التقرير السياسي الذي "رصد المتغيرات العربية والإقليمية والدولية" في الدورة الثلاثين من "المؤتمر القومي العربي" الذي انعقد في بيروت في حزيران (يونيو) الفائت، لم يخرج من جدران القاعة التي انعقد بها المؤتمر، وبالكاد سُمعت أصداؤه في الخارج، رغم أن المؤتمر عُقد في ظرف شديد الحساسية، يتمثل في رفض عربي واسع لـ"صفقة القرن"، ولنقل السفارة الأمريكية إلى القدس لإعلان المدينة عاصمة لإسرائيل، وخطط تصفية القضية الفلسطينية، والخطاب الطائفي المستعر والتدخلات الخارجية في البلدان العربية، والمطالب بالحماية الخارجية...
لم يخرج المؤتمر إلا بالشعارات التي اعتاد على تقديمها، محاولاً الحفاظ على تكتله واندماجه، والإبقاء على محاولات شد الأزر العربي، وهي مهمة تواجه بسريان نظريات التفكك في العالم، ومن ضمنها العالم العربي الذي يخوض فيه الشعب ثلاثة معارك متوازية: مواجهة التفكك على أساس طائفي وإثني، ومواجهة الديكتاتورية والأنظمة العسكرية التي تتوالد من رحم محاولات التغيير السلمي، وإرهاصات الاجتماع العربي الذي تتفاقم انقساماته من داخل البنية العربية.
وفيما قارب المؤتمر هذه الملفات من خلفية الخطاب السابق الذي بدأ بتقديمه في الثمانينيات، لم تتحول نتائجه إلى أي مبادرة يمكن أن تؤثر في السياق العربي، ما يطرح أسئلة عن ضرورة بقائه، ولزوم اجتماعه، وقدرته على التغيير في مشهد قاتم تتحلل فيه الآمال كما الديموغرافيا، وتتمزق فيه أحلام الوحدة بموازاة تمزق الجغرافياً، وتُهتك فيه السيادة وسط الاعتداءات ومحاولات التدخل الخارجي.
إطار للتشاور
يعرف المؤتمر عن نفسه بأنه "إطار للتحاو والتشاور بين الداعمين للمشروع النهضوي العربي والذي تتأكد الحاجة إليه يوما بعد يوم"، بحسب ما يقول الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي معن بشور، ويشير إلى انه "إطار للتفاعل بين شخصيات فكرية ونضالية وسياسية وثقافية وإعلامية على مستوى الوطن العربي بهدف التفكير في كيفية خروج الأمة من أزماتها".
وفي هذا الإطار "لا يفرض أحد رأيه على أحد ولا يلغي فيها أحد وجود أحد، لذلك استطاع المؤتمر الاستمرار بانعقاده السنوي منذ ثلاثين عاما دون توقف منتقلا من عاصمة إلى عاصمة ومتابعا هموم الأمة وأحوالها، ساعيا إلى طرح مبادرات من أجل مواجهة التحديات التي تواجهها الأمة العربية".
ولم يتحول المؤتمر إلى كيان نافذ، ولم تتخطَ مهامه إطار التشاور والتعبير عن آمال عربية بالتوحد. تلك الآمال التي شهدت صعوداً صاروخياً في زمن جمال عبد الناصر، وتعرضت لاختبار فاشل في وحدة مصر وسوريا، ثم تعرضت للطعونات في مواجهة البعث العراقي والبعث السوري، وتهشمت في أحداث اليمن في الستينيات، وانتهت حرفياً إثر غزو العراق للكويت.
ويقرّ بشور في حديث لـ"عربي21" بأن المؤتمر لم يسعَ إلى السلطة، يقول: "منذ تأسيس المؤتمر لم يكن لديه سلطة ولم يكن يطمح لذلك وبتركيبته وبصيغته لا يطمح لأن يكون له سلطة ولكنه كهيئة رأي عام يطرح قضايا ويؤثر في مجالها".
