تقارير

محمد البرعصي.. ترك "الميري" وحمل سلاح الدفاع عن فلسطين

ولد محمد منير البرعصي في صفد العام 1911، في عائلة تعود أصولها إلى مدينة برقة الليبية
لطالما تحدثنا دائماً بأن الشعر الفلسطيني والشاعر الفلسطيني، يصنَّفان وفق المضمون، وليس وفق الجنسية. والشاعر محمد منير البرعصي من عائلة جاءت من ليبيا إلى فلسطين منذ مائتي سنة، ليقيموا فيها فتصبح وطنهم حين لم تكن الحدود عائقاً بين العرب. 

ومَن جاؤوا في تلك الفترة كانوا أحد ثلاثة: قادمٌ مع جيوش محمد علي باشا التي قادها ابنه إبراهيم باشا ودخلت من مصر إلى بلاد الشام (ومنهم جد كاتب هذه السطور). أو زائر للقدس بعد الحج والعمرة (وكان التقديس؛ أي زيارة القدس، تسبق أو تلي شعائر الحج، وفقاً لحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام والمسجد الأقى ومسجدي هذا). أو قادم إلى بلاد مزدهرة نسبياً من الناحية الاقتصادية.

اندمجت عائلة البرعصي بفلسطين وبقضاياها السياسية والاجتماعية، شأن كل من زارها، وانتسبوا لها حتى صارت وطنهم الذي يستحق الدفاع عنه بالدم والروح قبل الشعر والخطابات. فشاعرنا، رغم وظيفته الحكومية في الشرطة ثم القضاء، ترك القضاء والتحق بالثورة، رمى سلاح الميري (سلاح الحكومة) وحمل سلاح الثورة ضد التآمر الاستعماري وبيع فلسطين للصهاينة.

قدم شاعرنا ما عليه، شعره وبطولته، مقاتلاً وجريحاً وأسيراً، وبكى وطنه فلسطين، وألقى اللوم في قصائده على الذين باعوها من السياسيين، فقال في قصيدته "خواطر أسير":

بِيعتِ الأوطانُ بيعاً          ..          بِدنانيرِ الحَنانِ
إذ خِياناتٌ تَوالَت            ..          في رحى الحَربِ العَوانِ
ليس للأبطالِ ذنبٌ          ..         وأنا العارُ عَداني
إِنما العيبُ بِزِندٍ            ..         إن نَبا السَّيفُ اليَماني

فمن هو شاعرنا؟

ولد محمد منير البرعصي في مدينة صفد في سنجق عكا العثماني في العام 1911، في عائلة تعود أصولها إلى مدينة "برقة" في ليبيا، هاجرت من الجبل الأخضر شرق ليبيا إلى‌ فلسطين سنة 1836.
 
حفظ محمد القرآن وهو صغير، ثم التحق بالمدارس الحكومية وتعلم حتى الثانوية، وما لبث أن تركها ليلتحق بالجامعة الأحمدية في مدينة عكا ويتخرج منها عام 1927 حائزاً على شهادتها العليا التي توازي الشهادة العالمية في الجامع الأزهر.

التحق عام 1929 بمدرسة الشرطة في القدس رغبة منه في الحصول على وظيفة، ونال منها شهادة أهّلته أن يكون محققاً في النيابة العامة. ثم نال رتبة ضابط عريف في الشرطة.

وفي عام 1940 مُنح براءة المندوب السامي البريطاني لتمثيل النيابة العامة والمرافعة في القضايا الجنائية، وبقي في هذه الوظيفة حتى عام 1946، ليتركها ويعمل في مجال التجارة.

إبان النكبة عام 1948، انتسب إلى إحدى منظمات المقاومة الفلسطينية فناضل وشارك في المقاومة، وجُرح ووقع أسيراً، ثم أُفرج عنه عام 1949. وبقي في فلسطين، وفي غزة نظم قصيدته الطويلة "بركان غدر"، وعنوانه الفرعي: "قصة واقعية من صميم المأساة الفلسطينية عايشها محمد منير البرعصي في مدينة غزة عام 1950، فنظمها شعراً".

