السياسة في بعض تعريفاتها المباشرة تعني رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وهي تعني أيضا "فن الممكن".. ومع أن هذا الفن يحتاج إلى الفكر كإطار نظري لكنه في النهاية يجترح مجراه الخاص، الذي يتداخل فيه الفكري بالاقتصادي والاجتماعي والنفسي والفلسفي ليشكل ما يُصطلح عليه في النهاية بـ "السلطة".
وإذا كان من غير الممكن تصور سياسة خالية من الفكر تماما، فإن ذلك لا ينطبق على الفكر باعتباره أحد مكونات السياسة.. ولذلك غالبا ما يعمل السياسيون على الاسترشاد بآراء المفكرين في إدارة الشأن العام، ورسم السياسات الداخلية والخارجية.. ومن هنا جاء التمييز بين مثقفي السلطان والمثقف العضوي، لا بمعناه السطحي باعتباره مستقلا، وإنما باعتباره تعبيرا دقيقا عن الطبقة أو المجتمع الذي ينتمي إليه المثقف..
ولقد ظلت العلاقة بين الطبقتين السياسية والفكرية في العالمين العربي والإسلامي، علاقة تبعية الفكري للسياسي، حتى لما جاءت ثورات الربيع العربي نهاية العام 2010، وسقوط صنم الاستبداد، بدأ العرب في مختلف مستوياتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية بإجراء مراجعات نظرية مستعجلة في سياق التفاعل مع المستجد من الأحداث الواقعية.
وإذا كانت مهمة مواجهة السلطان المستبد قد فرضت على النخب العربية إجراء تحالفات لمواجهتها، فإن مرحلة ما بعد سقوط الاستبداد فرضت على النخب السياسية والفكرية العربية القيام بتحالفات مغايرة في مكوناتها وأهدافها..
الإعلامي والصحفي التونسي الحسين بن عمر يعيد في هذا التقرير الخاص بـ "عربي21"، فتح مفهوم "الكتلة التاريخية" من مدخل التحالف السياسي الجديد الذي مثلته الحكومة التونسية الحالية بقيادة إلياس الفخفاخ..
في إطار تحليلهما لأخطر المشكلات التي تواجه ما أسمياه بالمجتمع السائل، في كتابهما "حالة الأزمة" (state of crisis) (صدر سنة 2014)، يعرّف زيجمونت باومان ZYGMOUNT Bauman ، عالم الاجتماع البولندي، وكارلو بوردوني Carlo Bordoni، عالم الاجتماع الإيطالي، "الأزمة" بأنّها الولادة الجديدة وأنّها تشير إلى نضج تجربة جديدة ممّا يؤدّي إلى نقطة تحوّل، معتبرين في الآن نفسه أنّ "الميل الطبيعي للتغيّر هو الذي يهيئ التغيرات المستقبليّة على أساس جيّد".
ربط لحظة الأزمة وإرهاصاتها بتهيئة المناخ للتحوّلات الكبرى أو التغيّرات المستقبليّة المشار إليها في كتاب "حالة الأزمة"، نجد له ظلاّ وارفا فيما كتبه عبد العزيز الخال، باحث مغربي مختص في الحداثة العربيّة والفلسفة السياسيّة، في ورقته "مفهوم الكتلة الديمقراطية عند غرامشي"، حيث أشار الخال إلى أنّ أزمة إيطاليا ما بين الحربين وانقسامها الموضوعي بين شمال صناعي مزدهر وجنوب ريفي مندحر، في ذلك الوقت، كان المحرّك الأساسي لقلم غرامشي الذي "أراد خلق وحدة وطنية بين كل مكونات المجتمع المدني، بشكل يوحّد كل قواه في قوّة واحدة، تتجاوز كل المتناقضات الإيديولوجية والتقسيمات الطبقية والحزبية في مواجهة الأزمة، أي خلق بنية جديدة لا تستبعد البنية القديمة".
