لم يأخذ موضوع تحالفات الإسلاميين السياسية حظه من البحث والدراسة، وذلك لأسباب عديدة منها طول أمد العزلة السياسية التي عاشها الإسلاميون بسبب تحالفات النظم الحاكمة مع بعض القوى السياسية، واستثناء الإسلاميين من هذه التحالفات، بناء على قواسم أيدولوجية مشتركة بين الأنظمة ونلك التيارات.
لكن، مع ربيع الشعوب العربية، ومع تصدر الحركات الإسلامية للعمليات الانتخابية في أكثر من قطر عربي، نسج الإسلاميون تحالفات مختلفة مع عدد من القوى السياسية داخل مربع الحكم، وترتب عن هذه التحالفات صياغة واقع سياسي موضوعي مختلف، ما جعل هذا الموضوع يستدعي تأطيرا نظريا على قاعدة رصد تحليلي لواقع هذه التحالفات: دواعيها وأسسها وصيغها وتوافقاتها وتوتراتها وصيغ تدبير الخلاف داخلها، وأدوارها ووظائفها، وتجاربها وحصيلتها بما في ذلك نجاحاتها وإخفاقاتها.
يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية لنهج الحركات الإسلامية على المستوى السياسي، ولأدائها في الحكم كما في المعارضة. اليوم نبدأ بتقليب تجارب الإسلاميين العرب السياسية في المعارضة والحكم، بملف عن النموذج التونسي من خلال تقرير أعده خصيصا لـ "عربي21" الكاتب والإعلامي التونسي نورالدين العويديدي:
تونس.. الإسلاميون ينخرطون في التحالفات بديلا عن الإقصاء
تحالف التيار الإسلامي في تونس مع القوى العلمانية ليس حدثا جديدا عرفته تونس بعيد ثورة الحرية والكرامة التي وقعت في 14 يناير/جانفي 2011.. فقبل تشكيل الترويكا وقبل ما بات يعرف اليوم بتوافق الشيخين، وهو التوافق الذي حمى الثورة التونسية من المصير المظلم الذي آلت إليه باقي ثورات الربيع العربي، كانت ثمة تحالفات قديمة تعود جذورها لمطلع ثمانينيات القرن العشرين، ثم تحالف المعارضة الشهير المعروف بتحالف 18 أكتوبر للحقوق والحريات في العام 2005.. تاريخ من التحالفات والتقارب مكن الإسلاميين التونسيين من إدارة السلطة وتقاسمها مع شركاء علمانيين بعد الثورة.
مطلع الثمانينيات حين أعلنت حركة الاتجاه الإسلامي، التي غيرت لاحقا اسمها إلى حركة النهضة، عن وجودها السياسي، أعلنت الحركة مبكرا جدا وقبل معظم حركات التيار الإسلامي الأخرى قبولها بالنظام الديمقراطي، وبأنها حزب لا يحتكر النطق باسم الإسلام، وأنها إنما تقدم قراءة من قراءاته العديدة، التي تعبر عن اجتهاد بشري لا قداسة له.. قالت إنها حزب مثل باقي الأحزاب، وإن اختلفت معها في الرؤى والمرجعيات، وهذا هو الرصيد الفكري والنظري الأساسي الذي مكن الحركة عمليا من بناء رصيد سياسي طويل من العمل المشترك، انتهى آخر المطاف بعد الثورة إلى الاشتراك في الحكم وإدارة الدولة مع المختلفين جذريا في الفكر والرؤية والمرجعية، على قاعدة المصلحة المشتركة وخدمة البلاد.
تحالفات الثمانينيات
ففي العام 1981 وحركة الاتجاه الإسلامي في سنة تأسيسها الأولى تخضع للاعتقالات والمحاكمات في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، أوصت الحركة أنصارها في الانتخابات التشريعية لذلك العام بالتصويت لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، التي كان يقودها عميد الحركة الديمقراطية في تونس المعارض الشهير أحمد المستيري.
