قضايا وآراء

هذه الحملة ستنتهى إلى الفشل

1300x600

في عالمنا العربي؛ ثلاثي الثورة المضادة: "السيسي وابن سلمان وابن زايد" ونخب ومثقفون وإعلاميون يدورون في فلكهم؛ يعتقدون أن بالإمكان استئصال الحركة الإسلامية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلميين، على طريقة الخمسينيات والستينيات!!

يقول ماركس: "يتجلى التاريخ مرة في صورة مأساوية، ولكنه لا يعيد نفسه إلا بصورة هزلية". لكن في عالمنا العربي ما زالت بعض الأنظمة الحاكمة ونخبها تعتقد أن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه.

لقد واكبت الإطاحة بالشهيد الرئيس مرسي ولادةُ مشروع "اقتلاع الحركة الإسلامية، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين". هذا المشروع لم يحمله السيسي في مصر وحسب، بل وعددٌ من الحكام العرب الآخرين، وقطاع من الكتاب والمثقفين والإعلاميين المصريين والعرب.

وتولدت قناعة لدى هؤلاء مفادها أن من الضروري اقتلاع جماعة الإخوان المسلمين، والقوى الإسلامية الأخرى القريبة منها، من جذورها، من منطلق أن تحجيم الإسلاميين ودفعهم إلى هامش الحياة العامة هو طريق الاستقرار الضروري.

هذا المشروع الاستئصالي الحديث يستلهم فكرته من الخمسينيات والستينيات، حيث الحرب الشعواء التي تعهدها عدد من الأنظمة العربية آنذاك، حيث كان عبد الناصر مُسَعِّر الحرب الأول ومصر ساحتها الأولى، ثم حذت حذوه دولٌ مثل الجزائر وتونس والعراق وليبيا، ثم سوريا. فتم اعتقال عشرات الآلاف من الإخوان المسلمين، تعرض أغلبهم لتعذيب بشع، وحُوكموا أمام محاكم خاصة أو عسكرية، تفتقد أدنى درجات العدالة. كما أُجريت عملية تجريف واسعة النطاق لأجهزة الدولة ومؤسساتها منهم، ومنع أبناء الإخوان من الالتحقاق بمؤسسات الدولة الأمنية. وفي موازاة ذلك كله، تعهدت وسائل الإعلام والتوجيه والثقافة والفنون الرسمية حملة تشويه للإخوان، وحملة أوسع للسخرية من الدين ومكافحة مظاهر ودوائر التدين، على أساس أن هذه الدوائر هي من توفر الحاضنة للإخوان؛ بينما عملت الدولة على إحكام قبضتها على المؤسسة الإسلامية الرسمية، سياسياً وأمنياً.

ومنذ انقلاب 2013، شهدت مصر وعدد من الدول العربية الأخرى، حملة جديدة على الإخوان والتيار الإسلامي السياسي بصورة أكثر دموية وبشاعة مما كانت عليه في سنوات الخمسينيات والستينيات. ولكن الهدف واحد: "الاستئصال" إن أمكن، أو "الإضعاف البالغ"، بصورة تجعل أثر الإخوان والإسلاميين على الحياة العامة هامشياً.

لكن ما يغيب عن متعهدي هذه الحملة، حُكاماً ومثقفين وكتاباً وإعلاميين، أننا في القرن الحادي والعشرين، ولسنا في حقبة الخمسينيات والستينيات، وأن هذه الحملة ستنتهي إلى الفشل؛ لأن بلدان المنطقة تشهد:

1- حالة نهوض إسلامي، أو صحوة، أو سمها ما شئت، غير مسبوقة منذ بداية عصر التحديث العثماني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

2- وإن من ينضوون في التيار الإسلامي السياسي، أو يؤيدونه، أضعاف نظرائهم في الخمسينيات والستينيات.


3- والأهم أن التيار الإسلامي اليوم هو أقرب إلى تمثيل الشعوب أكثر مما كانوا عليه في السابق، وينحدرون من كافة الطبقات والفئات الاجتماعية.

4- وأن حجم التيار الإسلامي بصفة عامة بات أكبر بكثير من الإخوان المسلمين، الذين كانوا الهدف الوحيد لحملات الاستئصال والقمع في الخمسينيات والستينيات.

5- وتبقى الحالة الإسلامية أكبر من كل التنظيمات الإسلامية مجتمعة، الإصلاحية والمسلحة، والإخوانية والسلفية والليبرالية، على السواء.

6- ثم إن إخفاق نموذج الدولة الوطنية المستوردة المزمع في التعامل مع مسألة دور وموقع الإسلام في المجال العام، ومحاولة إبعاده عن الحياة العامة، جعل قطاعات واسعة من الشعب يرى أن الإسلاميين وحدهم من يمكن الثقة في حراستهم للدين وقيمه.

7- إضافة إلى ذلك، واجه الإخوان في النصف الثاني من القرن الماضي أنظمة ذات مشروع، قادها زعماء أصحاب كاريزما، خاضوا نضالاً حقيقياً ضد النفوذ الأجنبي في حقبة الاستقلال وما بعد الاستقلال، وتمتعوا بشعبية لا يمكن إنكارها. أما اليوم، فيواجه الإسلاميون أنظمة حكم أقلوية، بالمعنى الاجتماعي أو السياسي أو الطائفي، تعاني من عجز متفاقم في شرعيتها، ولا تتمتع بأي مصداقية أخلاقية أو شعبية.

فالسيسي مثلا يفتقد كل الخصال التي صنعت رئاسات سابقيه، حيث تكشف لغته وتصرفاته عن مقدرات بالغة التواضع لضابط جيش، صعد في زمن انحطاط العسكرية المصرية، دون أن تكون لديه أية مواريث أو مؤهلات سياسية تذكر. ولديه معاناة دائمة من مشاعر النقص، وإدراك يقيني بأن رئاسته بنيت على الاغتصاب والخداع والتآمر، وليس على الحق أو الإنجاز.

8- وبالرغم من التطورات الهائلة في وسائل الرقابة والتحكم والقمع التي تمتلكها الأنظمة، فهناك في المقابل تطورات موازية في وسائل الإتصال والمعرفة والثقافة، تجعل من احتكار أنظمة الحكم لعملية بناء الوعي الجمعي أو استحمار الشعوب أمراً مستحيلاً.

وقد لا تؤدى هذه الحملة على الإخوان والإسلاميين إلا إلى تحول الحركة الإسلامية بصفة عامة إلى خيار المقاومة بكل أشكالها.

ولكن يمكن القول أنه بعد مرور تلك السنوات التي تلت الانقلاب الغاشم؛ انكشفت عبثية مشروع الثورة المضادة واستحالة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ليس على مستوى واحد، بل على كافة مستويات الحكم والدولة. لقد أخفق النظام الانقلابي في صناعة الأمن، كما كان إخفاقه الأكبر في توطيد الاستقرار. وإلى جانب ذلك كله، تراجع موقع مصر وثقلها في الإقليم، وتقزم دورها، حتى باتت مصر ذيلا للكيان الصهيوني.
 
ولكن يقيني أن هذه الحملة الشعواء ستخفق، وأن المنطقة في طريقها إلى الانتقال إلى حقبة تاريخية جديدة تنتزع فيها الشعوب حقوقها كاملة، وهي من ستعيد الإسلام لموقعه ودوره في الحياه العامة، لستأنف دورها التاريخي جامعة بين الأصالة والحداثة لتُنهِي حقبة الاستبداد والفساد والتبعية.