ويوضح: "مثلا عند حصار غزة، انطلقت من المؤتمر مبادرات لكسر الحصار عنها وكان للأعضاء سفن انطلقت من لبنان ومن تركيا وكان المؤتمر شريكا في التحضير لها والأمر نفسه ينطبق على الانتفاضة الأولى والثانية، فأعضاء المؤتمر تحركوا في العديد من الأقطار العربية، وشهدنا الكثير من المسيرات فهل يمكن أن تفصل مسيرات مليونية في المغرب عن جهود أعضاء المؤتمر في ذلك القطر؟ والأمر نفسه ينطبق على الجزائر وعلى تونس ومصر والبحرين والكويت واليمن ناهيك بلبنان وسوريا والاردن والعراق".
كيانات بديلة
والأسئلة عن ضرورة بقاء المؤتمر، تتشعب من السؤال عن القومية العربية نفسها، إلى العلاقات بين الأقطار العربية والطموحات الشخصية بين بعض زعماء الدول العربية، لجهة محاولات الهيمنة وسيطرة دولة على أخرى، وهو ما انتجت تحالفات أو كيانات بديلة للوحدة العربية القائمة على اللغة والهموم المشتركة، او الوحدة بمعنى الاجتماع السياسي في كتلة واحدة، التي تمثلها الجامعة العربية.
ويطرح الكاتب والمحلل السياسي اللبناني جوني منيّر هذه الأسئلة، قائلاً في حديث لـ"عربي21": "المؤتمرات القومية العربية التي تعقد في الوطن العربي تدفعنا إلى السؤال: القومية العربية هل لا تزال موجودة فعلا؟ هل لا تزال هناك روابط فعلية في هذا الإطار؟".
ويضيف: "رأينا في الفترة الأخيرة نوعاً من التجمعات التي تؤشر إلى بداية تفكك، تتمثل باهتمام كل إقليم عربي وكل منطقة عربية بمشاكلها، إن كان الخليج العربي، أو منطقة الشرق الأوسط العربية أي منطقتنا. ويظهر أن هناك نوعاً من الروابط المتفككة. ثانيا جامعة الدول العربية التي كان يحب أن تشكل الرابط الفعلي القوي لحقيقة القومية العربية تقريبا غير موجودة، موجودة فقط في الشكل لكنها عمليا غائبة، وحتى الدول العربية نرى أن كل فريق يبحث عن سند خارجي، ولكل بلد من هذه الدول العربية صراعات مختلفة، بمعنى مثلا تجد دول عربية بوجه دول أخرى، وهي تنتصر لمجموعات أخرى خارج النطاق العربي".
ويضيف: "حتى الصراع تجاه إسرائيل الذي كان يوحد الدول العربية لم يعد الصراع الأول على الساحة العربية، حيث هناك أفكار أخرى، وصراعات أخرى، وعلى العكس أضحت إسرائيل صديقة للعديد من دول العالم العربي".
ويرى منيّر أن "هذا الأمر يضرب في الأساس القومية العربية الفعلية نتيجة حالة التفكك الموجودة والانهيار الذي أصاب الروابط بين الدول العربية".
مبادرات بلا آليات تنفيذية
إثر شيوع الأفكار التقسيمية وتنامي الخطاب الطائفي والإثني في البلدان العربية، يجد المؤتمر نفسه عاجزاً عن تغيير أي شيء سوى بالدعوة إلى الحوار. لا يخفي بشور أن المؤتمر يطرح مبادرات يسعى إلى تنفيذها اعضاؤه في الأقطاب العربية. ويقول: "حين انفجرت المنطقة في مرحلة ما يسمى الربيع العربي، كان للمؤتمر منذ البداية رأيه أن لا مخرج إلا بحوار بين الشعوب وبين الأنظمة ونبه إلى أن وراء هذه التحركات مطالب مشروعة لكن أيضا هناك أجندات مشبوهة تسعى إلى استخدام المطالب المشروعة لتحقيق أجنداتها ومخططاتها".
