في أربعينيات القرن الماضي، استعان رئيس الحكومة الراحل رياض الصلح بلجنة أوروبية للنهوض بالقطاع الزراعي في البلاد بعد الاستقلال. حضرت إلى بيروت، وجالت خلال شهرين على سائر المناطق اللبنانية لتقصّي المشكلة وإعداد خطة عمل إصلاحية والخروج بتوصيات. وخلصت إلى أن التفاح ماروني، والعنب كاثوليكي، والزيتون أرثوذكسي، والتبغ شيعي، والحمضيات سنية... وعليه، فإن بلداً تنخره الطائفية، حتى الزراعة فيه، لن يكون إصلاح قطاعاته سهلاً.
هذه المفارقة، تنسحب على مقاربة كل الملفات اللبنانية، حتى المعيشية منها. فعند كل أزمة تهدد الاجتماع السياسي اللبناني القائم على التشارك وتقاسم النفوذ والحصص، تُبنى السقوف الطائفية لمنع استهداف أي طائفة. ولم يجتمع اللبنانيون على مواجهة السلطة لأسباب معيشية، من غير دعم سياسي، منذ قيام الكيان في العام 1943، قبل خروج مئات الآلاف الى الشوارع، في 17 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، بهتاف "الشعب يريد إسقاط النظام".
يجمع اللبنانيون على أن الاحتجاجات التي اتسعت لتشمل كافة المناطق اللبنانية، على خلفية اقتراح وزارة الاتصالات لفرض ضريبة على مكالمات الـ"واتسآب"، يمثل حدثاً في تاريخ لبنان. فالاحتجاجات لم تطالب بإسقاط الحكومة فحسب، وهو أمر ممكن بالنظر إلى أن كل الأطراف السياسية، وفق المناصفة الطائفية، ممثلة فيها، وبالتالي لن تكون تهديداً إلى طائفة واحدة دون سواها. فقد طالب المحتجون بإسقاط النظام الطائفي القائم على المحاصصة والزبائنية، وهو أول تهديد جدي لاجتماع سياسي فَرَض بالنصوص والأعراف مواقع النفوذ للطوائف، مستلهماً الشعار من ثورات الربيع العربي.
وسجلت الاحتجاجات مفارقتان: خروج المسيحيين ضد السلطة، للمرة الأولى في تاريخ لبنان منذ الاستقلال، وخروج الشيعة ضد السلطة أيضاً. الطائفتان كانتا محيدتين من الانقضاض على النظام، ذلك أن المسيحيين الذين يعتبرون أنفسهم من مؤسسي الكيان، ويحتفظون بامتيازات كبيرة فيه، يخرجون ضد امتيازاتهم. أما الشيعة الذين دخلوا السلطة التنفيذية بعد الحرب، ويحكمون عبر ثنائية حزبية توفر القوة لهم في السلطة عبر "حزب الله"، والنفوذ بالعلاقة مع الأطراف عبر رئيس مجلس النواب نبيه بري، فقد ثاروا على الأدبيات السياسية، وعلى الثنائي الشيعي الذي يختصرهم في الحكم، فيما يترقب السنة بحذر خوفاً من سقوط رجلهم القوي سعد الحريري في الشارع، في حين يستوعب الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الحدث وحوله إلى مواجهة سياسية مع العهد، منعاً لشتيمته في الشارع.
حدث شيعي
هذه التظاهرة غير مسبوقة في قاموس حزب الله وحركة أمل منذ حوالي 30 عاما، هذا التحرك لبناني وليس حصرا في المناطق الشيعية ولا شك أن هناك خصوصية في البيئة الشيعية، لأنه أتى لأول مرة بهذه الدرجة والمستوى. وإذ يشير الكاتب والصحافي علي الأمين إلى أن "هناك الكثير من الاسئلة حول مستقبل هذا الحراك"، يعرب عن اعتقاده كمراقب ومتابع للوضع الشيعي ولا سيما في الجنوب "بأن هذه الاحتجاجات في الجو الشيعي هي مفصل مهم في زمن سيطرة ونفوذ الثنائية الشيعية".