الكتلة التاريخيّة والفضاء العربي الإسلامي
الراحل محمد عابد الجابري الذي كان سبّاقا إلى المناداة باستنساخ فكرة "الكتلة التاريخية" الغرامشية في الفضاء العربي الاسلامي، منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، يرى في نص له بعنوان "الكتلة التاريخية بأي معنى"، أنّ طريق التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، الذي يحتاجه النضال العربي في المرحلة الراهنة هو شيء أقرب إلى "الكتلة التاريخية"، التي سعت إلى الحفاظ على وحدة الأمة الإيطالية والقيام بنهضة شاملة، ضمّت قوى التغيير والإصلاح في الشمال، من ماركسيين وشيوعيين وليبراليين، والقوى المهيمنة في الجنوب بما فيها الكنيسة، مع تبيئتها وتكييفها مع الوضع العربي.
واعتبر الجابري أنّ مهام التحرّر من التبعية وإقرار الديمقراطية وتحقيق تنمية مستقلة، "مهام لا يمكن لأيّ فصيل من فصائل القوى الوطنية القيام بها بمفرده، سواء حمل إيديولوجيا سمّاها يسارا أو نطق باسم الدين أو بأي شيء آخر"، منتهيا إلى ضرورة تشكيل "تحالف وطني جديد" على شكل كتلة تاريخية تضمّ جميع القوى الفاعلة في المجتمع والتي من مصلحتها التغيير في اتجاه تحقيق الأهداف الوطنية.
ويؤكّد الجابري على أنّ الجبهة المقترحة لن تكون مجرّد جبهة بين أحزاب بل "هي كتلة تتكوّن من القوى التي لها فعل في المجتمع أو القادرة على ممارسة ذلك الفعل، ولا يستثنى منها بصورة مسبقة أي طرف من الأطراف".
تونسيّا وبعد عشر سنوات على ثورة 17 كانون أول (ديسمبر) 2010 ـ 14 كانون أول (يناير) 2011، ورغم نجاح النخب السياسية في إدارة خلافاتها تحت سقف خيمة دستور كانون ثاني (يناير) 2014، دستور الجمهورية الثانية، ورغم توفّق المجتمعين السياسي والمدني في إنجاح مختلف المحطّات الانتخابية الرئاسية والبرلمانيّة، ممّا بوّأ التجربة التونسية فرادة دون سائر تجارب الربيع العربي، فإنّ ما يُحسب لحكومة إلياس الفخفاخ الحالية، التي حظيت بمصادقة البرلمان في جلسة 27 شباط (فبراير) الماضي، دون سائر الحكومات المتعاقبة منذ انتخابات تشرين أول (أكتوبر) 2011، أنّها جمعت لأوّل مرّة طيفا واسعا من رفقاء النضال ضدّ الدكتاتورية، أو خصوم الأمس من مختلف التيارات الأيديولوجيّة، من إسلاميين وقوميين وليبراليين ويساريين ومجموعة كفاءات مستقلّة، في تجربة جديدة يعدّها البعض بأنّها نموذجية في فضاء عربي لا يزال الجلوس فيه على طاولة المفاوضات بين أبناء الوطن الواحد يعدّ حلما، لمن جدّفت بهم بعيدا رياح الخصومة والاستسلام للأجندات الخارجيّة.
التجربة السياسية التونسية المستجدّة، والتي جاءت عقب مخاض عسير كاد يدفع بالبلاد نحو الذهاب مبكّرا لانتخابات برلمانية سابقة لأوانها، دافع مهمّ لمناقشة أفقيها السياسي والفكري والحفر في مدى موضوعية نعتها بالكتلة التاريخية العربية التي نادى بها محمد عابد الجابري، ونظّر لها من قبلُ أنطونيو غرامشي بداية القرن الماضي.
البراديغم التقليدي وسطوة الأيديولوجيا
يرى التومي الحمروني، باحث في علم الاجتماع، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ البراديغم التقليدي في مسار الحقل السياسي الحزبي التونسي قد تشكّل وفق خارطة تتّخذ من الأيديولوجيا معيارا حاسما في رسم جغرافية حدودها وتضاريسها، مضيفا أنّ ملامح الخارطة وخطوطها قد ارتسمت في التمثّلات الجماعية للنخبة التونسية، على حدّية التضاد منهجا ومضمونا، خطابا وممارسة، حتّى أصبحت آنطولوجية (وجودية) هوية معظم الأحزاب السياسيّة تُستمد من رفضها ومحاربتها للآخر.
