نحتاج أحيانا إلي التوقف عن السير والخروج إلى جانب الطريق وإعادة النظر إلى بدايته وخاصة مع ظهور فكرة والإلحاح عليها بكثافة، وفي الغالب ينسى الكثيرون أصل الفكرة ويطبعون عليها رغباتهم ويكيفونها لتتوافق مع الواقع والظروف، لذا علينا التوقف وإعادة النظر في الأصول.
وقد تحول مصطلح
المصالحة إلى حالة ما تلبث أن تعود بعد خفوتها القصير وكأن أحدا ما يدفع بها إلى دائرة الضوء دائما، جميلة هي المصالحة ولكن ما هي وماذا تعني وهل يعبر عنها بمعناها الحقيقي أم إن مروجيها يخرجون بها من أصولها إلى حيث يريدون؟ بالتأكيد علينا الإجابة وخاصة بعد الشهور الطويلة وسيل الكلمات والبرامج والحوارات والتصريحات والبيانات، وفي الحقيقة نحتاج للرجوع إلى أصل الموضوع قبل الحكم عليه.
قبل الدخول في فهم معنى المصالحة؛ تذكرت مفاوضات الكيلو 101 ؛ والتي استطاع بها الصهاينة فرض إرادتهم على
المصريين في تفاوضات وقف إطلاق النار، وبدا لنا من كثرة الأغاني الوطنية ومشاهد الانتصار أن هناك على الأقل توازن في القوي بين الطرفين؛ إلا أن الحقيقة كانت غير ذلك، فقد كان الجيش الثالث المصري محاصر والمدرعات الإسرائيلية علي بعد 100 كم من القاهرة وكانت العاصمة بدون أي حماية. لذا كانت النتيجة مأساة نتائج مفاوضات وقف إطلاق النار وبكاء الجمسي كما كتب في مذكراته؛ ونهاية بجريمة كامب ديفيد، فقد كانت الأغاني الوطنية المصرية تتحدث عن الانتصار بينما الكلام المكتوب في الوثائق يدل على غير ذلك.
هناك فارق بين المصالحة والتفاوض؛ والتفاوض علم معروف وهوإجراء محادثات بين طرفين أو أكثر للوصول لحل حول قضية ما وهو يحدث عند إحساس طرفي الصراع بعدم قدرة أي منهم علي تغيير وضعه الحالي سواء سحق أحد الطرفين للآخر أو أن كلا الطرفين غير قادر على إلحاق الهزيمة بالآخر مما يدفعهم للجلوس إما لإعلان الاستسلام أو لحل الأزمة، ويحدث التفاوض قبل الحل وأثناء الصراع وفي الغالب تكون المعارك مشتعلة أو الصراع مستمر لتحسين الموقف التفاوضي أثناء عملية التفاوض.
على الجانب الآخر نجد كلمة المصالحة، حاولت إيجاد تعريف سياسي لكلمة مصالحة ووجدت أقرب معنى لها هو Reconciliation ؛ وهي إجراء قانوني اجتماعي تحت رعاية النظام لإعادة الحقوق لأصحابها ممن أضيروا من النزاعات والحروب وغيرها.
ظهرت هذه الفكرة بعد انتهاء الكثير من الصراعات في رواندا والأرجنتين وشيلي وجنوب أفريقيا ويوغوسلافيا السابقة؛ إلا أنه من الملاحظ أن هذا المصطلح وهذه اللجان الخاصة بالعدالة الانتقالية ظهرت بعد توقف الأحداث، ففي الأرجنتين وشيلي بعد سقوط الحكم الديكتاتوري وفي رواندا بعد انتهاء المجازر وفي جنوب أفريقيا بعد سقوط النظام العنصري، ومن الطبيعي أن يتم ذلك بعد استعادة الوضع الأصلي وغياب سبب الكارثة، أما ظهور المصطلح والفكرة بشكل عام في وجود النظام
الاستبدادي نفسه والمتسبب في كل الظلم فهو شيء غريب يحتاج للتفسير، كيف أصبح تداول المصطلح والفكرة بهذا القدر من الشيوع وهو لا يتوافق مع الحالة المصرية؟.
هناك بديلان؛ إما أن هناك معني جديد للمصطلح نحتاج التعرف عليه حتي نفهم ما هو المراد منه ويكون قبوله أو رفضه علي بينة بما وراءه؛ أو أن فعلا انتهت قصة المجازر والاستبداد وأن الموجود على رأس السلطة الآن ليس له علاقة بها؛ في هذه الحالة الموجود برأس السلطة يمكن أن يقوم بمصالحة!!.
وإذا استبعدنا هذا الفرض الهزلي؛ فقد يكون المعنى الأقرب للحالة المصرية هو التفاوض، والتفاوض يلجأ إليه الطرفان المتصارعان في حالة رغبة كل منهما في إنهاء الصراع ولو مرحليا؛ وهو يحدث أثناء الصراع؛ وحصول كل منهما على بعض المكاسب في مقابل بعض التنازلات، ويعتمد قدر التنازل على الوضع الميداني للطرفين.
في مصر لم يعد مع سلطة الانقلاب إلا السلاح والمرتزقة والرهائن؛ ولو كان الملف الثالث غير موجود ما اهتم أحد و لتركوا الصراع يسير لنهايته وسيكون من الصعب أن يتحدث أحد عن "مصالحة" أو تفاوض مع نظام معتوه، والملف الأسوأ بالتأكيد هو ملف الرهائن المحتجزين في مقار الاحتجاز المتعددة؛ وهو الملف الضاغط على كل القطاعات الموجودة بالثورة سواء ممن يدعون إلى مصالحة يقصدون بها تفاوضا كما أفهم؛ حتى يتضح معنى آخر؛ أو ممن يرفضون أي حل جزئي ويدعو إلي الثورة الشاملة، فكلاهما قضية الرهائن هي الضاغطة وهي التي تشعر الجميع بالألم وربما العجز.
سؤال آخر؛ لماذا يتفاوض النظام؟ سؤال يجب علينا البحث عن إجابته؛ فالنظام المصري لن يتفاوض إلا بعد استسلام الطرف الآخر ليملي عليه شروطه؛ أو عندما يشعر بتوازن القوي بينه وبين قوي الثورة، فإذا قبلنا بهذين الاحتمالين وباستحالة حدوث الأول؛ فلِمَ ننقذ نظاما يتهاوى بكل سرعة بعد أن فقد كل أوراقه خلال أقل من ثلاثة سنوات؟ الإجابة دائما الرهائن ودائما ما يتوقف الجميع أمام تلك المأساة.
علة أي حال؛ كل هذه قراءات نظرية تدفعنا إليها حالة الاندفاع والمساحة الواسعة لما تعرف بالمصالحة وتحتاج لتفسير كما ذكر بالأعلى؛ أما الواقع فهو لا زال بعيدا عن التفاوض وبالتأكيد المصالحة أو Reconciliation؛ إلا إذا كانت على شاكلة مفاوضات الكيلو 101.