ويقول الامين في حديث لـ"عربي21": "هذا المشهد الشعبي الاعتراضي الاستثنائي الشيعي منسجم مع الحراك الوطني اللبناني برفع شعار إسقاط الحكومة، فيما أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله كان قد أكد أن الحكومة لن تسقط وعلى الرغم من ذلك خرجت شريحة من المواطنين الشيعة لتقول وتتبنى إسقاط الحكومة".
ويشدد الأمين، وهو كاتب معارض لحزب الله، أن "هذا الرفض يعكس جرأة من جهة ويفتح الباب على بداية تحولات ومسارات تأسيسية على مستوى كل لبنان، ومن ضمنه الدائرة الشيعية"، ذلك أن "الدائرة الشيعية ليست مفصولة عن البيئة اللبنانية، لكن هذه المرة بدأنا نرى تحركات لم نكن نراها من قبل، واليوم يبدو واضحا أن جدار الخوف انكسر وأصبحت القدرة على التغيير أسهل من السابق وأصبحت القوى الحاكمة أضعف مما كانت عليه في السابق". ويشير إلى أن "هذا التطور سيكون له تأثيره الاجتماعي والسياسي في البيئة الشيعية" من غير تحديد مستوى حدود هذه التأثير، وهو المتروك للأيام المقبلة.
تقارب مسيحي مع باقي الطوائف
الرفض الذي طال أدوات الحكم الشيعي، ينسحب أيضاً على أدوات الحكم المسيحي، وهو كسر للحواجز التي كانت قائمة، ويجتمع اللبنانيون اليوم على مختلف مشاربهم على انتقاد السلطة، واعتبارها مسؤولة عن اختناقهم اقتصادياً واجتماعياً، رغم أن مطالب كل منطقة مفصولة عن مطالب الأخرى، استناداً إلى قوائم الحاجات.
ويتوقف غسان عبد القادر، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية، عند مشاركة المسيحيين، لافتاً في حديث لـ"عربي21" إلى أنه "مع الحراك الشعبي الحالي، شهد الشارع المسيحي التحول الثاني في مواقفه تجاه الشارع المسلم بعد 14 آذار (مارس) 2005 الذي شكل أول تبلورات الانفتاح اللبناني. هذا التحول كما بدأ في العام 2005 بخصم مشترك هو الوصاية السورية على لبنان، أخذ شكله العفوي عبر صب جام الغضب على الصورة المستفزة للعهد القوي المتمثلة بجبران باسيل بشخصه ونسبه".
ويشير إلى أن التوقيت الذي أراده رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع من إعلان استقالة القوات، "يهدف دون أدنى شك إلى لعب دور المحفز والقيادة من الخلف leading from behind للحراك الشعبي في جانبه المسيحي بغية الحفاظ على المصالحة المسيحية من حيث الشكل على الأقل، وإن كان التفاهم مع التيار الوطني الجر قد أسلم الروح وينتظر مراسيم الجنازة".
ويشرح عبد القادر: "الوجدان المسيحي في لبنان لا يزال تنتابه الهواجس من حرب الإلغاء إلى غزوة الأشرفية مروراً بحل القوات (1994) و7 آب (تاريخ فض الاعتصامات المسيحية بالقوة في الشارع العام 2000) وصولاً إلى شبح داعش. لكن المسيحي اليوم يبدو أكثر تقارباً مع باقي الطوائف من منطلقات اجتماعية اقتصادية بالدرجة الأولى وبفعل وجود مصالح حياتية تفرض نفسها بعد أن بهتت شعارات 14 آذار السياسية الجامعة بفعل تخلي أهل البيت الواحد عنها".
ولا يخفي عبد القادر أن "التخوف المسيحي من التحولات التي قد يشهدها الحراك ماثلة في الأذهان بل ومحسوبة في مكان ما من قبل القوات والكتائب وغيرهم من القوى المسيحية التي تدعم التحركات الشعبية"، لكن لا ريب أن ما يشهده لبنان منذ أسبوع حتى الآن هو ضمانة للمسيحيين في مكان أمام هاجس سلاح حزب الله وطغيان طرف مسيحي على الآخر، وإنكار حلفاء 14 آذار لهم في بعض الأحيان".
