الكتاب: الحريات الفردية تأصيلا وتطبيقا
المؤلف: الحسين الموس
الناشر دار الكلمة ـ المغرب
الطبعة الأولى 2019
الصفحات: 224
تعمق في الآونة الأخيرة الجدل بين الإسلاميين والعلمانيين على خلفية الموقف من الحريات الفردية، ووجهت انتقادات شديدة إلى تيار الإسلام السياسي، بل إلى الإسلام ذاته، بمخاصمة منظومة حقوق الإنسان الدولية، وبشكل خاص، ما يصطلح عليه بالحريات الفردية.
وإذا كان تيار الإسلام السياسي قام بجهد أكاديمي مقدر في تقريب أجيال حقوق الإنسان الثلاثة: المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، إلا أن موجة الحريات الفردية التي أثارتها عدد من الحركات التي تتمحور حول حرية الشخص في جسده واختياراته وسلوكه وذوقه ولباسه وعلاقاته الجنسية، قد خلقت بؤرة التوتر، وحاولت حلحلة النقاش من موقعه التقليدي، الذي كان في العادة ما يستدل بمعادلة النظام العام والقيود التي تفرض على الحرية من هذا المدخل، فتحسم مختلف المعارك مع حركات الحريات الفردية بهذه المقاربة، التي تتذرع بالجماعة ونظامها العام، والتقييد الذي تقبله مختلف المنظومات القانونية الغربية للحرية من هذا المدخل.
يخلص المؤلف إلى تركيب يرى فيه أن الحرية فطرية، وأن تقييدها أمر طارئ في الشريعة الإسلامية يتم اللجوء إليه لتنظيم الحرية ومنع إلحاق الضرر بالخلق
هذا الكتاب، يحاول أن يشق طريقا آخر، لا يقطع مع هذا المنطق بالكلية، لكنه، يقترب من ساحة التأصيل، ومحاولة محاورة أطروحات حركات الحريات الفردية، وذلك بعرض فلسفة الإسلام ومقاصده الكلية اتجاه القضايا التي تتبناها وتدافع عنها الحركات المدافعة عن الحريات الفردية.
فالمؤلف، من خلال هذا الجهد، لا يقصد من كتابه تبيئة هذه الحريات وتأصيلها وإضفاء الطابع الشرعي عليها كما تضطلع بذلك عدد من الأدبيات التلفيقية، ولكنه يحاول أن يحرر النقاش حول مشمولاتها، بالنظر الكلي المقصدي لنصوص الشرع وقواعده العامة.
الحرية أصيلة في التصور الإسلامي وسابقة عن الإيمان
يلجأ الدكتور الحسين الموس في كتابه إلى تحرير المفاهيم وتقصيها، سواء ما يرتبط بمفهوم الحرية أو ما يتعلق بمفهوم الفرد، فيبدأ كعادة الأدبيات الأصولية والفقهية بالتحرير اللغوي، ثم يبحث هذه المفردات في الحقل الشرعي، وتحديدا في النص القرآني والحديثي. ويعرف الحريات الفردية بكونها "حـق الإنـسان في التـصرف بناء عـلى قناعته الفردية، وعلى ما ارتآه بمحـض إرادته، ودون خوف مـن أحـد".
ويستعير مفهوم "فطرية الحرية" الذي أصل له الشيخ الطاهر بن عاشور، ويذكر ببعض أساسيات الشريعة بخصوص هذا المفهوم، فالإنسان في ظل الشريعة حر على خلاف بقية المخلوقات، وقد تمثل أول مظهر من مظاهر حريته الفردية في اختيار الهداية من الضلال، فضمن القرآن الكريم للناس حرية المعتقد، إذ يتأسس التصور الإسلامي على ثلاثية مفاهيمية مترابطة: بيان الحق، وحرية الاختيار، والمسؤولية الأخروية عن هذا الاختيار.
