قضايا وآراء

هل يصرخ الاقتصاد من أجل الديمقراطية في تونس؟

1300x600

"سنجعل الاقتصاد يصرخ".. تعبير مشهور للرئيس الأمريكي نكسون قاله على إثر فوز الزعيم اليساري سلفدور إلندي بالرئاسة في انتخابات حرة وديمقراطية في تشيلي إحدى دول أمريكا الجنوبية سنة 1970. وفعلا فقد جعلوا الاقتصاد يصرخ في أجل لم يتجاوز الثلاث سنوات، حيث عمت الإضرابات والاحتجاجات بسبب البطالة وتدهور المقدرة الشرائية وسيطرة اللوبيات على مفاصل الاقتصاد وإعاقته في كل مجالاته وخاصة الحيوية منها التي تمس القوت اليومي للمواطن.. 

وعندما تفاقمت الأوضاع وتعفنت ونضجت الظروف قام بينوشيه بالانقلاب على الرئيس المنتخب سنة 1973 وحل البرلمان وعطل كل مؤسسات الدولة وأمر الطائرات الحربية بقصف القصر الرئاسي وتدميره بمن فيه بما في ذلك الرئيس.

لقد تحول صراخ الاقتصاد إلى وصفة مثالية لحجب الديمقراطية والحكم الرشيد لسنوات عن مناطق كثيرة في العالم، ولا تزال الوسيلة الناعمة لجعل الشعوب تلعن ما كافحت من أجله نخبها وقواها الحية بل وتتمنى العودة لحقبة الفساد والاستبداد بدعوى أن الديمقراطية لا تغني ولا تسمن من جوع، وأنه ليس بالإمكان أحسن مما كان، وهذا ما حصل بالفعل للثورة التونسية وديمقراطيتها الفتية.

لقد قال أحدهم إثر انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011 وبعد مؤتمر طبرقة للاتحاد العام التونسي للشغل: "لقد أخذوا البرلمان وأخذنا الاتحاد العام التونسي للشغل وسنرى من سينتصر في الآخر"، وهذا لا يعني إدانة لمنظمة حشاد ولكنه تعبير عن منهج تفكير بعض المتنفذين من اليسار الوظفي داخل المنظمة.
 
لقد عاشت تونس عشر سنوات من التعطيل والإفشال الممنهج بلغت خلالها الاحتجاجات أكثر من 22 ألفا بين اضطرابات واعتصامات، حيث لم تحظ أي حكومة من حكومات ما بعد الثورة بهدنة اجتماعية للتفرغ لتوفير شروط إنجاز الإصلاحات الاقتصادية الضرورية، ولم يكن أمامها سوى الانتداب في الوظيفة العمومية التي زادت في تضخيم كتلة الأجور واستنزفت المالية العمومية.

لقد نجح التحالف الموضوعي الرهيب بين النقابات واللوبيات والشق الاستئصالي من بقايا المنظومة القديمة الذي استعمل كل الوسائل المتاحة لإعاقة مسار الثورة ومزيد استفحال الأزمة الاقتصادية التي كانت تعيشها البلاد وجعل المواطن يحن إلى مرحلة ما قبل الثورة لأن الديمقراطية لم تحقق انتظاراته. وقد تمكنوا من جعل الاقتصاد يصرخ في أكثر من مرة كاد خلالها يسقط التجربة وقد تهيأت الأوضاع في أكثر من مناسبة لعودة بقايا المنظومة القديمة للسلطة عبر الصندوق على غرار عودة بعض الأحزاب الشيوعية للحكم في دول أوروبا الشرقية.

 

لقد تحول صراخ الاقتصاد إلى وصفة مثالية لحجب الديمقراطية والحكم الرشيد لسنوات عن مناطق كثيرة في العالم، ولا تزال الوسيلة الناعمة لجعل الشعوب تلعن ما كافحت من أجله نخبها وقواها الحية بل وتتمنى العودة لحقبة الفساد والاستبداد بدعوى أن الديمقراطية لا تغني ولا تسمن من جوع، وأنه ليس بالإمكان أحسن مما كان، وهذا ما حصل بالفعل للثورة التونسية وديمقراطيتها الفتية.

 



وبعد صعود الشعبوية إثر انتخابات 2019 وتفشي وباء الكورونا مع بداية 2020 الذي تجاوز عدد ضحاياه الـ 20 ألف مواطن في صيف 2021 بسبب التهاون المتعمد والتراخي في جلب اللقاحات واتخاذ الإجراءات المناسبة للوقاية، فقد تعددت أبعاد الأزمة وتحولت إلى أزمة شاملة ومركبة خاصة مع الصراع المفتوح بين مؤسسات الدولة وتعطيل عمل الحكومة والترذيل المستمر للبرلمان مما جعل الأوضاع تنضج للانقلاب على الديمقراطية يوم 25 تموز (يوليو) 2021 بدعوى تصحيح المسار فتم حل الحكومة وتجميد عمل البرلمان وتجميع كل السلطات لدى الرئاسة ثم تعطيل جل فصول الدستور في 22 أيلول (سبتمبر) 2021.

لكن بعد مضي ستة أشهر لم تحقق البلاد أي تقدم في اتجاه تجاوز أزمتها المركبة باستثناء الجانب الصحي أما الجوانب الأخرى فقد ازدادت تفاقما وتعقيدا جعلت إمكانية الحل التي كانت موجودة قبل 25 تموز (يوليو) الماضي صعبة للغاية، إن لم نقل مستحيلة، حيث تمسكت كل الدول والمؤسسات المالية الدولية بشرط عودة الديمقراطية عبر حوار وطني بمشاركة الجميع دون استثناء خاصة بعد تزايد الاعتداء على الحريات وآخرها ما حصل في ذكرى الاحتفال بعيد الثورة يوم 14 كانون الثاني (يناير) 2022 الشيء الذي جعل الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة يعرب عن قلقه بشأن الوضع في بلادنا.

إن المواصلة في التعنت والإصرار على التقدم في طريق مسدود قد يجعل الاقتصاد يصرخ ولكن هذه المرة على غير المعتاد من أجل عودة الديمقراطية وتجاوز الأزمة السياسية كمدخل أساسي للخروج من الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية وإنقاذ الدولة من الإفلاس وما يمكن أن ينجر عنه.

فهل تتغلب لغة العقل ويجلس التونسيون بكل أطيافهم السياسية والاجتماعية إلى مائدة الحوار قبل أن يصرخ الاقتصاد وعندها ولات حين مناص!!!

*كاتب وناشط سياسي تونسي