كتاب عربي 21

الفراق بين المرزوقي والغنوشي؟

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
كأني سمعت حزب النهضة يعلن نهاية الإيدولوجيا، وكأني رأيته يستبق إلى التحكم في الساحة الفكرية سيرا إلى تملك المشهد السياسي برمته. وكأني رأيت قيادة الحزب تتوقع قدوم الآخرين إليها مرحبين بالأخ الطيب الذي تخلص من أشواكه، وكأني وقد انفض المؤتمر أشعر بخيبة التلقي السلبي، فالأصدقاء أعرضوا كما أعرض المرزوي عن البغدادي قائلا: والله لو خرجت من جلدك  ما عرفتك.

 يبدو أن النهضة (فكرا وسياسة) ليست الوحيدة التي تعاني صعوبات التحول، بل الجوار من حولها يرتبك ويفقد أدواته. كيف نتعامل مع حزب جديد بأدوات لم نستبق إلى صنعها. بل إنه هو الذي يجرنا إلى ساحته ووسائله.

عن التحولات المعلنة والتي لا تزال صناديق فارغة كتب إسلاميون قريبون من النهضة وبهم ريبة مما يسمعون ويرون (بشير نافع وعزام التميمي)، وكتب علمانيون (الدكتور المرزوقي) وقد رأى في اجتهاد النهضة بداية نهاية الإسلام السياسي. وقد قرأت لفرنسيين يتحدثون عن تلون الحرباء النهضوية.

ولكن، قبل التحليل بمنهج الشيح بن مراد الذي يعطي على الحساب قبل أن يقرأ الكتاب نقول إن ما أعلنته النهضة إيجابي من زاوية محددة هي الشروع في مراجعات جذرية لإيديولوجيات ما قبل الربيع العربي. أما ماذا سينتج عن هذه المراجعات وإلى أين ستذهب بالأحزاب ذات المرجعية الإسلامية وبجيرانها من الإيديولوجيين الذين يتلكؤون في المراجعة فهذا أمر من أمور الغيب بعد.

هل هي نهاية الإسلام السياسي فعلا؟

سيكون من غير المنهجي مناقشة مقالات مختلفة الهوى في رد واحد، لذلك سأحاور هنا مقال الدكتور المرزوقي الذي نشره في مواقع مختلفة ورأى فيه أن نهاية موجة الإسلام السياسي تقترب وعلى الشعوب أن تستعد لما بعده. وقد اعتمد الدكتور منهج المقارنة فاتخذ نهاية الإيديولوجيات (الاشتراكية/الشيوعية) والقومية كعلامات على طريق نهاية إيديولوجية الإسلام السياسي. وقد بدا لي مقال الدكتور متسرعا في استنتاجاته ومتجاهلا حيثيات التحالفات التي تمت تحت  نظره.

كما أبرز الدكتور أن تحالفات حزب النهضة بعد انتخابات 2014 لم تمد فقط في أنفاس المنظومة القديمة بل أعادتها إلى السلطة، وقد كان بالإمكان التحالف ضدها والإجهاز عليها. بما يبين الطبيعة الانتهازية لحزب النهضة وسعيه إلى السلطة بعيدا عن الثورة حيث سيكون مقتله كإسلام سياسي. أي أن الموت كامن في التكتيك السياسي وليس في الاجتهاد الفكري المعلن. بما يجعل مقال الدكتور معارضة سياسية وليس نقاشا فكريا.

أما بخصوص نهاية الإيديولوجيات عامة فالردود على فوكوياما ونهاية التاريخ إلى الحالة الليبرالية المطلقة تكفي خاصة أن مقال الدكتور قد وقف حائرا أمام نبوءة غير مكتملة لما بعد الإيديولوجيات.

أما بخصوص نهاية إيديولوجية الإسلام السياسي طبقا للمعلن بعد، فأعتقد أن المقارنة تغفل أمرا مهما، إن هذا الإسلام السياسي لم يحكم بعد ولم يجَرَّب من قبل الشعوب لتصل إلى ما وصلت إليه الشعوب التي عاشت تحت مظلة الاشتراكية السوفيتية خاصة والتي اقتنعت بضرورة التجاوز والتحرر من نمط الحكم الشمولي الذي أفرزته.

كما أن هنا خلطا جداليا غريبا، إذ يضع الدكتور المرزوقي في سلة واحدة نظام السعودية والحركات السلفية الإرهابية وإسلام المقاومة (حماس) والأحزاب الإسلامية السلمية المنهج كالإخوان المسلمين والنهضة، وهذا خلط بهوى باريسي نجده عند جيل كيبال وفنكلكروفت. وهو تجميع يغفل الصراعات والاختلافات بين هذه الفرق والجماعات وقد كان الدكتور شاهدا على ما فعل نظام آل سعود بصديقه محمد مرسي بما يجعل التجميع عملا مطابقا لمعالجة كل الأمراض بوصفة واحدة.