في ذات السياق، يشير الحمروني إلى أنّ المشهد السياسي الحزبي في تونس ارتهن لمنطق التنافر، وكان أسيرا لمفهوم تطهير الأنا وتأثيم الآخر وانخرط ضمن ثقافة التخوين تحت شعار "الوطن لي وحدي والآخر عميل "، معتبرا أنّ مثل هذا التمشّي لا ينسجم مع التوجّه الإنساني (المنطق الفلسفي الهيغلي) الذي يبنى انطولوجيته داخل دائرة الآخر، بما يوفّره من مساحات ممتدّة تسمح بالتفاعل والتواصل المفتوح، بوصف الآخر المخالف أو المختلف مكوّنا أساسيا للهوية الذاتية وأحد عناصرها الجينيّة، ومؤكّدا على أنّ سردية التاريخ السياسي التونسي المعاصر، الحزبي بالأساس، تُروى من خلال ثنائية السيرورة والصيرورة: سيرورة التاريخ السياسي المكثف (الرسمي والاحتجاجي) وصيرورة التحولات السياسية والمنعطفات التاريخية والتغيرات الإجتماعية والثقافية.
محطّة 18 تشرين أول (أكتوبر) 2005 ولبنة التأسيس الجمعي
يعتبر التّومي الحمروني محطّة 18 تشرين أول (أكتوبر) 2005، نسبة لهيئة 18 تشرين أول (أكتوبر) للحقوق والحريات، شكلتها في 24 كانون أول (ديسمبر) 2005 عدة أحزاب وشخصيات تونسية معارضة لنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وأخذت اسمها من تاريخ 18 تشرين أول (أكتوبر) 2005 تاريخ بداية إضراب جوع شنه 8 معارضين من تيارات سياسية مختلفة قبيل القمة العالمية حول مجتمع المعلومات التي نظمت في تونس، محطة جريئة وشجاعة في سياق نظام دكتاتوري جائر، أقلقت المنظومة الحاكمة واخترقت سياجها الاستخباراتي وكشفت طوقها الأمني، لكنّها لم تتمكّن من إرساء خط جديد متعدد في توجهه السياسي، وتركيبته المورفولوجية، موحّدا في مضمونيه الوطني والقيمي.
في ذات السياق، يرى الناصر أولاد أحمد، باحث في الفلسفة، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ لقاء 18 تشرين أول (أكتوبر) كان لقاء ظرفيّا حتّمته الظروف الأمنية التي كانت تميّز نظام الرّاحل بن علي، ولا يمكن أن تكون منطلقا لبناء تحالفات جديدة، فقد كانت ضرورة ملحّة في ظرفيتها الزمنّية المحدودة، تجاوزت لا وعي الأطراف المشكّلة لها، وخير دليل على هشاشة ذلك التحالف هو انفراط عقده في أولى منعرجات الحريّة، والتحالفات المبدئية لا تبدّدها المنعرجات الصغيرة.
مورفولوجيا حكومة الفخفاخ
يرى د. زهير اسماعيل، جامعي وباحث بمركز الدّراسات والبحوث الاقتصاديّة والاجتماعيّة، في تصريح لـ "عربي21"، أنّه إذا نظرنا إلى الائتلاف الحكومي وأصول وزرائه الاجتماعيّة، وجدنا أغلبهم من الطبقة الوسطى، التي بدأت تفقد مكانتها ومن ثمّ دورها، فقد كانت وسيطا بين الطبقة البورجوازيّة (البلديّة والأعيان وكبار الملاّك والتجّار) والطبقات الشعبيّة في الداخل، مضيفا أنّ الانتماء إلى الطبقة الوسطى ينطبق على وزراء "حركة النهضة" و"حركة الشعب" و"التيّار الديمقراطي" وبعض الشخصيّات اليساريّة، وأنّه إذا استثنينا عددا قليلا من بعض الوزراء القريبين من رئيس الحكومة أو من "تحيا تونس"، لا يكاد يوجد ممثّل للطّبقة البورجوازيّة في هذا الائتلاف الحاكم.
