لا تقتصر أدوات الحرب والمواجهة التي توظّفها دولة الاحتلال الصهيونيّة على أدوات القتل المباشرة للفلسطينيين وسلبهم أرضَهم وإمكانيّاتهم، وإنّما توظّف أيضا الفنّ والأدب والإعلام في حملاتٍ لخلق تأييد عالميّ لمشروعها ومشروعيّتها، عبر تجميل صورتها باعتبارها دولةً ديمقراطيّةً مقابل حالة وحشيّة غير مُنظّمة ولا تقوم على أساس أخلاقيّ في المحيط الجغرافيّ والسياسيّ.
ومما لا شكّ فيه أنّ الأعمال التلفزيونيّة
والسينمائيّة في العصر الحديث باتت من أكثر الوسائل تأثيرا في الرأي العام ونشر
الأفكار لسهولة وصولها لأكبر عدد ممكن من المشاهدين عبر العالم، ولما تتضمنه من
أدوات التشكيل والتأثير، لا سيّما أنّ الترجمة جعلت من أبناء الثقافات جميعها
جمهورا مُستهدفا ومن الممكن توجيهُ منظوره وموقفه.
وتمتلك دولة الاحتلال
الصهيونيّة أدواتِ إنتاجٍ هائلةً وواسعة الانتشار لخدمة أهدافها الاستعماريّة
التوسّعيّة، وتعي التطوّرات التي تحدث في الآفاق العالميّة على مستوى أشكال
الإنتاج الفنيّ وتطوّرها، وعلى مستوى الوعيّ بالقضايا العالميّة والآليّات
المناسبة للتأثير فيها، بما في ذلك الاختلاف في موقف الشعوب والجماهير العالميّة
من القضيّة الفلسطينيّة التي بات التعاطف معها أعلى بشكل ملحوظ من العهود السابقة،
بفعل تعدد وسائل الإعلام وعدم القدرة على احتكارها.
اقرأ أيضا: فيلم "ليل خارجي"... مرافعة الواقع المُر
من هنا يمكن التنبّه
إلى إشكاليّة مركّبة في المسلسل الإسرائيليّ فوضى (Fawda) للمخرج آفي يساتشاروف (Avi Issacharoff) الذي كتبه بالمشاركة مع صاحب دور البطولة
ليئور راز (Lior Raz) ومثّل دوره
باسم دورون (Doron). ومنبع هذه
الإشكاليّة في هذا المسلسل أنّه لا يُظهر تحيّزه الصهيونيّ بطريقة بسيطة أو يسيرة،
وإنّما قد يُظنّ من مشاهدته الأوليّة أنّه محايدٌ إلى حدّ ما على الأقلّ، لا سيّما
أنّه يركّز الأضواء على ما يمكن أن يوصف قانونيّا وأخلاقيّا بأنّه أخطاء وعنف
ترتكبه قوّات الاحتلال ضد أعدائهم بالإضافة إلى التركيز على الأمر نفسه بالنسبة
للفلسطينيين عموما، ولحماس خصوصا على مستوى التنظيم والأفراد المنتمين لها.
في مسلسل فوضى المبنيّ
على أساس حكاية تسير بخطين متوازيين يصوّر كلٌّ منهما جانبا من الصراع الإسرائيليّ
الفلسطينيّ، يزداد الأمر التباسا مع توجيه المسلسل الانتباهَ إلى ما يعانيه
المقاتلون على المستوى الفرديّ والعائليّ من الطرفين، ففي الوقت الذي تفرض فيه
قيادة الطرفين الأوامرَ على الأفراد، يتورّط هؤلاء الأفراد في خسارات وصدمات
نفسيّة وعمليّات قتل وعنف جسديّ، ويقع ضحايا لهذا كلّه العديد من عائلات المقاتلين.