قلبت مشاركة الإسلاميين، الصاعد نجمهم في دنيا السياسة التونسية، في تلك الانتخابات بالتصويت للديمقراطيين الاشتراكيين المعادلة التقليدية، التي كان فيها حزب الرئيس بورقيبة يفوز لغياب المنافس الجاد.. ووجد بورقيبة نفسه ووزيره الأول محمد مزالي "مضطرين" للتزوير المفضوح، بأن تم قلب النتائج قلبا تاما، فمن فوز حركة الديمقراطيين الاشتراكيين المعارضة، تم إعلان فوز الحزب الاشتراكي الدستوري بكل مقاعد البرلمان، حتى علق الشاعر المصري الشهير أحمد فؤاد نجم عن تلك الانتخابات بالقول إنها مثل الحناء باتت خضراء، في إشارة للون المميز لقائمات الديمقراطيين الاشتراكيين، وأصبحت حمراء في إشارة للون المميز لقائمات الحزب الحاكم الذي تم الإعلان عن فوزه بكل مقاعد البرلمان في تلك الانتخابات المزورة.
لم يقف الأمر عند ذلك. فحركة الاتجاه الإسلامي حين خاضت مواجهة العام 1987 ضد الرئيس بورقيبة في آخر أيامه رئيسا للدولة، عرضت على المعارضة التوحد، واقترحت على أحمد المستيري أن يخرج من تونس وأن يقود حكومة منفى حتى إسقاط بورقيبة.. لكن المستيري لم يتحمس لذلك المقترح، وخاضت حركة الاتجاه الإسلامي معركتها مع بورقيبة، وهي المعركة التي استغلها المخلوع زين العابدين بن علي، ونفذ في أجوائها العاصفة انقلابه الأبيض على ولي نعمته بورقيبة، وصار رئيسا لتونس لمدة 23 عاما حتى ثورة 14 يناير/جانفي 2011.
18 أكتوبر للحقوق والحريات.. تحالف ضد القمع
لم ينقطع تنسيق النهضة مع المعارضات العلمانية المختلفة طيلة الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي، وصدرت بيانات مشتركة بين النهضة وأحزاب علمانية معارضة مختلفة في مواجهة القمع والاستبداد. وحين اشتد القمع في التسعينيات وبداية الألفية الثالثة تقاربت المعارضة بعضها من بعض.. لقد أدرك الجميع أن ضرب حركة النهضة وتهجير قياداتها أو اعتقالهم، قتل الحياة السياسية. وهنا بدأت في العام 2005 عمليات تقارب بين الإسلاميين الخارجين من السجون والمشردين في المنافي مع العلمانيين، وهو ما توج بإضراب تاريخي مشهور في تونس عن الطعام، شارك فيه معظم الطيف المعارض من إسلاميين وليبراليين ويساريين.
رافقت ذلك الإضراب وسبقته وتلته نقاشات معمقة داخل تونس وخارجها، بين إسلاميي النهضة ويساريين وليبراليين معارضين لنظام الحكم، انتهت إلى إصدار وثائق في طبيعة الدولة المنشودة وعلاقة الدين والدولة ونمط المجتمع ونظام الحكم، تقاربت فيه الرؤى الفكرية والسياسية بين طيف المعارضة التونسية، وكان ذلك أول تحالف علني مشهود بين الإسلاميين والعلمانيين في تونس في فترة المعارضة، قبل ثورة العام 2011.
حين قامت الثورة كان كثير من المتابعين والمراقبين يتوقعون أن يتم تجديد ذلك التحالف بين الإسلاميين والعلمانيين وأن يتم إحياء وثائقه النظرية القديمة المتفق عليها من قبل، لتكون مرجعية فكرية وسياسية لتحالف سياسي حاكم، تنجح معه تونس بقواها المختلفة متحدة متعاضدة في مواجهة تحديات الحكم كما توحدت من قبل في فترة المعارضة ومقاومة الدكتاتورية. ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه كما يقال. إذ جرت الرياح بسفن تلك التيارات التي تقاربت في مواجهة الدكتاتورية لتبعدها بعضها عن بعض في مرحلة ما بعد الثورة.
