تنشر "عربي21" في قسم "فلسطين الأرض والهوية"، كل يوم جمعة، توثيقا أسبوعيا لفلسطين، كما تبدو فكرة ومفهوما في أذهان المثقفين والسياسيين والنشطاء الحقوقيين في العالم.. على اعتبار أن هذه الكتابات هي جزء من وثائق التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر.
اليوم ننشر الجزء الثاني وهو الأخير من رأي الباحث والمؤرخ السوري الدكتور إبراهيم محمود زعرور، وعن تشكل وعيه كسوري أولا ثم كباحث في التاريخ القديم والحديث بالقضية الفلسطينية.
التحرر من الصليبيين
التاريخ يقدم لنا الفائدة والعبرة والدروس المستفادة، إذ إنَّ التاريخ هو السجل الأمين لكل الأحداث البشرية، وبهذا المعنى، ليس بالضرورة أن يكون كل ما كتب في التاريخ هو الحقيقة بعينها، ومن الضرورة بمكان إخضاع هذا التاريخ للمختبر العقلي للإنسان، وإعادة الحدث التاريخي إلى عناصره الأولية المكونة لطبيعة الحدث، وبيئته والظروف التي رافقت تأريخ الحدث، والإرادة التي تحكمت فيه مباشرة أو مداورة، والأهداف التي كتب من أجلها.
لماذا كانت فلسطين هي الهدف الرئيس لكل الغزوات التي اجتاحت المنطقة؟ تجسدت تلك الغزوات واقعا عمليا خلال مراحل التاريخ (القديم ـ الوسيط ـ الحديث)، عبر اليونان والفرس والرومان والصليبيين والمغول والأوروبيين والصهيونية. وهل استجابت فلسطين لهذه الغزوات أم تصدت لها وطردتها من خلال الأعمال الجهادية والكفاحية والتحررية؟ وهل يظنن أحد أن المشروع الصهيوني غير قابل للزوال كما كل الغزوات التي جاءت إلى فلسطين؟ وهل يوجد ثمة احتلال أو غزو أو استيطان ظل إلى ما لا نهاية؟
وهل توجد مقاومة في التاريخ على امتداد مراحله لم تنتصر على الغزاة والطامعين والمحتلين؟ وما طبيعة العلاقة العضوية البنيوية بين الصهيونية والقوى الأنكلوأمريكية الغربية الاستعمارية؟
في إجابته على هذه الأسئلة التاريخية، يقول الدكتور إبراهيم زعرور لـ "عربي21": من المؤكد من خلال قراءة التاريخ والمعلومات التي تتوافر في الدراسات ومراكز البحث والمجلدات والكتب على سعتها وعمقها، أن فلسطين كانت بداية لكل الغزو ونهاية لكل غزو أيضا، ولعله من المفيد قبل الدخول على متن المادة المكونة لهذا العنوان المهم جدا في تاريخ فلسطين والشرق والعالم بقاراته المتعددة، أن نستخلص بعض الأسئلة المرتبطة بأعمال التحرير في فلسطين وما حولها، إذا اتفقنا أن فلسطين كانت بمنزلة القلب من الجسد العربي، وهي المنطلق الأساس لأعمال التحرير.
هل يشك أحد من المؤرخين والباحثين والدارسين والمهتمين وأهل الاختصاص، أنَّ فلسطين شكلت البداية الحقيقية لإسقاط كل أشكال الفرد؟
ثم هل يعتقد أحد خلافا لمنطق علم التاريخ، أنَّ فلسطين كانت عبر التاريخ البداية الحقيقية لأي تغيير في العالم بعد اندحار الغزوات عنها؟
ونحن نرغب ألا يشك أحد أيضا أنَّ القادم من الأيام سيكون متفقا وموافقة مع الغزاة الذين خرجوا من فلسطين، وبعدها أصاب العالم التغيير، واليوم نحن على أبواب هذا التغيير من فلسطين أيضا. ومن المعروف أن فلسطين وهي جزء لا يتجزأ من بلاد الشام (سوريا الطبيعية)، فما أصابها أصاب بلاد الشام ومصر أيضا في الحروب الصليبية وجحافل الغزاة الطامعين، ومن هنا لا بد من التعرض بإيجاز دقيق ومتوازن لطبيعة المقاومة التي انتشرت على امتداد بلاد الشام وفي قلبها فلسطين، حيث أدرك الفرنجة من لحظة دخولهم لبلاد الشام أنهم غرباء، واعتمدوا العداء والقتل مع أهل البلاد وحكامها كأساس طبيعي للعلاقة معهم، فالسيف والرعب أساس التعايش، وأيضا أهل البلاد وحكامها عرفوا أن الهجمة هي هجمة دموية (كافرة)، لا سبيل للتعايش معا أبدا، وبالتأكيد كان التباعد بين الطرفين هو القدر الذي وافق الحروب الصليبية من أولها إلى آخرها، والصحيح أنه جرى هناك بعض التقارب وأحيانا التحالف بين المسلمين والفرنجة، وقد وقع بعضه في الأيام الأولى، ولكنه كان على الدوام تقاربا مؤقتا، ناجما عن عجز أحد الطرفين عن الغلبة، أو عن مصالح أنانية محدودة المدى والوقت، وهي وإن أطالت في مدة الحروب الصليبية، لكنها بكل تأكيد لم تغير من نتيجتها الحتمية، وهي الخروج الصليبي، وقد أخذت المقاومة العربية الإسلامية وسواها خط التطور الطبيعي في النمو المتصاعد باستمرار، وقد بدأت بأفراد يقتلون أفرادا، وبإمارات صغيرة مبعثرة تتصدى وحيدة للمد الصليبي الواسع فيدفعها أمامه، ثم تصاعدت تدريجيا لتأخذ شكل التحالفات الثنائية بين الإمارات والدول ضد الجبهة الفرنجية الموحدة، وإذ كان رافقها ظهور تحالفات إسلامية ـ فرنجية ضد المسلمين، أو ضد تحالفات فرنجية ـ إسلامية أخرى، فقد كان ذلك من طبيعة الأوضاع السياسية للمنطقة، وصورة للأنانيات الصغيرة لأصحاب النظم، وقد انتهت المقاومة تدريجيا بتوحيد إمارتين في محور الموصل وحلب، ثم ضمت إليهما الإمارة الثالثة (مثلث الموصل حلب دمشق) ثم أكمل تطويق الصليبيين بضم القاهرة.
