قضايا وآراء

انهيار العملات الوطنية في زمن الأزمات العالمية

1300x600
العملات الوطنية أحد أوجه مظاهر السيادة الوطنية للدول، وأحد أبرز الأدوات المالية التي من خلالها تستطيع ممارسة حقها الطبيعي في مراقبة العملة والتحكم في كمياتها الموجودة في السوق. وأكثر من ذلك، هي أحد المفاتيح في التحكم بسعر الصرف وأسعار الفائدة ومعادلة التوازن والتضخم والانكماش. وعليه، قوة العملة تنبع من قوة اقتصادها في جملة تبادلية على المستوى العام بين العملة الوطنية ومتانة الاقتصاد المتناغم مع سياسة مالية ونقدية ملائمة من قبل المصرف المركزي؛ المعني الأول بالعملة والحفاظ على قيمتها.

وتؤدي الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تمر بها الدول في العالم أحيانا إلى اتخاذ العديد من الإجراءات المناسبة، ومنها تخفيض قيمة العملة. فتخفيض قيمة العملة يعد من الأمور التي تحظى بأهمية بالغة على صعيد الدول سواء أكانت نامية أو متقدمة، لما لها من آثار ونتائج تؤثر بشكل كبير على المتغيرات الاقتصادية الأساسية، مثل الآثار على معدل التضخم والفقر والميزان التجاري وغيرها. كما أن عملية تخفيض قيمة العملة تؤدي إلى تآكل الأرصدة النقدية لكل من الأفراد والشركات والمؤسسات.

وفي بعض الأحيان يتم تخفيض العملة في حالة تراكم الديون على الدول، بحيث يؤدي بالمنظمات الدولية أحيانا إلى فرض شروط اقتصادية مالية ونقدية مجحفة في حق الدول، أو فرض سياسات نقدية معينة، منها سياسة تخفيض العملة المحلية لها، الأمر الذي يترك أبعادا سيئة على دخول الاستثمارات الخارجية وعلى اقتصادها الوطني، كما هو حال الكثير من اقتصادات العالم في هذه الأيام البائسة بفعل جملة عوامل ترتبط ببعضها البعض منذ حلول كوفيد 19 ومخلفاته التي لم تنته حتى الساعة، مرورا بالحرب الروسية- الأوكرانية التي لا زالت تعصف بالاقتصاد العالمي برمته، لا سيما عند الحديث عن أزمة الطاقة المتفاقمة والتي بدونها لا حلول تبشر.
بما تكون الأيام المقبلة مدخلا أساسيا لتغيرات جيو- سياسية هامة في كثير من دول العالم، وربما سقوط أنظمة وتغير حكومات. فالواقع مرير وللأسف يزداد مرارة مع كل التقارير الصادمة، وليس أقلها رفع أسعار الفائدة والسياسات المالية المتشددة الضاربة في أعماق الاقتصاد العالمي في زمن القرية الواحدة، وصولا إلى التضخم القادم

فأول الغيث لانتشال الاقتصاد العالمي هو في حل مأساة الطاقة التي تضرب أوروبا والعالم، ولا سبيل إلا عبر معالجة الأزمة الروسية الأوكرانية والوصول إلى حلول ترضي بالحد الأدنى كل الأطراف قبل شتاء كارثي سيقض مضجع الأوروبيين، وستزيد معه أزمات الحبوب والغذاء وسلاسل التوريد وحركة البضائع وأسعار التأمينات وكلف التمويل وحركة التجارة وأزمة عملات الدول وقيمتها في كل المعمورة.

وربما تكون الأيام المقبلة مدخلا أساسيا لتغيرات جيو- سياسية هامة في كثير من دول العالم، وربما سقوط أنظمة وتغير حكومات. فالواقع مرير وللأسف يزداد مرارة مع كل التقارير الصادمة، وليس أقلها رفع أسعار الفائدة والسياسات المالية المتشددة الضاربة في أعماق الاقتصاد العالمي في زمن القرية الواحدة، وصولا إلى التضخم القادم كالوحش الكاسر ليصل إلى معدلات قياسية في معظم الاقتصادات الكبرى، والمترافق مع أسعار الطاقة ومشتقاتها التي وصلت في بعض الدول إلى عشرة أضعاف، وبالتالي ستكون الاحتجاجات على الأبواب والمظاهرات المتلاحقة عنوان المرحلة المقبلة في الدول التي ما زالت لديها القدرة لمواجهة الأزمات العالمية المتلاحقة.