بداية تحول سياسي
لم يعرف لبنان، منذ استقلاله، سقوطاً لحكومة في الشارع لأسباب معيشية من غير دفع سياسي. سقطت حكومة الرئيس عمر كرامي في الشارع، في العام 1992، بسبب ارتفاع قيمة الدولار، بمشاركة أحزاب وتيارات بالاحتجاجات في الشارع. ومنذ ذلك اليوم، كانت السلطة تستوعب الاحتجاجات، وتحتويها، مرة بتقديمات هزيلة، وأخرى باللعب على الوتر الطائفي، ومرات بتعزيز منطق الزبائنية في داخل النظام اللبناني موزعاً بين الطوائف.
على ضوء هذه التجارب، حاولت الحكومة استيعاب الحدث الذي يتجه نحو وتيرة تصاعدية. فشلت حتى الآن، ولم ينجح المحتجون في المقابل بإحداث خرق، على ضوء موانع وضعها المسيحيون والشيعة في وجه أي تغيير جذري. فالأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله، وضع لاءات ثلاثة: "لا إسقاط للعهد (عهد الرئيس ميشال عون)، ولا إسقاط للحكومة، ولا سلة ضرائبية جديدة على الفقراء". أما وزير الخارجية جبران باسيل، صهر الرئيس عون، ورئيس "التيار الوطني الحر" أكبر حزب مسيحي ممثل في السلطة (29 نائباً في البرلمان و11 وزيراً في الحكومة)، فقد فرض على رئيس الحكومة، عبر توقيع رئيس الجمهورية، آلية للاستجابة للاحتجاجات لا تشمله بتاتاً، لكونه يعتبر الدرع الواقي للرئيس في وجه الحملات السياسية، منعاً لأن تنتقل السهام باتجاه عون بعده.
ثورة سياسية
في هذا الصدد، أخذت الانتفاضة منحى سياسياً، وهو أمر متوقع. ويقول عبد القادر لـ"عربي21": "لا ريب أن العنوان العريض للانتفاضة المسيحية ضمن الحراك الشعبي العام في لبنان عنوانها "جبران باسيل". انطلاقاً من الخلفية التاريخية للشارع المسيحي اللبناني، فثنائية القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر كانت الطاغية على الوسط المسيحي بالإضافة إلى بعض الأحزاب الأقل تمثيلاً وشعبية ذات الطابع المناطقي في أكثر الأحيان. وانعكاساً للانقسام العامودي الذي شهده لبنان منذ العام 2005 بين 14 و8 آذار، تفرق المسيحيون بين الآذاريين بين مؤيد ومعارض".
ويرى أن "الحدث الأكبر الذي هز الأوساط المسيحية واللبنانية على حد سواء هو الصعود الصارخ لجبران باسيل بوصفه مرشحاً نيابيا ومن ثم نائب وبالتالي وزيراً وبعدها رئيساً للتيار العوني على رأس كتلة نيابية ووزارية وازنتين وصولاً إلى تسويق نفسه لخلافة ميشال عون على رأس السلطة الأولى".
ويضيف: "لا ريب أن جبران باسيل بتكتيكاته السياسية ومواقفه استطاع استفزاز شريحة عريضة من اللبنانيين وبالتحديد المسيحيين الذين شعروا بمدى الاستهانة التي تلحق بهم والمهانة التي تطالهم آزاء احتكار واضح من قبل باسيل وعهده القوي".
ويشير عبد القادر إلى أن المسيحيين "تقبلوا ورقة التفاهم القواتية العونية والتسوية الرئاسية باعتبارها مدخلاً لحقن دماء الأخوة على قاعدة "اوعى خيّك" ولم يعارضوا شعار "بي الكلّ" باعتباره حفاظاً على رمزية المقام الماروني الأول في البلاد والمرجعية السياسية العليا لهم. الصدمة المسيحية جاءت من سلوك التيار العوني وليس الرئيس عوني، حيث تبين لهم لاحقاً أن جبران باسيل يدير الأمور وفق قاعدة "ما لنا هو لنا وما لكم هو لنا ولكم"، ضارباً بعرض الحائط جميع التفاهمات المبدئية المتفق عليها".