فبينما يُقتل الشاب
بشير في يوم عرسه برصاص فرقة المستعربين التي دخل أفرادها في العرس على أنّهم
العمّال الذين يُحضرون الحلوى، لكي يقتلوا أخا العريس توفيق حامد "أبو
أحمد" الذي ظنّت الأجهزة الأمنية الإسرائيليّة أن دورون كان قد قتله قبل
تقاعده، وبسبب اكتشافهم عدمَ صحّة ذلك استُدعي دورون لإكمال مهمّته. وبينما يتمكّن
"أبو أحمد" من الهرب بعد أن أصابه دورون برصاصة غير قاتلة، تُصدم آمال
زوجة بشير بما حدث لزوجها في يوم عرسهما، فتقدّم نفسها فدائيّة لتنفيذ عمليّة في
تجمّع إسرائيليّ، فيختار لها وليد وهو اليد اليمنى لـ "أبو أحمد" البار
الذي يتردد عليه أحد أفراد كتيبة المستعربين بوآز (Boaz) الذي وقع منه أثناء محاولة اغتيال "أبو
أحمد" ما يدلّ على تردده على ذلك البار. وبينما كان من المفروض أن تخرج آمال
خلال ثلاث دقائق من وضع القنبلة في البار، ترفض الخروج مفضّلة الموتَ في تفجير
البار الذي كان بوآز على وشك الدخول إليه للقاء حبيبته التي تموت ويتقطّع جسدُها
إربا.
اقرأ أيضا: إيلي كوهين ومسلسل "الجاسوس": من صنع الأسطورة ؟
وبعد موت بشير وزوجته
وحبيبة بوآز، الذي يقع أسيرا بيد مقاتلي "أبو أحمد" أثناء عمليّة لاحقة
لكتيبة المستعربين، يتحرّك دورون دون أوامرَ لإنقاذ زميله وشقيق زوجته يرافقه
زملاؤه في الكتيبة، فيخطفون الشيخ عوض الله صديق "أبو أحمد" وأحد
المخلصين له ليبادلوه بزميلهم، لكنّهم يكتشفون أنّ رجال "أبو أحمد"
زرعوا قنبلة داخل بطنه، فيخطفون ابنة "أبو أحمد" الطفلة التي تُصاب بأذى
كبير في إحدى عينيها أثناء تفجير الرجلين، وتصبح وسيلة لإغراء زوجة "أبو
أحمد" لإجراء عمليّة لابنتها في تل أبيب وتسفيرها بعد ذلك إلى ألمانيا. ويدخل
ابن الشيخ عوض الله في مشهد الأحداث لينتقم لوالده ويتمكّن لاحقا من قتل والد
دورون دون أن يكون له علاقة بالأعمال القتاليّة والعسكريّة، كغيره من الذين دخلوا
المواجهات وقُتلوا وهم ليسوا جزءا منها.
وبينما يستمر المسلسل
بجزأيه في سلسلة الأحداث التي تثير تشويقا عاليا عبر الحلقات الأربع والعشرين،
تستمر معاناة الطرفين والأخطاء التي تقع منهما. وهذا يبدو ظاهريّا عرضا يتناول
الطرفين بحياديّة نسبيّة سلبا وإيجابا، على أنّهما طرفان يُذيقان بعضَهما الألم في
صراع مرير. ولا بدّ من إيقاف هذا الصراع وما ينتج عنه من أخطاء، لتنتهي آلامُه
وسقوط الضحايا، لا سيّما أولئك الذين لا يرتبطون بالمواجهات مباشرة.
غير أنّ إعادة النظر
في هذا المسلسل تكشف عن تحيّز عميق وكبير ومحاولة لتشويه الفلسطينيين تاريخيّا
وسياسيّا وأخلاقيّا. أمّا البعد التاريخيّ فيتمثّل بعرض المواجهات بين القوّات
الإسرائيليّة والمقاومة الفلسطينيّة معزولةً عن قضيّة احتلال فلسطين، وكأنّ الصراع
بين جانبين متخاصمين على الحدود وليس متعلّقا باحتلالٍ وسرقة أراضٍ وتشتيت شعبٍ
وتدمير هُويّة. هذا المنظور يمكن أن يناسب النزاع بين جانبين كالهند وباكستان، حيث
يمتلك كلٌّ منهما تاريخا وحقا في الأرض التي يقيمان عليها، والمفروض أن تحكم
الجانبين علاقاتُ الجوار، لكنّه ليس مناسبا لاحتلالٍ واقتلاعٍ من الأرض كالحالة
الفلسطينية.