ويثمّن التومي الحمروني الالتقاء الجبهوي المكوّن لحكومة الفخفاخ، معتبرا أنّ "مرحلة تشكّل هذه الحكومة وملابساتها الظرفية والمضمونية هي محطة مكثفة في بعدها الدلالي الرمزي، مثقلة في حجم الرهانات المناطة بعهدتها، مكبّلة بصعوبة التحديات وجسامة الانتظارات، مضيفا أنّها تمثل في الآن نفسه منعرجا خطيرا Important وخطراdangereux ، فهي خطيرة ومهمة من حيث تمكنها من تجميع أطراف متضادة نسقيا وبنيويا في وحدة مؤسساتية تفترض التضامن الحكومي والعمل المشترك الإداري والسياسي.
تفكيك الوهم التاريخي القائم على التضاد الأيديولوجي
يعتبر التومي الحمروني أنّ التنوّع الذّي ميّز تركيبة حكومة الفخفاخ يعدّ خطوة تاريخية وطنية غير مسبوقة، فكّكت الوهم التاريخي الكلاسيكي القائم على عدم التقارب بين اليسار واليمين والقوميين والإسلاميين، رغم ما تبدو عليه من هشاشة على مستوى بنية حزامها السياسي المثير لمخاوف استمراريتها وقدرتها على الصمود، معتبرا أنّ الإضافة الكبيرة لهذه التركيبة المتنوعة للائتلاف تتمثّل أساسا في إخراج المخيال السياسي التونسي الرّاهن من الايديولوجي لتقحمه في الإبستمولوجي، أي من التصنيف والتوصيف النظري والمدرسي إلى واقعيّة قوامها النجاعة و"البراكسيس"، أي البراغماتية الاجتماعية المرنة، مؤكّدا في ذات السياق على أنّ هذا الائتلاف يُعدّ تحوُّلا سياسيّا وتاريخيّا، لم يكن يسيرا سهلا على النخب و تنظيماتها وإنمّا كان نتاجَ سياقات أزمة على كل الأصعدة.
من جهته، يرى زهيّر اسماعيل أنّه من وجهة نظر الأيديولوجيا والماضي السياسي فإنّ وجود ممثلين عن العائلات السياسيّة الكبرى من الإسلاميين واليساريين والقوميين والليبراليين، يجعل اللقاء في حكومة الائتلاف حدثا فارقا لما عرفته هذه التيارات من صراعات فعليّة، كما هو الحال بين الإسلاميين واليسار أو عداوات موروثة كما هو حال الإسلاميين والقوميين والصراع الإخواني الناصري المتوارث بين أجيالهم، مضيفا بالقول أنّه مثلما عبّرت انتخابات 2014 عن موجة لصالح القديم العائد، فقد عبّرت انتخابات 2019 عن موجة لفائدة الجديد، ممّا جعل للانتخابات الأخيرة مزاجا عامّا، وهو ما حدا بالإعلام إلى اعتباره مزاجا أقرب إلى "الصف الثوري" وجرى الحديث في أكثر من موقع عن حكومة "الصف الثوري".
حكومة الفخفاخ والولادة الجديدة
يشير التومي الحمروني إلى أنّ الأزمة في السّجل السوسيولوجي تعني ولادة جديدة أو هكذا عرفها زيجمونت باومان Zygmunt Bauman وكارلو بوردوني Carlo Bordoni في كتابهما "حالة الأزمة" (State of Crisis)، حيث ذكرا في كتابهما أنّ "الأزمة في معناها الصحيح تعبر عن شيء ايجابي و خلاق ومبشر، لأنها تشير إلى تغيرها، وربما تكون ميلادا جديدا بعد انفصال و انهيارا صحيحا أنّها تعني الانفصال، لكنّها تعني أيضا الاختيار والقرارات، ومن ثَمّ التعبير عن الرأي. وفي سياق أوسع تشير الأزمة إلى نضج تجربة جديدة مما يؤدي إلى نقطة تحول (على المستويات الشخصية و التاريخية و الاجتماعية)، فالميل الطبيعي للتغير هو الذي يهيّئ التغيّرات المستقبلية على أساس جديد ".