ويعرض المؤلف للنقاشات الكلامية التي تفجرت مبكرا على خلفية قضية الحرية، بين مذهب الجبر ومذهب الاختيار، مبينا بهذا الخصوص أن الفهم الصحيح لمفهوم القضاء والقدر لا يتعارض مع حرية الإنسان في العمل والأخذ بالأسباب، ولا يؤسس لأي جبرية تشوش على مفهوم الحريات الفردية.
يتأسس التصور الإسلامي على ثلاثية مفاهيمية مترابطة: بيان الحق، وحرية الاختيار، والمسؤولية الأخروية عن هذا الاختيار.
ويمضي الباحث إلى تأصيل هذه الحريات من أرضية التصور الإسلامي، انطلاقا من سبر بعض قواعد الشريعة، واستقرائها، مثل قاعدة: "كل ما شئت، والبس ما شئت في الهدي النبوي" و"حرية العمل حسب رغبة الفرد وإرادته"، وينتهي المؤلف في هذا السياق إلى إثبات أصالة الحرية الفردية في الشريعة الإسلامية، مستعينا في ذلك بعدد من القواعد التي استقرأها وبسط شروحها وتطبيقاتها، وذلك من قبيل قاعدة "الشارع متشوف للحرية" وقاعدة: "الأصل في الأشياء الإباحة" وقاعدة: "الإكراه يسقط أثر التصرفات".
تقييد الحريات الفردية: إجهاز عليها أم مسايرة لمنطق تقنين الحريات وتنظيمها؟
بعد جهد التأصيل الذي بذله المؤلف لإثبات أصالة الحريات الفردية في الشريعة الإسلامية، يمضي إلى تحرير القول في موضوع تقييد هذه الحريات، فيستعير مفهوم الشاطبي، للمقصد العام من الشريعة، وأن غاية الشرع تتلخص في تحرير العبد من داعي الهوى والشهوة والانقياد لربه. ويميز في هذا الصدد بين مفهوم الحرية التي يكون فيها الإنسان متحررا من هواه بحيث تظهر إرادته وحرية تصرفه من غير خضوع لهواه، وبين مفهوم الحرية التي تعني الانقياد للهوى والغرض حتى ولو كان يلحق الضرر بالفرد والمجتمع، مبينا في هذا السياق مقصد رفع الضرر في الشريعة الإسلامية.
ويخلص المؤلف إلى تركيب يرى فيه أن الحرية فطرية، وأن تقييدها أمر طارئ في الشريعة الإسلامية يتم اللجوء إليه لتنظيم الحرية ومنع إلحاق الضرر بالخلق. ويعتبر المؤلف أن تنظيم هذه الحرية لا يكون فقط بالمقتضيات القانونية التي تمنع التنازع بين الخلق عند التزام هذا المعنى المشوه للحرية، وإنما يكون أيضا بوازع داخلي يستشعره الفرد وتبنيه التربية، وهو ما يصطلح عليه بالمسؤولية، ويعتبر أن تلقين المبادئ وتيسير عملية تشربها لدى الناشئة يساعد على تمثل هذا المفهوم، وإحداث التوازن بين إقرار الحريات الفردية، وبين تحصين مصالح الخلق، ومنعهم من التنازع على خلفية الممارسة غير السليمة للحرية الفردية.
الكتاب يعتبر أن تأصيل العلماء لقواعد تغيير المنكر، تؤشر على الضمانات التي أحاط بها الإسلام ممارسة الحريات الفردية، ومنع التدخل فيها وانتهاكها.
ولئن آليات التربية ووسائلها تتعدد، فقد عرج المؤلف على قضية إشكالية، ترتبط بمفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحدود العلاقة التي تجمع بينه وبين مفهوم الحريات الفردية، أو هل هي علاقة انسجام أم تعارض وتناقض؟ فيحرر هذا الموضوع، وينتهي بصدده إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس القصد منه التدخل في الحريات الفردية وانتهاكها، وإنما القصد منه بناء فاعلية الفرد المسلم اتجاه المنكرات والظلم والاعتداء على الحق العام، وهو شكل من أشكال الممانعة الاجتماعية، التي تقي الاستبداد من جهة، ومفاسد الحرية غير المنضبطة من جهة أخرى، أي تبني في المحصلة، الضمير الاجتماعي ـ الوازع الجماعي ـ الذي يحول دون هتك مبادئ المجتمع وقواعده وآدابه العامة.