تحالف الترويكا ومعركة الدستور
بعد الثورة تشتتت صفوف المعارضة التونسية التي كانت موحدة متلاحمة في مقاومة الدكتاتورية. لقد مزق التنافس على السلطة جميع الوشائج التي نسجت بلحمة النضال المرير ممزوجة بالخوف والآلام والأوجاع أيام الاستبداد.. لقد غدا الحلفاء خصوما بل أعداء، وخيضت الحملة الانتخابية من جانب بعض القوى العلمانية التونسية، من منطلق التخويف من حركة النهضة.
كان أحمد نجيب الشابي زعيم الحزب الديمقراطي التقدمي أبرز شخصيات المعارضة السابقة، التي كانت تدافع عن التوافق بين المعارضة إسلامية وعلمانية، هو أول من أعلن شق صفوف تحالف 18 أكتوبر 2005.. لقد كان الشابي يعتبر نفسه المرشح الأبرز لوراثة نظام المخلوع، وبدأ يهيئ نفسه لذلك حتى قبل هروب المخلوع من البلاد، بإعلانه القبول بالمشاركة في حكومة يشكلها ابن علي.. وحين هرب المخلوع شارك الشابي في حكومة محمد الغنوشي الأولى، ليكون الأكثر تأهيلا في ظنه للحكم بعد سقوط تلك الحكومة.
لم يفهم نجيب الشابي أن ثمة ثورة في البلاد، فقتله سوء تقديره السياسي.. وحين جاءت انتخابات 23 أكتوبر 2011، قدم الشابي نفسه الضامن الوحيد ضد هيمنة حركة النهضة الإسلامية على البلاد.. لكن الشعب التونسي حكم حكما قاسيا على الشابي وحزبه، إذ أعطاه 16 مقعدا فقط من 217 مقعدا هي مقاعد المجلس التأسيسي. كما حكم الشعب أيضا حكما أشد قسوة على معارض آخر مشهور هو حمة الهمامي زعيم حزب العمال الشيوعي التونسي، وكان أحد أهم أركان تحالف 18 أكتوبر 2005، إذ أعطاه مقاعد في المجلس التأسيسي تقل عن أصابع اليد الواحدة.
سريعا أعلن كل من الشابي والهمامي، حتى قبل أن تصدر النتائج الرسمية لانتخابات 2011، رفضهما الاشتراك في الحكم مع حركة النهضة.. حاولت الحركة، التي فازت بأغلبية المقاعد في المجلس التأسيسي، التحاور مع الحزبين من أجل إشراكهما في السلطة حتى تجدد التحالف القديم معهما، لكن الحزبين أصرا على الرفض، ودخلا مبكرا معركة إسقاط النهضة حتى قبل أن تتشكل حكومتها.
تاريخ الإسلاميين القديم في التحالف والتنسيق مع القوى السياسية المختلفة ورصيدهم السياسي المليء بتجارب التقارب والعمل المشترك دفع النهضة للتحالف مع حزبين علمانيين آخرين هما حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وكان يقوده الدكتور منصف المرزوقي، الذي صار بفضل ذلك التحالف رئيسا للدولة، وتحالفت النهضة أيضا مع حزب التكتل من أجل العمل والحريات، وترأس أمينه العام الدكتور مصطفى بن جعفر المجلس التأسيسي، في حين ترأس أمين عام حركة النهضة وقتها المهندس حمادي الجبالي الحكومة.. لتكون أول تجربة حكم جماعية في تونس منذ استقلالها يشارك فيها الإسلامي والعلماني جنبا إلى جنب.
عادت القوى التي قامت عليها الثورة سريعا للمشهد.. فبعد اختفاء مذل، عقب الثورة مباشرة، أغرى حِلم الثوريين ومدنية التونسيين وتجنبهم للعنف والبطش القوى القديمة للعودة سريعا للمشهد السياسي، متحالفة مع الحزب الديمقراطي التقدمي ومع حزب العمال الشيوعي التونسي ومع القوى المعارضة للنظام السابق والرافضة للتحالف مع حركة النهضة في الحكم ما بعد الثورة.