فكان قيام السد الموحد من القاهرة إلى دمشق إلى حلب إلى الموصل هو خط النهاية للاحتلال الغريب، وهي المراحل التي مرت بها المقاومة بدءاًمن الموصل، ومرورا بحلب ودمشق، وصولا إلى القاهرة من خلال فلسطين التي شكلت دائماً ممرا إجباريا، سواء أكانت المقاومة من الشمال إلى الجنوب أو من الجنوب إلى الشمال، وصحيح أنه يمكن تقسيم الحروف الصليبية إلى مراحل ثلاث (مرحلة الفوضى الإسلامية والجبهة الصليبية الموحدة، ومرحلة التوازن بين القوتين، ثم مرحلة الجبهة الإسلامية الموحدة والفوضى الفرنجية)، إلا أن هذا التقسيم يجب ألا يُبعد عن أذهاننا المقاومة الشعبية في فلسطين وما حولها على تواضعها وتواضع إمكانياتها من جهة، ولا تداخل هذه المراحل.
وندرك نحن بطبيعة الحال أنَّه من الاستحالة بمكان، عرض مجريات المقاومة في فلسطين وما حولها على امتداد الحروب الصليبية، التي لم تنقطع منذ لحظتها الأولى، كما أشرنا، وحتى خروج آخر فارس صليبي من فلسطين سنة 1291م.
ولكن من الضروري بمكان، الإشارة إلى الانتصار الحاسم لصلاح الدين الأيوبي في معركة حطين 582هـ/1187م على جموع الصليبيين وتحرير القدس أيضا، ولم تكن حطين بالنسبة للصليبيين كارثة حربية فحسب، ولكنها كانت أيضا المعركة الحاسمة ضد أكبر حركة استعمارية شهدها العالم قبل العصور الحديثة، ولا تكمن أهميتها في من قُتل أو أُسر، ولا في أنَّ الذين خسروها كانوا زعماء القوة الضاربة الفرنجة في الشام مجتمعين، وفي أنَّ رابحها كان ملك القوة الضاربة الأولى يومذاك ليس في بلاد العرب فحسب، وإنَّما في العالم الإسلامي، ولكن في أنها أنهت الوجود الفرنجي على الأرض العربية الإسلامية.
فمن تشبث بهذه الأرض بعدها غريبا، ظل على الدفاع حتى غادرها، وقد حسمت معركة حطين الموقف بين المسلمين والفرنجة، فأثبتت حق الأوّلين نهائيا في أرضهم، وأنهت بالمقابل أحلام التوطين والتأقلم مع الشرق لدى الآخرين، وأفهمت فرنجة الغرب والشرق ـ ولو جاء ذلك متأخرا ـ أن الدولة المصطنعة التي تعيش على استيراد السكان والمال والنقود والسلاح، لا يمكن أن تعيش، ولا بد أن تسقط في اللحظة التي ينقطع فيها "الحبل السرِّي" الواصل بينها وبين الغرب، فقد ترتب على نصر حطين انهيار مملكة بيت المقدس مرَّة واحدة وإلى الأبد.
وتستكمل أعمال التحرير والجهاد والمقاومة، وقد تتجسد مرَّة أخرى بعد حطين في عبن جالوت (26 رمضان 658هـ / 13 سبتمبر / أيلول 1260م) التي خاضها السلطان قطز على أرض فلسطين وانتصر على المغول، ولا بد من التأكيد أن هذه الأعمال العظيمة فوق أرض فلسطين لا تقلل من شأن الأعمال الأخرى في كل فلسطين، وهي تحتاج لمجلدات للحديث عنها. وكانت معركة عكا على يد الأشرف خليل بن مكاوون 1291م وخروج آخر جندي أو فارس صليبي من فلسطين، ختام حروب وحشية استعمارية استيطانية استمرت حوالي قرنين من الزمن، وهي بذات الوقت تؤكد أنَّ وحدة مصر مع بلاد الشام أدَّت لتحقيق هذه الانتصارات عبر التاريخ القديم والوسيط والحديث والمعاصر.
وهذا يشكل أولية في ضرورة وحدة فلسطين، وعلى هذه القاعدة الأساس، تتشكل وحدة مصر وبلاد الشام لتحقيق الانتصار الذي تتطلع إليه الأمة وإسقاط المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني الغربي وعودة فلسطين إلى وطنها العربي الكبير، ففلسطين التي دحرت كل الغزاة عبر التاريخ سيكون بمقدورها دحر الغزاة الصهاينة.
اقرأ أيضا: باحث سوري لـ "عربي21": فلسطين هي البوصلة والبداية والنهاية
باحث سوري لـ "عربي21": فلسطين هي البوصلة والبداية والنهاية
فريدة النقاش: فلسطين بالنسبة للمصريين قضية وجود
أنور الغربي: الدفاع عن فلسطين هو دفاع عن الإنسانية