يمكن أن نجد دليلا يسند تحليل الدكتور المرزوقي في تجربة الإسلام السياسي في السودان. حيث وصل إلى الحكم هناك بأسوأ الطرق (الانقلاب العسكري) ففشل فشلا ذريعا. لكن الإسلام السياسي غير العربي بنى دولتين قويتين هما إيران وتركيا والتجربتان هناك لا تبدوان في وارد الأفول فالنتائج المادية لهاتين التجربتين تجعل الناس تعيدهما إلى سدة الحكم بالصندوق. وأنا أعرف أن الدكتور ليس من القائلين بغباء الشعوب.

(ستفتح هذه المقارنة باب التحليل الإثني ونوشك أن نقع في احتقار الذات ونختم بقول عدم أهلية العرب للديمقراطية وهي خلاصات مريحة و غبية في آن) لذلك أميل إلى الاعتقاد انه لا يزال من المبكر الاستخلاص بنهاية تجربة الإسلام السياسي العربي لأنها ببساطة لم تبدأ بعد. ولو كان من أسقط تجربة الإخوان في مصر والنهضة في تونس قد قدم أداء أفضل في إدارة الدول لانتهى الإسلام السياسي بموت طبيعي ودخل في الأرشيفات. لكن فشل من أفشلهم ينتهي لصالحهم في الرمز والعاطفة والأمل.

 تجربة لم تقيم بجدية

وقف أنصار حزب النهضة عند فكرة واحدة من خطاب المرزوقي هي قوله بأن اجتهاد النهضة لا يعدو كونه انتهازية سياسية. واتجهت النقاشات وجهة سخيفة يغلب عليها المَنُّ على الدكتور المرزوقي بأنه لولا النهضة لما وصل إلى قصر قرطاج، فيرد أنصار المرزوقي بأنه لولا المرزوقي في قرطاج لصفت المنظومة القديمة النهضة قبل أن تسترد أنفاسها من سجونها القديمة (بما يعنيه من الشعور اليقيني باستهدافها لذاتها). كيد الضرائر هذا هو المسيطر على النقاشات منذ سنوات في تونس وهو يعود ويستنزف الجهد والوقت والأمل.

لقد كان الأحرى بالفريقين طرح الأسئلة عن ثمرة تحالف حدث لأول مرة بين حزب إسلامي وأحزاب علمانية لإدارة بلد مسلم عاش ثورة استثنائية. لقد كان ذلك التحالف نقطة الضوء في تاريخ الفريقين والغريب أنه موضع الإكبار لدى كل من ينظر إلى التجربة التونسية من خارجها لكنه موضوع سقط من التقييم الداخلي والقراءة منذ نهايته العملية بانتخابات 2014. ولم يبن عليه.

لقد كان هذا التحالف ممكنا ومثمرا وأفلحت القيادات المختلفة فكريا في التلاقي حول حد أدنى وطني. جنب البلد الاحتراب الأهلي الذي دفعت إليه المنظومة القديمة بكل وسائلها الخسيسة وانتهى بدستور مجمع عليه. وعوض البحث في تطويره اتجه العمل إلى التنافر.

لقد كان الأجدر البدء بتقييم هذه المرحلة والانتباه إلى قدرة حزب الإسلام السياسي (المتهم بالانغلاق الأيديولوجي) على التعاطي مع المرحلة بتنازلات كبيرة بينت الصبغة السياسية للحزب السابقة فعلا لا قولا عن الطبيعة الدعوية للإسلام السياسي التونسي. وكان الأجدر أيضا البحث في أسباب تحلل الحزبين الشريكين (المؤتمر والتكتل) وسقوطهما الذريع في انتخابات 2014، بما جعل النهضة تفقد شركاء محتملين خارج المنظومة القديمة.

على الليبراليين/العلمانيين الذين وقفوا في صف الثورة والمرزوقي عَلَمُهم الأبرز أن يطرحوا السؤال الحارق: لماذا تفككت أحزابهم  وتلاشت في ثاني تجربة انتخابية؟ لأن ذلك الفشل هو الذي جعل النهضة (الإسلامية) بلا شريك قوي لمواجهة المنظومة القديمة. أما وقد وجدت النهضة نفسها وحدها في مواجهة المنظومة مع ما شهدناه جميعا من تكالب هذه المنظومة ضدها وضد كل من تحالف معها فإن مطالبتها بتصفية المنظومة يدخل تحت باب (اذهب أنت وربك فقاتلا).

