لو أردنا اختزال الساحة السياسية التونسية إلى ثنائية توليدية كبرى (أي ثنائية تُشتق منها باقي الثنائيات المنتجة للهويات الحزبية والمتحكمة في هندسة الحقل السياسي بل الفضاء العمومي ذاته، لقلنا إنها ثنائية "العائلة الديمقراطية" من جهة، و"الإسلاميين" ومن يقبل بـ"التنازل" عن صفته الديمقراطية بالتحالف معهم (أو حتى بعدم إعلان معاداتهم صراحة) منذ رحيل المخلوع.
وقد يبدو هذا الأمر غريبا في حقل سياسي تهيمن عليه سرديات كبرى لم تُعرف بديمقراطيتها، سواء في أدبياتها السياسية (النصوص التأسيسية) ولا في تجاربها في الحكم داخل تونس أو خارجها. فلا البورقيبية (وهي التي حافظت على دور "السردية الكبرى" التي تكتسب باقي السرديات المتنافسة شرعية وجودها من الاعتراف بدورها التحكيمي والمرجعي في بناء "المشترك الوطني")، ولا الأيديولوجيات اليسارية والقومية تستطيع ادعاء أن الديمقراطية بالمعنى الليبرالي المتداول كانت (أو هي الآن) جزءا من نقاط قوتها نظريا وإجرائيا، سواء داخل تنظيماتها الحزبية والنقابية والمدنية وغيرها، دون أن يعني ذلك أن الديمقراطية هي أيضا نقطة قوة الإسلاميين أو حلفائهم الآن وهنا، أو أنها ستكون مشروعهم السياسي المبدئي في حال تغير موازين القوى لصالحهم بصورة يستطيعون فيها فرض قناعات/ انتظارات قواعدهم شبه السلفية.
الإسلامي أو النقيض المطلق للديمقراطي
إنّ الاشتغال على "انفصامية" القوى الديمقراطية ولا مبدئيتها لا يعني في الحقيقة استئثارها بـ"أمراض" العقل السياسي التونسي أو العربي عموما (الأمر الذي أكدته المآلات الكارثية لأغلب الثورات العربية)، بل يعني فقط أنها هي المتحكم الأهم في إنتاج المعنى من خلال تحكمها في منابر تشكيل الوعي العام وفي آليات ضبطه وتوجيهه.
فأن تكون "ديمقراطيا" يعني بالضرورة أن تتحصل على شهادة أو اعتراف من سدنة الديمقراطية، أي من أولئك الذين نصّبوا أنفسهم سلطة عليا في فرض "أنظمة التسمية" المتداولة والمحمية حتى بسلطة الدولة. فأنت تسطيع أن تكون ماركسيا ديمقراطيا (رغم أن ديمقراطيتك الشعبية لا علاقة لها بالديمقراطية الليبرالية)، وتستطيع أيضا أن تكون قوميا ناصريا أو بعثيا ديمقراطيا (رغم التاريخ اللاديمقرطي للتجارب القومية)، وتستطيع أخيرا أن تكون دستوريا- تجمعيا ديمقراطيا (رغم عدم وجود أي شواهد على ديمقراطية سلفك البورقيبي أو التجمعي)، ولكنك لا تستطيع أبدا أن تكون إسلاميا ديمقراطيا.
لا شك في أنّ المصادرة على أن الإسلامي هو كائن غير ديمقرطي بالجوهر؛ لا يمكن أن تُردّ إلى تفسير تاريخي (فتجارب الإسلاميين في الحكم ليست أسوأ من تجارب القوميين واليساريين والتجمعيين وسلفهم البورقيبي)، ولا إلى تفسير اقتصادي (فما الذي يجمع بين الليبراليين واليساريين في مستوى الطرح الاقتصادي؟)، ولا إلى اعتبارات مصلحية براغماتية (فقد كانت الفرصة مواتية للتخلص من التجمعيين في مختلف مواقع القرار والنفوذ، ولكنّ "العائلة الديمقراطية" دافعت عنهم واعتبرتهم جزءا منها لتحول دون "اختراق" النهضة للدولة و"أخونتها").