في ذات الصّدد، يؤكّد الحمروني على أنّ التشكيلات الحزبية والتيارات الفكرية، من يمينها إلى يسارها، مطالبة بتمثل راهنيّة أزمتها وأزمة البلاد وفق هذا المنظور السوسيولوجي، وعليها أن تنخرط في استراتجيات التكيّف والتأقلم والتهيّّؤلبناء حالة جديدة، تستجيب لشروط الواقع منهجا ومعالجة، حيث أنّ النّجاعة تشترط مقارنة تبحث عن الحلول و ليس مقاربة تغرق في التفسير والمدلول، مضيفا بالقول أنّ زمن غلق الحدود ولّى وانتهى، وبدأ عهد التبادل السياسي والرمزي والإيديولوجي والقيمي والرقمي، الشيء الذي يبرر اتخاذ مسافة نقدية ذاتية و بينية تعيد إنتاج أدوات التعديل والتجريح من أجل مراجعات حقيقية تقطع مع الحدية والاستقطاب و تتجه نحو نجاعة حل المشكل لا أشكلة الحل.
هل يرتقي الائتلاف الحاكم إلى مرتبة الكتلة التاريخيّة؟
جوابا عن سؤال إمكانية تشكيل الائتلاف الحاكم لـ"كتلة تاريخيّة"، بما هي تحالف واسع بين طبقات وفئات مختلفة من المجتمع التونسي حول مهمّة سياسيّة اجتماعيّة، اعتبر زهيّر اسماعيل أنّه يمكن الحديث عن كتلة تاريخيّة، ولكنّ الائتلاف الحكومي الحالي هو أقرب إلى "الكتلة السياسيّة"، بمعنى أنّها جمعت فرقاء سياسيين كان ما يفرّقهم عقديّا وسياسيّا أكثر مما يجمعهم، وأنّ الذي نحن بصدده هو "كتلة سياسيّة" سيكون دورها استكمال بناء مؤسسات النظام الديمقراطي. وتأسيس الديمقراطيّة وأمّا الكتلة التاريخيّة فإنّها حالة متطوّرة من الكتلة السياسيّة. ومهمّة الكتلة السياسيّة إعادة بناء الاقتصاد وتحقيق الرفاه، وهي القاعدة الاجتماعيّة الاقتصاديّة الصلبة التي ستستقرّ عندها الدولة في وضعها الجديد.
ويعتبر اسماعيل إنّ ما سيجمع بين هذه "الكتلة السياسيّة" التي ستتطوّر إلى كتلة تاريخيّة ليس ما يمكن أن يقع من مصالحة سياسيّة بين الإسلاميين والقوميين واليساريين، وإنّما هو أمران: أوّلهما المزاج العام المتمثّل الذي أنتج التفويض، وثانيهما هو الالتقاء على أن يصبح الجميع من شروط تأسيس الديمقراطيّة، مضيفا أنّ الفرز لن يكون إيديولوجيّا وإنّما سيكون في علاقة بالديمقراطيّة وشروطها دعما وتعطيلا، وأنّه إذا ما التقت هذه المكوّنات على مهمّة تأسيس الديمقراطيّة فإنّ هذا سيوحّدها في وجه المنظومة القديمة ومكوّناتها المبعثرة.
ولم يفت اسماعيل التأكيد على ما تمثّله المواطنة من قاعدة لقاء مهمّة وأنّه سيكون لها تأثير على تقريب عديد المواقف المتباعدة من الثورة في المجال العربي (ليبيا، سوريا، مصر...)، وإلاّ فإنّ الدّبلوماسيّة ستكون موسومة إمّا بالعطالة، لاستحالة التوفيق بين مواقف متناقضة، أو بالتهافت لاختلاف تصريحات الوزراء.