لذلك "طرح المؤتمر مبادرات للحوار في سوريا وفي اليمن وفي عدة أقطار عربية بين الحكومة والمعارضة، لكن تعثرت هذه المبادرات لسبب او لآخر ولأن الامور لم تكن مهيأة لهكذا حوارات ولهذه الحلول".
ازاء هذا الواقع، يتجه المؤتمر إلى النشاطات ذات الطابع الثقافي او الوطني أو القومي يقف وراءها أعضاء من المؤتمر في العالم العربي.
ويقول بشور: "المؤتمر كمؤتمر لا يقوم بأنشطة لكن أعضاء المؤتمر من خلال أحزابهم ومؤسساتهم ونقاباتهم ومن خلال منابرهم الإعلامية والثقافية هم الذين يقومون بهذه النشاطات، فالمؤتمر مثلا اهتم بالشباب منذ العام الأول لتأسيسه وأطلق تجربة مخيمات الشباب القومي العربي التي لا تزال مستمرة على مدى 30 عاما والمخيم الأخير كان في لبنان قبل شهرين. فالمؤتمر ضمن امكانيات أقل من قليلة وضمن حصار مالي وإعلامي يسعى لإطلاق مبادرات تخدم الفكرة القومية العربية".
تمدد الشعارات
في دورته الثلاثين التي انعقدت في بيروت في حزيران (يونيو) الماضي، وشاركت فيها 200 شخصية قومية عربية، ناقش المؤتمر الموضوع الخاص بهذه الدورة وهو "الكتلة التاريخية أمام التجربة التاريخية"، والأوراق المتعلقة بالمشروع النهضوي العربي (الوحدة العربية ـ الديمقراطية ـ الاستقلال الوطني والقومي" صفقة القرن وسبل مواجهتها" ـ التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية ـ التجدد الحضاري)، إضافة إلى تقييم عمل المؤتمر وسبل تفعيله بعد أن استطاع الصمود في ظل تحديات وأعاصير ضربت المنطقة خلال ثلاثين عاماً وجرت خلالها تجاذبات ومراهنات فشلت جميعها في حرف المؤتمر عن بوصلته الأساسية وفي قلبها فلسطين.
تمسّك قومي غير كافٍ
ويرى منيّر أن "الشيء الجيد في هذه المؤتمرات هو أنه يبقى هناك نفس أو دعوة أو مثابرة من خلال مجموعات عربية تحاول أن تتمسك ببقاء هذه القومية العربية وأقصد على مستوى الأفراد والمجموعات". لكن هل هذا كاف؟ "بالتأكيد لا". هل هذا يؤدي إلى شيء كبير؟ "بالتأكيد لا"، يجزم منيّر. ويستطرد: "لكن يجب أن يكون هنالك من يطالب أو يذكر بأن القومية العربية موجودة وأن هذه الروابط العربية يجب ان تتعزز أكثر فأكثر حتى لو كان الأمل بوجود نتائج ضعيف؟"
ويجزم بأن هذه المؤتمرات غير قادرة على التغيير. يوضح: "لا تستطيع أن تحقق فكرة الدفع بإتجاه إعادة إنعاش وإيجاد وتركيز القومبة العربية من خلال سياسة أخرى أو تواصل آخر ما بين الدول العربية. لكن الشيء الإيجابي فيها أنه لا يزال هناك مجموعات تطالب من خلال أفكار على مستوى الشارع العربي تطالب وتتمسك وتحاول أن تبقي هذا النفس على مستوى العالم العربي".
ويقول: "هذه المؤتمرات بمثابة الشمعة في الظلمة، قادرة أن تعطي بصيص أمل لكن لا أعتقد أنها قادرة أن تصل إلى نتيجة ، فالأنظمة العربية بات لديها مشاريع أخرى وكل مجموعة تلتحق بركاب قوى أخرى خارج النطاق العربي وتدفع بها إلى التناحر وتقاتل في ما بينها".
