إن البلاد اليوم في خطرٍ عظيم .. فعلى الرجال تَدارُكُ الخطبِ الجسيمِ
إن لم تكونوا في البلادِ أشاوساً .. فمن الذي سيذود عن وطني اليتيم
صدر القرار ولا مردَّ لحكمِهِ .. إلا بفعل الحازم الرجل الحكيم
مَن كانت هذه أول أبيات شعر نظمها في حياته، لا شك أن فلسطين ستكون الأولى في وجدانه وأيامه.
كانت هذه الأبيات ذروة نضال الفتى علي هاشم رشيد، طالب الثاني ثانوي، بعدما صدر (الكتاب الأبيض) الذي قضى على ثورة 1936، فتملّكته مشاعر الحزن والألم، فكتبها وعرضها على أستاذ اللغة العربية، الذي وضع يده على كتف تلميذه وقال له: اذهب فأنت شاعر!
وانطلق شاعرنا في الحياة، حتى غدا موسوعة كبيرة متنقلة ضمت الشاعر والأديب والخطيب والصحفي والإذاعي والإعلامي والسياسي والأستاذ والقائد.
أدرك الشاعر علي هاشم رشيد أن له دوراً في القضية الفلسطينية، لا بد أن يقوم به، فلم يقف أمام الصعاب، ولم تصدّه التحديات، بل خاض غمار كل تجربة تخدم قضيته.
سبق أخاه الصغير هارون هاشم رشيد بعشر سنوات، وهما كانا نتاج اهتمام والدهما بهما، فعملا بجدٍّ ليكونا قيادة ثقافية تربوية تخرج من أوساط الشعب الفلسطيني المنكوب، فكانت قضية اللاجئين الفلسطينيين أساسيةً في أشعارهم. غير أن الظروف المحيطة والزمن الذي مرّ به هارون (زمن الثورة والتحولات واليسار) كان أكثر استجابةً للموهبة من زمن الشاعر علي هاشم رشيد. ومع ذلك، فقد تولى الكثير من المهمات الوطنية والوظيفية.
فمن هو شاعرنا؟
ولد شاعرنا في غزة، في حي الزيتون، يوم السابع من كانون الأول (ديسمبر) 1919، التي صادفت ليلة الاحتفال بذكرى مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم. كان الوالد عائداً من الاحتفال فبُشّر بأول مولود ذكر بعد أربع بنات، وكان يحمل بعض الحلوى التي أحضرها من الحفل، فحنّكه بحلوى المولد النبوي.
استبشر الوالد بموافقة الزمان، فضلاً عن المكان، فقد ولد في الشارع الذي ولد فيه الإمام الشافعي رحمه الله، وأولاه اهتماماً دينياً استثنائياً.
هذا الجو الديني اكتمل بدخول شاعرنا الكتّاب الملحق بالجامع وحِرص والده على تحفيظه القرآن فأتم حفظه وهو في التاسعة من عمره، فكان الأساس الذي بُنيت عليه شخصية هذا الصبي وعلمه وثقافته.
كان الوالد يصطحبه دائماً معه إلى مجالس الكبار حيث جلسات الأدب والشعر، وسيرة عنترة بن شداد والزير سالم وسيف بن ذي يزن..
وبين دروس الخطابة في الكُتّاب ومجالسة العلماء، اكتسب مهارات اللغة العربية كتابةً وقراءة، فظهر ذلك في تأثره بألفاظه وكلماته وبلاغته وبأحكام اللغة العربية.
لم يكن تأثير الجامع على الشاعر في الناحية الدينية والأدبية والأخلاقية فقط؛ بل كان له الأثر الأكبر من الناحية السياسية. حيث كان ملتقى الشيوخ والمفكرين والأدباء؛ وكان الشاعر دائم التردد عليهم وعلى السماع لأحاديثهم والاهتمام بها.
كانت الأحاديث تدور عن وعد بلفور والغزاة الجدد، فشارك في المظاهرات وترديد الهتافات، إلى أن حدث إضراب بحّارة يافا، ضد جلب اليهود وإعطائهم الجنسية الفلسطينية، واندلعت الثورة المسلحة عام 1936.
كان الشاعر قد بلغ المرحلة الثانوية؛ وفي هذه الفترة كان يجمع الملاليم من المصلين في جامع الشمعة، بحي الزيتون ليبتاع الصحف ويبدأ في قراءتها عليهم بعد صلاه العصر.
ومن هنا ظهر الحسّ الإذاعي والصحفي عنده، وكانت تلك أول إذاعة سياسية يقوم بها داخل الجامع، وكانت عن أخبار الثورة والثوار، والتعليقات السياسية حولها.
وعند نهاية الثورة، بدأ كتابة الشعر بالأبيات التي افتتحنا بها المقال.
أنهى دراسته الثانوية في المدرسة الرشيدية بالقدس عام 1940، ثم حصل على شهادة امتحان المعلمين، متخصصاً في اللغة العربية وآدابها. عمل مدرّساً في مدارس فلسطين أربع عشرة سنة، وفي عام 1954 عُيِّن مشرفاً على ركن فلسطين في إذاعة صوت العرب بالقاهرة، حتى أصبح مديراً لإذاعة صوت منظمة التحرير الفلسطينية بإذاعة صوت العرب.