سقوط أيقونة باسيل
ينظر المسيحيون، وبعض الطوائف الأخرى، إلى باسيل على أنه طرف استفزازي، وهو ما حول مسار الانتفاضة باتجاهه مباشرة في الشارع المسيحي ولدى أطراف أخرى، بينهم الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يتزعمه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط.
يقول عبد القادر: "بدأ باسيل من وجهة نظر مسيحية ليس صاحب فتنة على الساحة المسيحية وحسب، بل على مستوى العلاقة مع الطوائف الأخرى خصوصاً السنة والدروز؛ فزيارات باسيل وخطاباته استحضرت الكثير من مفردات الحرب الأهلية وربما تم تصنيف التحركات الباسيلية كتهديد مباشر للمصالحة التاريخية في الجبل. ولم يستسغ المسيحيون طروحات باسيل الاستفزازية الهادفة لمعركة رئاسية مبكرة إذ جاءت باعتبارها منطلقاً لمحاور ثلاث: استعداء القوات، تحجيم سعد الحريري وتعزيز الحلف مع حزب الله. وعززت هذه المحاور حالة القرف تجاه الحالة الباسيلية بالرغم من تقبل غالب المسيحيين وان كان على مضض وجود ميشال عون في رئاسة الجمهورية".
تهشم القيادات الشيعية
فيما هشمت الشعارات المرفوعة في الشارع صورة باسيل لدى المسيحيين، هشمت في المقابل صور زعيمي الثنائي الشيعي. يقول الأمين لـ"عربي21": " الرئيس بري مربك حيال ما يجري في المناطق الشيعية لأنه أتى بوجه حركة أمل فمثلا ما حصل في مدينة صور (معقل بري) هو رسالة قوية بوجه حركة أمل، مفادها أن الوضع لم يعد كما كان عليه، وواضح أن هناك إرادة عند الناس ضد السلطة في الجنوب والسلطة في صور، وهي ليست الرئيس ميشال عون ولا الدكتور سمير جعجع بل هي لوزراء ونواب حركة أمل وحزب الله، وبالتالي هناك موقف جديد يقوم على رفض هذه السطة بشكل شعبي".
لا يخفي الأمين أن "جزءاً من هذا التحرك يحصل داخل البيئة الشيعية، وهو خرج من رحمها ليشارك في التحركات واليوم لدى حزب الله وحركة أمل مشكلة مع بيئتيهما وليس مع خصم حزبي كالتيار الأسعدي، فالمحتجون الشيعة ضاقت بهم الأمور ولم يعودوا مقتنعين بالوضع الراهن". ومما لا شك فيه "أن الشيعة خرجوا للتظاهر بمختلف الأعمار والأجناس من البيئة الشيعية ومن كل المناطق اللبنانية مثل بعلبك وبريتال ومناطق البقاع الأوسط والشمالي".
وفي الوقت الذي يظهر أن هناك أيديولوجيا موجودة عند مناصري حزب الله، فإن الرئيس بري "لا يوجد قداسة له، هناك زعامة ونظام مصالح، بمعنى إذا كان هناك مواطن يبحث عن وظيفة أو عن عمل فهناك الكثير من الموظفين الشيعة في الدوائر الرسمية قام بتوظيفهم الرئيس بري، ومن هنا فإن الكثير من المواطنين الشيعة يشكلون شبكة مصلحية معه، وهذه النقطة تشهد تراجعا اليوم بدليل ما حصل ويحصل. فالناس لم تعد مؤيدة لحزب الله وحركة أمل كما كانت تؤيدهما في السابق"، بحسب الأمين الذي يشير أيضاً إلى أن مؤيدي حزب الله وحركة أمل اليوم "لم يعودوا بنفس الزخم الذي كانوا عليه في السابق بدليل الانتفاضة الشعبية التي نشهدها بشكل أو بآخر في مناطقهم".
"المؤتمر القومي العربي".. مواجهة التفكك بالخطب والشعارات
بعد انتخابات تونس.. الجزائر تبحث عن "قيسها"
الديني والسياسي في الانتخابات التونسية.. حزب الرحمة نموذجا