وعلى المستوى السياسيّ،
يعمل مسلسل "فوضى" على إظهار المؤسسات الفلسطينيّة في صورة بشعة مشوّهة
للغاية؛ فهي مؤسسات متصارعة ليس على مستوى الصراع المعروف بين فتح وحماس، وإنّما
داخل حماس بشكل خاص، فيعمل المسلسل بشكل متواتر على إبراز النزاعات بين مراكز
القوّة في كوادر حماس. فعلى سبيل المثال، حين تفشل فرقة المستعربين باغتيال
"أبو أحمد" يقتله مساعده وليد، الذي يحتلّ مكانه، ويظهر بشكل كبير عجزُه
عن تحقيق دوره قائدا للعمليّات وتنفيذ الأوامر القادمة من قيادته المركزيّة، ويفشل
أيضا في كبح طموح نضال ابن الشيخ عوض الله في الانتقام لوالده بشكل فرديّ، وهو ما
سيجعله يعلن انشقاقه عن حماس وإعلان انتمائه لداعش و تجنيد أشخاص لها والقيام بعمليّات لحسابها.
وعلى المستوى الأخلاقيّ،
يصوّر المسلسل أنّ أفراد الجماعات الفلسطينيّة المختلفة متورّطون في أفعال لا
أخلاقيّة مثل الاختلاسات المالية وفي التعامل مع إسرائيل والعمل لحسابها مقابل
مكاسبَ شخصيّةٍ، وكذلك خيانة الأصدقاء الفلسطينيين لبعضهم، فمن ينقل الأموال لحماس
يسرق معظمَها، ووليد الذراع الأيمن لـ "أبو أحمد" هو الذي يقتله برصاصة
من الخلف في رأسه، وحتى نضال الذي يعمل للانتقام من دورون لقتله والده، يلفت
انتباه زوجة أخيه ويُظهر اهتماما خاصّا بها قبل أن يتورّط زوجها دون رغبةٍ منه في
مواجهة مسلّحة ويُقتل خطأً برصاص نضال نفسه. هذا الحادث يصبح أكثرا تعقيدا حين
يطلب نضال من أرملة أخيه أن تتزوّجه فترفض وتذكّره بأنها تعرف ما في نفسه قبل موت
زوجها، فيثور سؤال كبير في تفسير الأحداث عن حقيقة أنّ نضال قتل أخاه خطأً!
بالمقابل، على الرغم
من أنّ المسلسل يقدّم بعض هذه التشوّهات في سياق العذاب التي يتعرّض له الطرفان
ويذهب ضحيّته أبرياء من الجانبين، إلا أنّه يجعل أخلاقيّات أعضاء فرقة المستعربين
نبيلة، فهم جميعا حريصون على سلامة زملائهم مقابل قتل الفلسطينيين لبعضهم، وما
يظهر من صراع بين الصهاينة أنفسهم لا يقودهم إلى الثأر والانتقام. وكذلك حين يخالف
دورون وزملاؤه أوامر قادتهم، فإنّ ذلك لا يعكس خللا في البنية المؤسسيّة، وإنّما
يهدف إلى إبراز وفاء الصهاينة لزملائهم. هذا يحدث بتشويقٍ رهيبٍ في الأحداث
وتسلسلٍ منضبطٍ لا يتفلّت منه أيٌّ من جوانبه. وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى
إيهام المتلقي (غير العربيّ على الأقل) بالشعور أنّ المسلسل يقدّم قراءة محايدة
لصراع يذهب الجانبان ضحيّة له.
إيلي كوهين ومسلسل "الجاسوس": من صنع الأسطورة ؟