بفضل تنوع مكوناتها من إسلامية وعلمانية صمدت حكومة الترويكا أمام ضغط المعارضة المتنامي، ونجحت في تحقيق إنجازات اقتصادية كبيرة، إذ انتقلت تونس في العام 2012 مع حكومة حمادي الجبالي من نسبة نمو سالبة بدرجتين في عهد حكومة الباجي قايد السبسي طيلة العام 2011، إلى نسبة نمو إيجابية بحوالي 3.6 نقطة مائوية. وحافظت حكومة علي العريض في العام 2013، رغم الاغتيالات السياسية والاحتجات، التي فاقت 35 ألف احتجاج وإضراب، فضلا عن إضرابين عامين في عام واحد، لم تعرف تونس مثيلا لهما إلا مرة واحدة طيلة ما بعد استقلالها.. رغم ذلك حافظت الحكومة على نسبة نمو بلغت 2.8 نقطة نمو مائوية، وهي نسبة لم تحققها أي حكومة تونسية بعد سقوط حكومة الترويكا.
غذت الاغتيالات السياسية التي شهدتها تونس عام 2013 من زخم المعارضة، وزاد الاتحاد العام التونسي للشغل في إرهاق الحكومة، وبدأ رموز النظام القديم يتصدرون المشهد بقوة من جديد، وكأن لم تقم عليهم ثورة، مستفيدين من الحماية السياسية التي وفرتها لهم قوى اليسار. وجاء الحوار الوطني كآلية للبحث عن مخرج يحافظ على روح الثورة، ويخفف الاحتقان السياسي، الذي بلغ أشده في صيف العام 2013، عقب اغتيال النائب المعارض محمد البراهمي.
لكن الترويكا رفضت الخروج من السلطة حتى إعداد دستور للبلاد، وذلك ما تم فعلا، إذ تنازل الجميع للجميع، إسلاميين وعلمانيين، وتم تأليف دستور توافقي بين الجميع، تمت المصادقة عليه يوم 27 يناير/جانفي 2014 بأغلبية 200 صوت من 217 نائبا في المجلس التأسيسي. ثم استقالت حكومة الترويكا وتم تشكيل حكومة تكنوقراط، نظمت انتخابات أكتوبر 2014، لتبدأ تونس توافقا جديدا بين إسلاميي النهضة وقوى علمانية جديدة.
توافق الشيخين
أفرزت انتخابات 2014 فوز حزب نداء تونس بالمرتبة الأولى بـ 89 مقعدا برلمانيا، وجاءت حركة النهضة ثانية حاصدة 69 مقعدا برلمانيا. وتوج التقارب الذي بدأ في صيف 2013 بلقاء باريس الشهير بين رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي ورئيس حزب نداء تونس الباجي قايد السبسي، بما بات يعرف بتوافق الحكم، أو توافق الشيخين. وهو توافق على تقاسم أعباء الحكم بين الإسلاميين والعلمانيين ضم النهضة والنداء وأحزاب علمانية أخرى صغيرة مثل حزب آفاق تونس وحزب الاتحاد الوطني الحر.
لم يحقق التوافق الجديد بين الإسلاميين والعلمانيين إنجازات كبيرة في الحكم. وكانت نقيصته الأكبر في أن النجاح السياسي لم يعاضده نجاح اقتصادي.. لكن لعل أكبر إنجازات التوافق أنه حمى تونس من الاقتتال الأهلي والصراع بين القوى والتيارات المختلفة كما حماها من الانقلابات العسكرية وتلاوة البيان رقم واحد، وهي مصائب دمرت باقي دول ثورات الربيع العربي ونجت منها تونس بأعجوبة سياسية اسمها التوافق الإسلامي العلماني.
(*) كاتب صحفي من تونس
"فقه المشاركة السياسية": الحكم والوقائع