ويميز المؤلف في هذا السياق بين وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أصلها الشرع وبين الانحرافات والانزياحات التي وقفت في هذه الوظيفة على طول تجربة الأمة التاريخية، ويعتبر أن تأصيل العلماء لقواعد تغيير المنكر، تؤشر على الضمانات التي أحاط بها الإسلام ممارسة الحريات الفردية، ومنع التدخل فيها وانتهاكها.
من تأصيل الحريات الفردية إلى إزاحة شبهات انتهاك الإسلام لها
ينتقل المؤلف في المحور الثاني والثالث من كتابه ـ المحور التطبيقي ـ إلى استعراض بعض القضايا العقدية والتعبدية والتشريعية التي تم النظر إليها من قبل بعض العلمانيين على أساس أنها تدخل سافر في الحريات الفردية وانتهاك لها، محاولا تحرير النظر فيها ورفع الالتباس بشأنها. ويقرر منذ البدء أن عددا من الاجتهادات الخاطئة هي التي تسببت في حصول هذا الالتباس، وأن الاجتهاد التجديدي رفع هذه الشبهات، وأصل للانسجام بين العقيدة والحرية الفردية من جهة، وبين ممارسة العبادات والحريات الفردية من جهة ثانية.
العدد القليل الذي أقيم عليه قتل المرتد يحيل إلى أن علة القتل غير مرتبطة البتة بقضية التحول في المعتقد، بقدر ما تبرز ملابساتها أنها مرتبطة بجريمة سياسية.
ففي القسم المتعلق بالعقائد يعرض المؤلف لحدود العلاقة بين العقيدة والحرية كما يعرض للنقاش مسألة توحيد الدولة للرأي العقدي، ويبسط القول في قضية حرية المعتقد والسجال الفقهي الدائر حول قتل المرتد، ويناقش دعوى الإجماع حول قتل المرتد، كما يحفر في الإرهاصات الأولى لمراجعة الآراء الفقهية بهذا الشأن (محمد عبده وتلميذه عبد العزيز جاويش ثم علال الفاسي من بعدهما)، ثم يورد آراء بعض الفقهاء المعاصرين (الإمام الأكبر محمود شلتوت، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، وطه جابر العلواني، وأحمد الريسوني) وينتصر في الأخير للتعليل الذي أورده المعاصرون من كون علة القتل الواردة في النص غير مرتبطة بتغيير المعتقد، وإنما مناطها مفارقة الجماعة وخيانة الدولة والاشتغال مع خصومها ضد مصالحها، ويستند إلى الحجج الكثيرة التي أوردها الدكتور طه جابر العلواني في دراسته "إشكالية الردة"، والتي استندت إلى أن القرآن لم يتضمن عقوبة دنيوية للمرتد، وأن العدد القليل الذي أقيم عليه قتل المرتد يحيل إلى أن علة القتل غير مرتبطة البتة بقضية التحول في المعتقد، بقدر ما تبرز ملابساتها أنها مرتبطة بجريمة سياسية.
أما على المستوى التعبدي، فيورد المؤلف عددا من المسائل التي اشتبه فيها التعارض بين مطلب إقامة العبادة وبين الحرية الفردية، فيورد في هذا السياق قضية الصلاة، وتكفير تاركها، والمقاتلة على ذلك بعد الاستتابة كما ورد ذلك في عدد من النصوص الشرعية، ويستند المؤلف إلى رأي بعض الفقهاء الذين حاولوا توجيه هذه النصوص، منتصرا في ذلك للرأي الذي يركز على البعد التربوي والتعليمي بدل البعد الزجري، ومؤكدا في هذا السياق أن العقوبة والزجر لا تقيم دينا ولا عبادة، وإنما الأمر كله يدور حول الاختيار والتلقين والتربية والإقناع.
