كتاب عربي 21

قمة جدة: غزو المريخ

1300x600

هل تذكرون شفقة بوتين في قمة العشرين في الأرجنتين بولي العهد السعودي؟ وقتها كان منبوذاً، ومتهماً بقتل الخاشقجي، فصافحه بوتين مصافحة "الجدعان"، وربما مصافحة رجال العصابات أولى بالوصف، مصافحة باليد والذراع والقبضة المرفوعة، ودمجه في المشهد العالمي. وُصفت المصافحة "الشبابية" آنئذ بأنها خارج المراسيم الرئاسية، وأنها نكاية بالأتراك، خصم المتصافحين، الوهابي والأرثوذكسي المتآخيين، وأسعدت المصافحة الذباب الإلكتروني والبشري. ودارت الأيام، ووجدنا بايدن الذي توعّد بنبذ ولي العهد السعودي يصافحه، لكن "بظهر" القبضة، وهي أقل من المصافحة "براحة" اليد وعناق الأصابع، كما أريد في الإعلام، وليس الأمر كذلك، ربما هي صحيّة، أو شبابية.

وكان الإعلام قد قارن زيارة بايدن بزيارة ترامب إلى بلاد الحرمين ومعه القارورة الشقراء إيفانكا، وكرم برقصة السيف، فنحن لم نضرب بالسيف إلا في حومة الدبكة، ونسوا أمرا هو أنَّ بايدن لو اصطحب ابنته الشقراء لرقص له مستقبلوه بالسيف والرمح والقرطاس والقلم.

مهما يكن فقد انشغلت ثرثرات الصحافة ومواقع الميديا بالاستقبال، وجعلت المصافحة بظاهر اليد عقوبة لمقتل خاشقجي وقصاصاً أمريكياً منها، فلا بأس من ظهر اليد ما دام القوم قد أودوا بالإبل.

قيل إنه أخلف وعداً قطعه من أجل شربة نفط، فقد ارتفعت أسعار البنزين في أمريكا، وبايدن العجوز يقترب من الانتخابات النصفية والتجديد للحزب الديمقراطي ورئاسة ثانية لأمريكا، ووجد أنَّ الضغط على السعودية، بيت مال الأمريكيين، بزيادة ضخ النفط

انشغلنا بالعرض الكبير، عرض زيارة الرئيس الأمريكي بايدن للسعودية، قريباً من مهبط الوحي، وقد قيل إنه أخلف وعداً قطعه من أجل شربة نفط، فقد ارتفعت أسعار البنزين في أمريكا، وبايدن العجوز يقترب من الانتخابات النصفية والتجديد للحزب الديمقراطي ورئاسة ثانية لأمريكا، ووجد أنَّ الضغط على السعودية، بيت مال الأمريكيين، بزيادة ضخ النفط أيسر من الضغط على شركات البترول الأمريكية التي تحميها القوانين، ويزداد كيل بعير. أما كيل البعير، فهو المسارعة إلى تخليص السعودية من براثن روسيا ومخالب الصين.

وقد ذُكرت إيران أيضاً بين الدولتين العظميين اللدودين، روسيا والصين، فهي الذئب الذي يردُّ القطيع العربي السنُي المذعور إلى حضن الراعي الأمريكي.

وقبل القمة بساعات فتحت السعودية الأجواء للطيران التجاري، وهو طيران عاطفي "أخوي"، على خطوط من حرير، لكفكفة دموع اليتم، وتباريح الاغتراب، الذي تشعر به إسرائيل في محيط عربي يمتنع عن دمجها.

لا شك أنَّ الرئيس الأمريكي ضحّى بوعده من أجل المصلحة، والمصالح فوق المبادئ، من أجل دمج إسرائيل في المنطقة كما يدمج المسمار في الخشب. وقد وقعت أمريكا مع السعودية على 18 عقد شراكة، واحد منها غزو المريخ. نُسب إلى الأمير فيصل قولٌ في صناعة المستقبل، لا يحمد لفظه ولا يشكر قائله، وهو الدعوة للتعاون بين العقل الإسرائيلي والمال العربي.
الرئيس الأمريكي ضحّى بوعده من أجل المصلحة، والمصالح فوق المبادئ، من أجل دمج إسرائيل في المنطقة كما يدمج المسمار في الخشب

وقد يقول قائل:

لكن تركيا أيضاً ضحت بتلك المبادئ، وخذلت ابنتها عروسة الخاشقجي، لكن الفرق بين تركيا وأمريكا كبير، فتركيا مدعيّة في المحكمة، وهي الخصم، وأمريكا هي الحكم، مع الحكام الخمسة الكبار الذين يجلسون على سدّة المحكمة ولهم حق النقض. وقد شعرت تركيا أنّ أمريكا لن تنصفها، وقد قبل أهل الضحية بالديّة، فآثرت تركيا مصلحة شعبها، وهي على أبواب انتخابات وتعاني من الغلاء، لكني أجد أن دمج إسرائيل يأتي على قمة غزو المريخ، ودمج السعودية، الحليف التقليدي للولايات المتحدة في الغرب. فالسعودية دولة غنية حتى لو اكتفت بالكعبة، وعندها وقودان: النفط للآلات، وركن العقيدة الخامس. وكانت قد رفعت تكاليف الحج، وألغت مكاتب الوسطاء. وبذلك قصرت السعودية الحج على الأغنياء، وهذا يشبه إصدار صكوك غفران غير معلنة.

