية بنفسه، وجمع جيش من خمسة آلاف رجل، وانطلق من دمشق إلى نابلس، وطالب بتوفير الذخيرة والشعيرة، وتمركز في جنين، وأرسل تهديداته إلى القدس، ويتوعد المتهاونين في تنفيذ أوامره بسوء العاقبة ويحذرهم من التقصير، وأرسل لهم مرسوما تحذيريا، يحمل نبرات التهديد والوعيد: "قريبا بمشيئة الله، يتحرك ركابنا بطرفكم، فيقتضي أنه قبل حلول ركابنا يكون المطلوب خالصا من الجميع". وعليه أخفى بعض الفلاحين ممتلكاتهم في عدة أماكن، منها الأديرة المسيحية كدير الصليب الذي استولى عليه جيش الباشا، الذي أراد حسم الأمر عسكريا، وخشي رجال الدين من هدم الأديرة، فتوسطوا بين باشا دمشق والفلاحين لعقد الصلح بين الطرفين؛ منعا لقيام الباشا بتدمير أديرتهم بالمدفعية، ومنعا لإراقة المزيد من الدماء، وإلحاق مزيد من التدمير" (ص93). لقد أظهرت الثورة ازدياد دور الفلاحين في صنع الأحداث التاريخية، حيث إنهم أظهروا كفاءة واعية بحقوقهم، حريصة على الدفاع عن مصالحها ضد المتسلمين والولاة.

تبلورت زعامة عائلة أبو غوش كزعامة محلية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، وكيف ازداد نفوذ العائلة في القرن التاسع عشر: "برز وجودها كأسرة من أصل غير عربي في فلسطين في القرن السادس عشر، حيث أسندت إليها مهمة حماية الطريق بين يافا والقدس، وبرزت الأسرة في ظروف عسكرية محلية، أفرزتها المتغيرات الداخلية والخارجية للدولة العثمانية، ونجحت الأسرة في تثبيت نفوذها، وتم الاعتراف به من قبل الدولة العثمانية" (ص155).

شاركت عائلة أبو غوش في قيادة ثورة عام 1834م ضد الحكم المصري لفلسطين، ولكنهم تحالفوا معه بعد ذلك، ونجحوا عبر ذلك في الحصول على منصب متسليمة القدس للمرة الأولى، وعادت العائلة وتحالفت مع الدولة العثمانية بعد انسحاب محمد علي وعودتها لحكم بلاد الشام 1840م، ودخلت العائلة في صراع مع الزعامات المحلية في القدس أمثال آل سمجان، وآل اللحام. 

ارتبط اسم العائلة بمهمة حماية طريق يافا القدس لمدة ثلاثة قرون، وكان لحماية هذا الطريق أهمية كبيرة، وذلك بسبب مكانته التجارية، ولكونه الطريق الرئيس الذي كان يسلكه الحجاج المسيحيون القادمون إلى فلسطين عبر الساحل لزيارة الأماكن الدينية في مدينة القدس، ولذلك أسندت الدولة العثمانية هذه المهمة لعائلة أبو غوش في قرية العنب؛ "إن فلسطين لم تشهد خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر صراعا بشأن القوة والنفوذ بين مشايخ القرى والنواحي، لا في هامش النفوذ الذي تركته السلطة العثمانية المركزية وممثلوها للقيادات المحلية الذي كان ضعيفا للغاية"، ولكن مع ضعف الدولة أخذ هذا الهامش يتسع تدريجيا مع انسحاب الدولة من المناطق الريفية الجبلية، وكذلك بروز ظاهر العمر الزيداني في الجليل، وتحالفاته مع علي بك الكبير، والحملات العسكرية المصرية على بلاد الشام، قد زعزعت أركان الإدارة العثمانية، وأفقد الدولة قدرتها على ضبط شؤون الحكم" (ص159).

غفل الكاتب في دراسته عن وضع ملخص لكل دراسة موحدة لسلسلة الدراسات التي ضمت الكتاب، بل بقي على شكل بحوث ودراسات كل منها لها ملخصها ونتائجها الخاصة، وهذا يتناسب مع البحوث حال نشرها بشكل منفرد، الأمر ذاته ينطبق على النتائج التي وحّدت؛ كي لا يقع القارئ في تكرار كما جاء في بعض الدراسات (ص195 ـ 236).

ومع ذلك، يمكن حصر بعض من النتائج التي توصل إليها صافي في دراسته:

ـ لم تقم في غزة سلالة حاكمة من الزعامات المحلية كما حدث في سناجق فلسطين الوسطى في القدس ونابلس، بل قامت بها سلالات حاكمة ليست من أصول محلية، ولكنها ذات نشأة محلية كآل رضوان ومكي، إلا أنها لم تستمر طويلا.

ـ لطالما ارتبطت الجغرافيا بالتاريخ، فكان لموقع غزة الجغرافي بين فلسطين ومصر، وعدم وجود تضاريس وعرة، من العوامل التي أضعفت من قوة الزعامة السياسية في غزة للتحصن والدفاع أمام الهجمات الداخلية والخارجية.

ـ عملت الدولة العثمانية على إضعاف الأطراف المحلية المتمردة، وعملت على تعزيز سيطرتها، ونجحت في فرض مركزيتها على جبال القدس وباقي أنحاء فلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ تماشيا مع سياسة الإصلاحات العثمانية.