بدوره قلّل الناصر أولاد أحمد، باحث في الفلسفة، في تصريح لـ "عربي21"، من إمكانية تشكّل "كتلة تاريخيّة" بالمفهوم القرامشي الصّرف، مرجعا ذلك إلى أنّ مفهوم الكتلة التاريخيّة وُجد ليكون طريقا للثورة، أمّا وقد حصلت الثورة في 17 ديسمبر -14 جانفي 2011 فإن ما يجمع الأحزاب والشخصيات السياسيّة المشكّلة لحكومة الياس الفخفاخ فهو تحالف حكومي ليس إلاّ، مضيفا أنّه تونسيا وراهنا لا معنى لكتلة تاريخية ولا وظيفة لها، وأنّ المنطق هو أن نتحدث عن وجود تحالفات وليس عن بنية كتلة تاريخيّة.
كما يؤكّد أولاد أحمد على أنّ اليسار التونسي ليس بحاجة إلى ما أسماه بوهم أو هيام الكتلة التاريخية، طالما أنّه هو المتحكّم الفعلي في إدارة دواليب الدولة ومؤسساتها، مضيفا أنّ اليسار بقي وظيفيا في مجمله، يوظّف نخبويّته ويصنع سرديّته بفاعليّة كبيرة، وبالتالي فإنّ ذهابه بعيدا في فكرة تأسيس كتلة تاريخية قد تجعله يحكم على نفسه بالذوبان، مشيرا إلى أنّ "الكتلة التاريخية هي عمل مشترك واضح الموازين، واليسار لا يريد هذا طالما هو المتحكم في خشبة المسرح السياسي والثقافي بصفة عامّة، فهم يعتبرون الدستورين الرّجل الخشبية التي يضربون بها خصومهم السياسيين"
.
في المقابل يؤكّد أولاد أحمد رهانه على المؤسسات التي أنشأتها الثورة وليس على "الكتلة المزعومة"، معتبرا أنّ المؤسسات الدستورية، وأهمها الرئاسة، هي الضامن للثورة وأنّه "لا معنى للعودة للبحث عن كتلة تاريخية وقد أنجزت الثورة، والأصل والأسلم هو السير قدما نحو استكمال تركيز المؤسسات الدستورية".
من غوغائية المشهدية الفرجوية إلى بناء الكتلة التاريخية
يرى الحمروني أنّ الواقع التونسي يحتاج إلى تغيير لا إلى تفسير وأنّه بقدر اقتراب النخب السياسية من بعضها البعض وتجاوز اختلافاتها وخلافاتها، قصد تفكيك بنية التناقضات المتحكمة في أزمة البلاد والحكم، بقدر ما يكون مؤشر الانفراج السياسي والتنموي في تعداده التصاعدي، مضيفا أنّ هذا يفترض قاعدة ثقافية قيميّة تحصّن الفاعلين "Les acteurs" السياسيين والاجتماعيين من الانزياح نحو غوغائية المشهدية الفرجوية ودغما ئيتها الخطابية المعهودة في مداولات نواب البرلمان، وتدفعهم إلى كتلة تاريخية بالمفهوم الغرامشي وما تتطلّبه من وعي عضوى، يخترق السّياج الحزبي ويعيد نسج الحالة الجديدة الوطنية بمبدئية نضالية وواقعية سياسية لا بطوباوية انتقائية إيديولوجية.
ويرى الناصر أولاد أحمد أنّ اختبار الانزياح الذي أشار إليه الحمروني، سوف يكون مجاله موعد التصويت على استكمال بناء المؤسسات الدستورية المتبقّية (المحكمة الدستورية وهيئة مكافحة الفساد)، والتي يعتبرها بمثابة الاختبار الحقيقي لإمكانية تشكل كتلة تاريخية بالمفهوم الغرامشي للكلمة..
أهم تحولات التيارات السلفية في المغرب (2 من 2)
أهم التحولات الفكرية للتيارات السلفية في المغرب (1 من 2)
مقدمات علمية في فهم فلسفة التاريخ وواقع العرب والمسلمين