ويوضح: "باكستان أصبحت تهتم بالعلاقة مع إسرائيل أكثر من التمسك بالقضية الفلسطينية التي هي لب القومية العربية وقضيتها وغيرها بعض البلدان العربية يتمسك بالعلاقة مع إسرائيل ضد هذه القضية فعليا، من دون أن ننسى المصائب والمشاكل الكبرى وتحالفات مع قوى معينة في وجه الدول العربية الأخرى كبعض التحالفات لقوى تشارك في الصراع السوري والعراقي مع إيران في وجه الدول العربية. من هنا خفت وهج القومية العربية، فالقضية الفلسطينية هي المنارة والأساس لقيام القومية العربية لكن ما نراه أن الكثير من الدول العربية أزالت القضية الفلسطينية من سلم أولوياتها. فبعض الدول العربية تتآمر مع إسرائيل والولايات المتحدة ضد القضية الفلسطينية حتى أن صفقة القرن التي تشكل استسلاما واضحا وكاملا وإنهاء كليا للقضية الفلسطينية ولم تقبل بها إسرائيل على الرغم أن بعض الدول العربية كانت متوافقة مع أمريكا لمصلحة هذه الخطة التي كانت موضوعة".
مواجهة التفكك
في ظل هذا التفكك، يدافع بشور عن التكتل. يقول: "أعتقد أنه في ظل التفكك الذي نشهده في عالمنا العربي فكرة الوحدة التي ترتكز على المفهوم القومي فكرة تبرز الحاجة إليها يوما بعد يوم، وحدة وطنية في كل قطر ووحدة قومية على مستوى الأمة ونحن لا نتحدث هنا عن وحدة دستورية أو عن وحدة اندماجية بل عن تشبيك بين الأقطار العربية".
ويقول: "يبقى مشروع واحد هو المشروع النهضوي العربي الذي يتمسك به المؤتمر والذي يقوم على 6 مبادىء: الوحدة العربية، الديمقراطية، الاستقلال الوطني والقومي، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية، والتجدد الحضاري".
ويعرب عن اعتقاده أن "التجمعات القومية هي الحل والرد على مظاهر التفكك"، مستشهداً بمشروع استشرافي قام به مركز دراسات الوحدة العربية في أواسط الثمانينات وشارك في إعداده أكثر من 50 باحثا ومفكرا عربيا من كل التيارات الفكرية الرئيسية من قوى قومية وإسلامية ويسارية وليبرالية ووصل إلى الاستنتاج بأن الأمة تعتريها مشاهد ثلاثة: بقاء المشهد الراهن أي تنبأ المشروع بأن هذا المشهد ذاهب إلى المزيد من التفكك والتآكل والانهيار وسماه بالمشهد الأكثر سوءا، ثم مشهد أقل سوءا، وقال: هو مشهد التجمعات الإقليمية العربية التي تضم دول المغرب العربي من جهة ودول الخليج العربي من جهة ومجلس التعاون العربي الذي ضم آنذاك العراق ومصر واليمن والأردن".
وأضاف: "الاستشراف يومها أن هذه المشاريع الإقليمية إذا لم تتجه نحو التكامل مع بعضها البعض فإنها ستتفكك وستواجه مشهد تفكك الأقطار، وهذا ما حصل وبقي المشهد الجيد الذي دعا إليه المؤتمر، وهو مشهد التكامل بين أقطار الأمة العربية، والذي لا يقوم إلا بقيام مشروع نهضوي عربي، والذي بدوره لا يقوم إلا إذا حملته كتلة تاريخية من تيارات الأمة الرئيسية لذلك عمل المؤتمر على تأسيس المؤتمر القومي العربي بلم شمل القوميين أولا ثم المؤتمر القومي ـ الإسلامي للتفاعل بين التيارات القومية والإسلامية واليسارية على أساس المشروع النهضوي العربي".
ويرى بشور "أن مواجهة حالة التفكك لا تتم الا برؤية ذات بعد قومي وذات بعد وحدوي وتاريخي"، وفق تعبيره.
بعد انتخابات تونس.. الجزائر تبحث عن "قيسها"
الديني والسياسي في الانتخابات التونسية.. حزب الرحمة نموذجا
مسيحيو لبنان.. هواجس الصمود في شرق نازف