مثَّل فلسطين في مؤتمر كُتّاب آسيا وإفريقيا في طشقند عام 1958. وكان رئيس قسم شؤون الجامعات بمديرية التعليم بغزة 1963. ومقرر اللجنة الإعلامية في المؤتمر الأول لإعلان إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة أحمد الشقيري عام 1964. وكان عضواً في المجالس الوطنية الفلسطينية التابعة لها.
عمل علي هاشم رشيد مديراً لمدرسة دير البلح الثانوية عام 1964-1965. ثم تفرغ للعمل مديراً عاماً لإذاعة صوت فلسطين صوت منظمة التحرير الفلسطينية من 1965 حتى 1969.
ثم مثل فلسطين في مؤتمر الأدباء العرب ببغداد عام 1969، ومؤتمر الكتاب العرب بالقاهرة عام 1969. ورئيس وفد فلسطين في اتحاد الإذاعات العربية بالخرطوم عام 1969. ورئيس اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين في مصر. وعمل مستشار شؤون فلسطين بإذاعة صوت العرب في الفترة 1969- 1977. وممثل فلسطين في اجتماع اللجان العربية لمنظمة تضامن الشعوب العربية الأفرو آسيوية 1986.
قيل في تقييم إنتاجه، إن شعره صرخة يستنهض بها أحرار هذه الأمة من أجل القدس والمسجد الأقصى. شديد الارتباط بأرضه: مدنه وقراه التي يجيء ذكرها مدوياً في شعره. يراوده حلم مشروع بالعودة إلى تلك الديار. مجدّدٌ كتب الشعر باتجاهيه: العمودي، والتفعيلة. وهو في الاتجاهين يتميز بخصوصية لغته وجِدّة صوره، ونشاط خياله، مع التزامه بالأوزان الخليلية في بناء قصائده.
إنتاجه الثقافي
له دواوين: "أغاني العودة" ـ 1960، "شموع على الدرب" ـ 1967، "الطوفان" (مخطوط)، "رسالة إلى غزة" ـ 1977، "فجر الربيع" (مخطوط).
المجموعات القصصية وهي: "السبعة الذين شنقوا"، وله مجموعة مخطوطات: "رصيف الدموع" ـ 1960، "سر الراعي"، "قلب إنسان"...
فضلاً عن عشرات البرامج والمقابلات في عمله الإذاعي في إذاعة صوت العرب.
توفي الشاعر علي هاشم رشيد عام 1994، عن عمر يناهز الـ75 سنة.
نختار من شعره قصيدة "الوعد المشؤوم":
هو يومٌ يجيء ثمَّ يروحُ .. ثم تنمو فوق الجروح جروحُ
بذرة الشرِّ فيه مسّت تراباً .. قد سقاه من العدوِّ طموح
واستهانت به جموعٌ نيامٌ .. ثم قامت على التراب تنوح
وإذا الخَطْبُ داهمٌ ليس يُجْدي .. فيه دمعٌ ولا تطبُّ قروح
كان مذ كان منذراً برحيلٍ .. فَهْوَ فينا تشرُّدٌ ونزوح
لهْفَ نفسي لأمتي، لبتولٍ .. قد مضى بالفؤاد سحر هواها
قد تعشَّقْتُها وليداً وطفلاً .. وتنشّقت كالحياة شذاها
وَسرَتْ في دمي غلاماً فتيّاً .. فتباهيتُ يافعاً بِعُلاها
وإذا بي وقد عرفت طريقي .. وتجلّت في خاطري بضياها
تتعرّى كما تعرّت غصونٌ .. جاء تشرين قاسياً وغزاها
أنا منها وإن عتبتُ عليها .. فعتابي نداء ثأرٍ مقدسْ
لست أرضى لها الخضوع لخصمٍ .. فألاقي الورى برأسٍ منكَّسْ
باتت الشُّمُّ للعدوِّ دياراً .. وعلى السهل خصمها اليوم يأنس
وعلى القدس راية الإفك باتت .. تتهادى ومقول العُرْب أخرس
عاتبٌ إنني وعَتْبِي حقي .. غير أني من روحه لست أيأس
ذهب الخصمُ بالعلا وذهبنا .. بقشورٍ زريَّةٍ وزخارفْ
ورأيناه في اتحادٍ قويٍّ .. واتخذنا التفريق أحلى المطارف
أعجيبٌ نُصلَى الهجير بعيداً .. عن جنانٍ تتيه بالظل وارف
بأسنا بيننا شديدٌ شديدٌ .. وبنا الموطن المجرّح نازف
لو وعَيْنا الأمورَ وعي أريبٍ .. لرأينا الهلاك كالسيل جارف
كامل السوافيري.. مستودع الأدب الفلسطيني وحارسه الأمين
الزوايا والتكايا في فلسطين شاهد على حضارتها
شكري شعشاعة.. بين الشعر والوزارة لم تغب فلسطين عن همه اليومي