ولكن ماذا عن الدول الصغيرة والدول الناشئة واقتصاداتها التي تكاد تلفظ أنفاسها؟ لقد جاء كلام مديرة صندوق النقد الدولي بمنتهى الوضوح، حيث أشارت إلى أن الصندوق تلقى طلبات من 16 دولة للحصول على تمويل بقيمة تصل إلى 90 مليار دولار منذ بدء الغزو الروسي في أوكرانيا. وحذرت جورجيفا من أن الأسواق الناشئة بدأت للتو تشعر بالحقائق الاقتصادية الجديدة، والتي تشمل تشديد السياسات المالية، ونمو سعر صرف الدولار.

وعليه، فإن 25 في المائة من الأسواق الناشئة ونحو 60 في المائة من البلدان منخفضة الدخل وقعت أو تقع أو تكاد تقع تحت أزمة ديون، ومفتاحها انهيار عملتها وضعف القوة الشرائية فيها بفعل الأزمات الداخلية من جهة والأزمات العالمية من جهة أخرى. ولا أدل من لبنان ومؤشراته الصارخة، فالدولار يحلق عند عتبة 38 ألف ليرة للدولار الواحد بعد أن عاش طويلا عند عتبة 1500 ليرة للدولار الواحد عشرات السنين، والقدرة الشرائية لا تتجاوز 8 في المائة. أما أسعار الطاقة فهي المدخل لشلل البلاد وربما الثورة الاجتماعية القادمة، حيث تضاعفت أسعار الطاقة بفعل ضعف العملة الوطنية أمام الدولار إلى 24 ضعفا، وأصبح معها الحد الأدنى للأجور لا يتجاوز ثمن صفيحة بنزين واحدة (20 ليترا)!!
سنجد الكثير من الدول في الشرق الأوسط والعديد من دول أفريقيا والقائمة تطول، فالأزمات تتلاحق: غذاء ودواء وديون متراكمة وفوائد الديون وخدمتها وعجز متلاحق في الموازين التجارية وعجز الميزانيات، فهل من يدرك أبعاد شبح سقوط هذه الدول من باب عملاتها الوطنية المتهالكة

وعلى هذا المثال سنجد الكثير من الدول في الشرق الأوسط والعديد من دول أفريقيا والقائمة تطول، فالأزمات تتلاحق: غذاء ودواء وديون متراكمة وفوائد الديون وخدمتها وعجز متلاحق في الموازين التجارية وعجز الميزانيات، فهل من يدرك أبعاد شبح سقوط هذه الدول من باب عملاتها الوطنية المتهالكة أمام قوة الدولار؟

لقد عملت بعض الدول على مساعدة اقتصاداتها بالعمل على صيغ المبادلة بالعملة الوطنية على غرار ما جرى بين الصين وروسيا ومعها تركيا والهند، وربما تزيد السبحة، ولكنها دول تمتلك إما اقتصادات قادرة أو سلعا استراتيجية هامة للمواءمة بالتبادل بالعملات الوطنية الخاصة بها، ولكن ماذا عن الدول المتخبطة والتي تنهار عملاتها بشكل دراماتيكي ولا تمتلك الأدوات ولا الاحتياطيات اللازمة من العملات الأجنبية للدفاع عن اقتصاداتها وعملتها، علما أن آخر التقارير تحدث عن أن الكثير من دول الشرق الأوسط حرقت مليارات الدولارات من احتياطاتها للدفاع عن أسعار عملتها، وباتت الخشية من إفلاسات بطريقها إلى كثير من الدول حيث الاحتياطيات من العملات الأجنبية تتجه نحو الصفر!!

إن السؤال المُلح اليوم: إلى متى ستبقى هذه الدول صامدة اقتصاديا، وهي على هشاشة اقتصاداتها الريعية القائمة الممزوجة مع فساد السلطة وغياب الحوكمة والشفافية؟ وإلى متى تبقى صامدة ماليا في ظل صدمات أسعار الفائدة عالميا، والتي لا مفر منها في زمن الركود التضخمي الذي يغزو العالم؟ وإلى متى يستطيع العالم مجاراة الأزمة الروسية الأوكرانية وتحمّل أعبائها بكل أبعادها الإنسانية والاقتصادية والمالية والغذائية والطاقوية؟ فالنتائج المترتبة حتى الساعة تبدو كارثية! وليس أقلها انهيار العملات الوطنية في زمن الأزمات العالمية.

mmoussa@mees.com