كما يورد في السياق ذاته النصوص التي تدعو لتحريق الديار على تاركي صلاة الجماعة، ويضعف القول بهذه النصوص، مستدلا بعدم وقوع فعل التحريق على هذه المسألة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشريعة جعلت من مقاصدها تمكين الفرد مـن الاختيار الحر لمـا يعتقده ويؤمن به، ومنعـت كـل إكراه في أمور العقيدة والتفكير،
ودأبا على نفس النهج، يورد قضية الصوم والتناقض الذي يحاول بعض العلمانيين إثارته بشأن حرية الفرد في الإفطار العلني، مدعين بهذا الخصوص تعارض الشريعة مع الحريات الفردية، فيحرر المؤلف القول في ذلك، مستعينا بذلك بقضية الرخص التخفيفية، وأن الأعذار والرخص الموجبة للإفطار، تؤكد وجود فرز داخل المجتمع المسلم بين الصائمين والمفطرين، لكنه يميز في هذا السياق بين الحرية في الإفطار وبين الإفطار العلني الذي يتضمن المس بمشاعر الجمهور واستفزازهم وتحريضهم على إبطال فريضة الصوم والتشكيك فيها.
ثم يمضي المؤلف بعد ذلك إلى بسط القول في قضية الزكاة وحكم محاربة مانعيها، وعلاقة ذلك بالحريات الفردية، مؤكدا في هذا السياق أن المحاربة التي حدثت في عهد أبي بكر الصديق على خلفية منع مال الزكاة، لا ترتبط بالبعد التعبدي في الزكاة، وإنما لها علاقة بالبعد المالي، باعتبار أن الزكاة عبادة مالية، وأن منعها يفضي هدم شرعية الدولة.
ويخصص المؤلف المحور الثالث من كتابه لأحكام الأسرة وعلاقتها بالحريات الفردية، مركزا على قضايا إشكالية ثارت على خلفية زعم مناقضتها للحريات الفردية، وذكر بهذا الخصوص قضية زواج المسلم بغير المسلمة أو الكتابية، وتحريم زواج المسلمة بالكتابي أو غير المسلم، ومفهوم الطاعة في الزواج، وقضية الإجهاض، وقضية الاغتصاب الزوجي المثارة في أدبيات بعض العلمانيين مؤخرا، ثم قضية العلاقات الجنسية الرضائية، ليخصص فصلا لقضية الحميمية أو الحياة الخاصة للفرد أو ما يسمى بحماية الخصوصية، فيعرض للتوجيهات والتشريعات الإسلامية التي تضمن هذه الحرية، ويعلل التقييد الذي حصل لهذه الحرية فيما يخص العلاقة بين الرجل والمرأة والعلاقة بالجسد، وكذا مسألة التعاطي لبعض المحرمات وعلاقتها بالحريات الفردية، مثل الخمر والمسكرات والتدخين، والتصرف باللباس وتغيير الخلقة والمظهر، والعلاقات الجنسية الشاذة.
ويختم المؤلف كتابه بالتأكيد على أن الشريعة جعلت من مقاصدها تمكين الفرد مـن الاختيار الحر لمـا يعتقده ويؤمن به، ومنعـت كـل إكراه في أمور العقيدة والتفكير، وأقرت حرية الـدخول والخروج في
الدين، بشرط تجنب التصرفات الكيدية التي تـستغل الفقـر والـضعف لزعزعة عقيدة الناس، كما فسحت مجال المناظرة ومطارحة الأفكار بـين أهـل العلـم والنظر، سواء في جزئيات الدين التي تحتمل أكثر من وجه، أو في غيرها من القـضايا المستجدة، لما في ذلك من إثراء للعقل المسلم، وتجديد فهم الدين والعمل به.