في عام 1952، هاجر إلى ليبيا، وهناك اجتاز امتحاناً شغل بعده وظيفة مساعد للنائب العام في مدينة برقة، كما عمل ممثلاً للنيابة أمام المحاكم المدنية والجنائية والاستئناف الأهلية، وفي عام 1955 صدر قرار بتعيينه عضواً في المحاكم الجنائية، ثم وكيلاً للنيابة من الدرجة الأولى.

توفي الشاعر محمد منير البرعصي في طرابلس الغرب في ليبيا عام 1990.

الإنتاج الشعري

أكثر شعره قوميٌّ يحمل قضايا الأمة، وعلى رأسها قضية فلسطين، وذكرياته في الأسر. يقول عنه معجم البابطين: "يجيء ما أتيح من شعره تعبيراً صادقاً عن اعتزازه بعروبته وفخره بإبائها ورفضها لمبدأ الوصاية. داعٍ إلى مقاومة الهزيمة، والتمسّك بأسباب النصر، والعمل من أجل الخلاص ونيل الحرية. وفي قصيدته "خواطر أسير" يكشف عن عمق المعاناة التي يكابدها الأسرى والمبعدون عن أوطانهم، ولديه نشاط واضح في الخيال. التزم الوزن والقافية فيما أتيح له من الشعر".

وتمثل إنتاجه في قصائد متفرقة، هنا وهناك، وتم جمعها في "ديوان البرعصي". واشتهرت له قصيدة طويلة بعنوان "بركان غدر" الطويلة، وهي قصة واقعية شهدها في غزة عام 1950، فنظمها وأصدرها في كتاب.

قصيدة "خواطر أسير"

هاتِ لي كأسَ الدِّنانِ .. مُشرِعًا خمرَ المعاني 
وامزُجِ الراحَ بدمعٍ .. طالما قبلُ عصاني 
كي أُسَرِّي عن فؤادي  .. بعضَ أحداث الزّمان
ما شربتُ الخمرَ أصلاً .. أشفقت مما أعاني
لست أدري أين أهلي ..  هل درى أهلي مكاني؟
أتُراهم بعد أسري ..  وصلوا دار الأمان؟
أم رماهم بسهامٍ ..  قاتلاتٍ مَنْ رَماني 
لَكُمُ اللهُ صِغاراً  ..  وكباراً واعذُراني
ليتها أمي عقيمٌ  .. وأبي مُذْ أنجباني
مسَّني الضُّرُّ كأَني ..  صرت "أيوبَ" زماني
من بلادِ الغَرب جَدِّي  ..  لا، ولا الشَرقُ جَفَاني 
بتُّ أبكيه بأَسْري ..  وهو لا شكَّ بكانِي 
قد وهبتُ الشّرقَ روحي .. في جهادي، ولِساني 
خُضْتُ في الحرب غِمَاراً .. عندما الشّرقُ دَعاني
تشهدُ الأعداءُ أَنِّي .. لم أَكُنْ في الحربِ واني
سائلوا "دَجْوانَ" عني ..  يوم هاجمتُ الـمَباني
مُذْ تراشقنا شواظاً ..  سابَقَتْ دَقَّ الثَّواني
وتركتُ القومَ صَرعى .. لعبتْ فيهم بَناني
مُقلتي صُبّي دُموعاً .. بَل غَزيرَ الأرُجُوانِ
مُقلَتي، ضاعت بلادي .. قبل ما الناعي نَعَاني
بِيعتِ الأوطانُ بيعاً ..  بِدنانيرِ الحَنانِ
إذ خِياناتٌ تَوالَت .. في رحى الحَربِ العَوانِ
ليس للأبطالِ ذنبٌ .. وأنا العارُ عَداني
إِنما العيبُ بِزِند ..  إن نَبا السَّيفُ اليَماني
 
*كاتب وشاعر فلسطيني