نعود إلى الدمج الذي تشهره الدول الأوروبية في وجوه الوافدين واللاجئين، وتشترط مستوى من اللغة والعمل الذي يعني الضرائب والاقتصاد.. إن حكايتنا هي حكاية دمج ومقاومة للدمج، والدمج يعني النبذ في وجهه الآخر. وكان الأبطال على مدى التاريخ يأبون الدمج، والدمج في أيامنا يترجم أحياناً ترجمة لطيفة فيوصف "بالتكامل"، ولكنه في حقيقته يعني التذويب، وصهر ثقافات الشعوب وعقائدهم في عقيدة واحدة، وتحويل ثقافاتهم الأصلية إلى قطع في المتاحف أو تقارير صحفية للتسلية في زاوية غرائب الشعوب.

ويجد المرء رؤساءنا يلبسون نوعين من الزيّ: زيّ وطني للاندماج في الشعب، وزيّ الاندماج في الفرنجة عند زيارة بلاد الغرب.

استعرض السيسي ثقافته السياسية مرة في إحدى ثرثراته، فقال: عندما تتصارع الأفيال لا أحد يسأل عن العشب، لذلك نُسيت قضية الخاشقجي، وتوشك قضية شيرين أبو عاقلة أن تهوي في مهاوي النسيان، واختصرت فيها فلسطين. وذكرت وسائل الإعلام أن مباحثات أبي مازن وبايدن اقتصرت على العدالة لقضية شيرين، فأبشر بطول سلامة يا مربع.

في قمة جدة كثير من الخدع التصويرية، فقد استبشر كثيرون بتضاحك أمير قطر وولي العهد، وعاد مصطلح التعاون الخليجي إلى التداول في الأدبيات الصحافية، ولنتذكر أنّ الملك السعودي كان يرقص العرضة في قطر قبل يومين من الحصار الذي ضربه على قطر.

ومن خدع قمة جدة خطاب السيسي الذي قال: لم يعد مقبولا أن يكون من بين أمتنا من هو لاجئ أو نازح أو متضرر من ويلات الحروب والكوارث، أو فاقد للأمل في غد أفضل، وحان الوقت لوضع نهاية لجميع الصراعات والحروب، (هذه تهمة يحبس عليها قائلها في مصر اسمها نشر أخبار كاذبة). وذكر النيل الذي قامت على ضفافه حضارة مصر أيضاً، لكنه نسي ذكر جسوره وكباريه.
من الخدع أن الخطباء ذكروا فلسطين وحلّ الدولتين، وذكروا القدس الشرقية التي ستختصر إلى دكانة في القدس الشرقية، وهو كلام نسمعه في القمم منذ خمسين سنة

ومن الخدع أن الخطباء ذكروا فلسطين وحلّ الدولتين، وذكروا القدس الشرقية التي ستختصر إلى دكانة في القدس الشرقية، وهو كلام نسمعه في القمم منذ خمسين سنة، أما الرصاصة التي قتلت شيرين أبو عاقلة فكانت في جيب أبي مازن المثقوب، وستصير في المتاحف الأمريكية.

كنت أتحدث عن الدمج والصهر، لكن خطفتني الخدع السحرية، ومنها قول وزير الخارجية السعودية فيما يشبه الاعتذار: "لم نناقش التعاون مع إسرائيل"، وأنكر حصول توافق على ناتو عربي "بقيادة إسرائيلية". الدمج دفع السعودية لفتح سمائها للطيران من أجل الدمج في السماء ما شاق على الأرض. الناتو العربي ليس بدعة جديدة، فقد وجدنا ناتو عربيا إبان غزو العراق وإبان الغزو الروسي لأفغانستان، من غير هذا الاسم الفاخر.

بيع دم المسيح عليه السلام بثلاثين من الفضة قبل صياح الديك، فما يكون الخاشقجي، أو شيرين أبو عاقلة في عالم الفيلة وأصحاب الفيل!

لقد فتح بايدن بلادا مفتوحة، لم يعكر صفوها إلا امتناع المغنية يوفال دايان عن مصافحة رئيس العالم مع أنه من القواعد ومن غير أولي الإربة.

 

 

twitter.com/OmarImaromar