ولذلك فإننا نذهب إلى أنّ السبب الأعمق لإقصاء "الإسلاميين" من العائلة الديمقراطية ليس سببا اقتصاديا ولا سياسيا ولا مصلحيا (فكل هذه الأسباب هي أسباب سطحية وذات قدرة تفسيرية محدودة)، بل هو سبب أيديولوجي يخترق كل السرديات "المعلمنة" على اختلاف أطروحاتها: مقولة الاستثناء الإسلامي ذات الجذر الاستشراقي. وهي مقولة تسبق ظهور "الإسلام السياسي" بالمعنى المعروف (وكان لها دور كبير في بناء السردية الاستعمارية وفي تحديد التوجهات الكبرى للنخب التي ورثتها بعد تحقيق الاستقلال الصوري، أي زمن "الاستعمار غير المباشر")، ولذلك فإنها كانت تستهدف "الإسلام في ذاته" باعتباره استثناء عن التراث اليهو- مسيحي، أي باعتباره ديانة لا تقبل بالجوهر عملية التحديث (فهو قوة رجعية جاذبة إلى الوراء، بل قوة لا وظيفية في المستوى القيمي والتشريعي)، وباعتباره أيضا رؤية" ما قبل حداثية" للوجود وللانتظام السياسي، بحيث لا يمكن لها أبدا أن تتصالح مع الفلسفة السياسية الحديثة، ومع ما يؤسسها من مبادئ حقوقية في المستويين الفردي والجماعي.
نحو طرح جديد للصراع العلماني الإسلامي
إن طرح الإشكال في مداره الفلسفي الأصلي سيجنبنا الكثير من الجهد العبثي في تدبر كل هذه الصراعات بين القوى "الديمقراطية" و"الإسلاميين" (وكل هذه التقاطعات بين فرقاء الأمس من القوى العلمانية) وفهم أسبابها العميقة، كما أنه سيساعدنا على طرح الأسئلة الحقيقية حول سبل الخروج من المأزق التاريخي الذي تعانيه الثورة التونسية. وهو ما سنحاول المساهمة فيه طيّ مقالنا القادم انطلاقا من هذه الأسئلة:
لماذا يصرّ "الديمقراطيون" على استصحاب مقولة "الاستثناء الإسلامي" في صراعهم ضد الإسلاميين، وهل يوجد فاصل حقيقي بين ذلك الصراع وبين استهداف "الإسلام في ذاته" و"بَولسة الدولة"، كما حصل في سياسات "تجفيف المنابع" زمن المخلوع؟
ماذا فعل "الإسلاميون" ليوضّحوا الفارق بينهم (باعتبارهم فهما في "الإسلام") وبين "الإسلام في ذاته" (باعتباره قاسما مشتركا بين كل المواطنين بنص الدستور ذاته)؟
ماذا فعل الإسلاميون للتصالح مع واقع علمانية الدولة والكثير من التشريعات، وما مدى مساهتمهم في "رفع التناقض" بين الإسلام والعلمانية حتى في صيغتها الجزئية لا الشاملة (على حد قسمة المرحوم عبد الوهاب المسيري)؟
هل إن "الديمقراطية" هي فعلا صفة متحققة في مختلف الفرقاء السياسيين (بعلمانييهم وإسلامييهم)، أم إنها مجرد أفق ينبغي الاشتغال على بلوغه "معا" (أي باعتراف المتبادل بين العلمانيين والإسلاميين)، بعيدا عن لغة التنافي ومنطق الصراع الوجودي؟
هل يمكن إعادة التفاوض على المشترك الوطني دون "أسلمة الدولة" أو "علمنتها الشاملة" في طل واقع التخلف والتبعية وغياب أي مشروع وطني جامع؟
وأخيرا، كيف يمكن بناء أي مشروع وطني دون مراجعات نقدية جذرية من جهة أولى، ودون الاعتراف بحق المختلف في صياغة ذلك المشروع والمساهمة فيه على قدم المساواة مع غيره؟
twitter.com/adel_arabi21
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية