بعدما قال ترامب ما قاله عن
الأنظمة العربية المطبعة مع
إسرائيل، وتبعه نتنياهو وكوشنير، وبعد ما قيل وأنجز
إسرائيليا، تنتهي مرحلة من مراحل الانهيار العربي لتبدأ أخرى، يتحقق فيها انقلاب
في الرؤية الرسمية العربية لجهة العلاقة مع المشروع الصهيوني.
تبشير ترامب لتغيير نظرة أنظمة عربية لإسرائيل
لا يرتبط بمعرفته الغيبية ولا بذكائه، معرفته بطبيعة النظام العربي ترسم ملامح
السياسة الأمريكية حيال هذه الأنظمة، ودورها الذي ارتبط تاريخيا بمشاريع أمريكا
وإسرائيل في المنطقة، وهو الذي يدفع بنيامين نتنياهو للتفاخر بفائدة العلاقة اليوم
مع أنظمة عربية "لقلب إسرائيل وأمنها وجيبها"، فسياسة النهب والسطو
الجارية منذ قرن على أرض
فلسطين تستكمل بأنظمة متهافتة لتقديم خدمات الولاء
بمشاريع ضخمة.
بعد إذعان الإمارات والبحرين والخرطوم لمشاريع
السيطرة الصهيونية، فإن ضربات السراب التي يلقيها الجانب الفلسطيني عن"
المبادرة العربية للسلام" لن تعيد الصحوة للسائرين في ركب المشروع الصهيوني،
ومن دون تغيير جدي وجديد بما يتعلق بترتيب البيت الفلسطيني، والذي أصبحت أحجيته من
معجزات المرحلة، ينقلب المفهوم العربي الانتظاري لمرحلة إسرائيلية تعيد بنيانه على
قواعد الأمس بأيادٍ إسرائيلية خالصة ترتب مشهد الأنظمة وسلطاتها.
يدرك الفلسطينيون ومن ورائهم الشارع العربي،
أن إسرائيل وأمريكا وأحلافهم بالنظام الرسمي العربي، لم يخرجوا فقط عن إجماع عربي
متعلق بالتسوية، بل هناك انتقال لخندق العدو تساهم به مقدرات عربية بكامل الوعي
الذي يرضي في حدوده القصوى مشروع التصهين؛ مقابل بقاء وظائف أنظمة قراءتها لذاتها
وتاريخها تتم من الصفحة الإسرائيلية.
ويدرك الإسرائيليون أن تأسيس مستقبل مشروع
الصهيونية من النيل إلى الفرات فأبو ظبي والرياض، يعتمد أساسا على عشاق تل أبيب
وواشنطن في العواصم العربية المحاربة لضمان العلاقة بين كرسي الحكم وصكوك الغفران
والبراءة المطلوبة من المحتل الذي فشل في تطويع الشعب الفلسطيني وشعوب عربية أخرى،
لكنه ينجح دوما في تطويع الأنظمة وأجهزتها القمعية كمدخل لتحقيق أمنه وتفوقه
وسيطرته.
صحيح أن الفلسطينيين فشلوا في أوسلو، وأخطأوا
في تقدير حساباتهم مع عدو احتلالي استيطاني كولونيالي، لكن تحميلهم مسؤولية كل
التعثر القائم والانهيارات الحاصلة عربيا وتحميلهم فشل بناء الأنظمة لدولها وتحقيق
الرخاء والحرية لشعوبها تحت ذرائع "قضية فلسطين"؛ أصبح ذريعة صهيونية
للتخلي عن مبدأ أخلاقي وإنساني ضد المستعمر.
التحفظ على سلوك القيادة الفلسطينية مثل
التحفظ على سلوك قيادات عربية من المحيط إلى الخليج، لكنه لا يبرر مبدأ
الاصطفاف بخندق العدو ودعمه بكل الوسائل المادية وغير المادية، لتحقيق رؤيته
الاستعمارية المعجبة بها دونية عربية لا ترى التكنولوجيا والتقدم والرخاء
"المنتظر" من وراء
التطبيع إلا من العقول والعيون الصهيونية، بمعنى
يختصر الإعجاب بوظيفة كرسي الحكم والرضا عنه، أو تنتظر رضا المستعمر عن أدائها
نحوه.
تأتي التفسيرات العربية للتطبيع مع الصهيوني
بأشكال واحدة، جميعها تخلو من الاعتراض على وجوده ومشروعه إن كان يتولى مهمة حماية
الأنظمة العربية والحفاظ عليها، كجزء من عملية متكاملة. وقد وجهت أنظمة عربية تقود
الثورات المضادة تسليحا وتمويلا وتدميرا؛ ضربة موجعة وقاتلة لمشروع مواجهة التطبيع
والتصهين على اعتبار اصطفاف الأنظمة مع أعداء شعبها، والمستهدف بضربة النظام
العربي شوارع عربية تنهض من سطوة الطغيان وهي المعني الأول والأخير بمقاومة
التطبيع.
وقائع كثيرة وكافية تُبرز التزوير الحاصل في
عواصم عربية متصهينة، تقدم خطابا تضليليا عن فوائد التصهين وضرر العلاقة مع القضية
الفلسطينية، ومع التاريخ العربي والإسلامي والإنساني، وأن كل العقبات التي تواجه
العربي في مجتمعاته ستُحل؛ ابتداء من المصافحة مع الصهيوني وبرضا أمريكي عن الحاكم
القاتل الطاغية السفاح.
أخيرا، أُتيحت الفرص للشارع الفلسطيني أن يكون
على صلة وثيقة بقضاياها في شوارع عربية، وأن يقول وأن يُسمع أكثر بكثير مما
أتيح لغيره، بحكم مواجهة الأخير للمشروع الاستعماري على الأرض. ويبدو أن هذه
المعرفة كانت سببا أساسيا من الأسباب التي أدت لتصوير أزمات الأنظمة العربية بشكل
جزئي وسطحي، بعيدا عن الجوهر القائم في جوانب الصراع مع المشروع الصهيوني على أرض
فلسطين، ومقاومة شعبها هي الأزمة الجوهرية الوحيدة التي تقض مضجع من يحلم بسمن
وعسل صهيوني، ينقذ طغاة ومستبدين تعرت أحوالهم قبل التطبيع، فكيف الحال في مشهد
الانهيار العربي الذي يمجده كوشنير وترامب، ويثني عليه السيسي ويُخرس الأسد، ويرسم
ابتسامة الخبث على محيا أبناء الملوك والسلاطين؟
التطبيع يقدم حلولا كثيرة للمحتل، وللطاغية
العربي، لكنه لن يكون قدرية وأبدية كما يُحلم بها في تل أبيب وواشنطن وعواصم
العرب، وستبقى ضربات السراب كثيرة إذا ما لاك العقل العربي حديثه عن مبادرة سلام
عربي نسفت منذ اليوم التالي لإعلانها.
twitter.com/nizar_sahli