إن الاحتمال الذي لن نستطيع اختباره هو بقاء النهضة خارج الحكم بلا شركاء أقوياء بعد انتخابات 2014. يتضمن هذا الاحتمال نتائج على حزب النهضة على الثورة وعلى الدولة نفسها. ولن تكون الإجابات إلا افتراضية. لكنها قطعا لن تكون تطورا لتجربة ديمقراطية وليدة بل أن احتمال الخراب أقرب فأجندة المنظومة القديمة لم تكن أبدا بناء الديمقراطية. ويجب أن يتذكر كل وطني غيور أن تجربة التأسيس الديمقراطي قد تعرضت للتخريب الخارجي بفعل وجود أحزاب الإسلام السياسي فيها لا لوجود أحزاب ليبرالية.

هل هي القطيعة بين المرزوقي والغنوشي؟

النهضة الجديدة تتحول إلى قلب رحى المواقف والاختيارات معها أو ضدها. الأمر محسوم عند كل أطياف اليسار التونسي من الجبهة الشعبية (اليسار الراديكالي) إلى اليسار الثقافي الفرانكفوني إلى القوميين بكل تفرعاتهم. جميعهم منسجمون مع طرحهم النظري ويصنفون النهضة (كمشة خوانجية) خونة لا وطنيين صنعتهم المخابرات البريطانية واصطنعتهم الأمريكية وهم ينفذون أجنداتها برعاية قطر للبترول ولا مجال للتعامل معهم. لكن هؤلاء ليسوا كل الطيف السياسي، بل هناك أحزاب ديمقراطية لا ترفض التعامل مع الإسلاميين، هذه الأحزاب والشخصيات الاعتبارية تقف من النهضة موقفا غريبا ملخصه (على النهضة أن تفعل كذا وأن لا تفعل كذا. وعليها أن...  وليس عليها أن... فكأن النهضة قاصر لم يرشد بعد وهؤلاء معلمون يتفضلون بتربيته).

لم أسمع هؤلاء المعلمين يسألون أنفسهم لماذا لم نؤلف كتلة سياسية غير إسلامية قوية تأخذ جزءا من البرلمان وقد كان الوقت متاحا من 2011 إلى 2014 وإلى الآن لتفرض خيارات تحالف على قاعدة مطالب الثورة ومنها محو المنظومة القديمة؟ ربما يمكن وقتها تقديم درس أخلاقي للنهضة، فإذا تحالفت معهم كان الأمر على قاعدة وطنية وإذا خانت ماتت أخلاقيا وسياسيا (فتكون فعلا نهاية الإسلام السياسي الانتهازي بالأدلة القطعية).

وأرى أن موقف الدكتور المرزوقي بعد تجربة عمل سياسي مشترك مع النهضة كانت له نتائج إيجابية على الوطن قبل الأحزاب قد مال إلى موقف مرشد القاصرين. وأرى أن هذا التحول في موقف الدكتور سيوسع فجوة بينه وبين الغنوشي (النهضة).

لقد كان الرجلان صديقين قبل سقوط النظام، وكانا حليفين بعد سقوطه، لكنهما افترقا بعد ذلك، ويبدو أن ذلك سيكون إلى غير رجعة. وأعتقد أن المكابرة الآن سيدة الموقف (لم ترشح أي أنباء عن لقاء بين الرجلين منذ الانتخابات الرئاسية سنة 2014، ولو لمجاملة رسمية). ويعمل أنصار الرجلين بحماس غبي على صب الزيت على نار الفرقة بينهما عوض تجسير الهوة التي حدثت بعد 2014.

وفي الوقت الذي يعمل فيه الدكتور ضمن فريق عربي (المركز العربي لرعاية الثورات) على تجسير الهوة بين الليبراليين والإسلاميين ويراها أمل الثورة كتب خلاف ذلك معتمدا على أن اجتهادات النهضة الأخيرة تصب في اتجاه نهاية أحد طرفي التحالف. وأستغرب كيف أن ليبراليا (علمانيا) صنع فكره خارج النماذج الجاهزة مثله لم يلتقط هذا الميل الليبرالي (أو لنقل التحرر من الأيديولوجي) لحزب النهضة لكي يجذبها إلى المزيد من التحرر ليسهّل العمل معها لا ليدفعها إلى الارتماء في أحضان النظام القديم. فأحرى بمن يأمل خيرا من جمع حزب غد الثورة (أيمن نور) مع الإخوان المسلمين على مشتركات وطنية دنيا ضد طغيان العسكر أن يسهل على النهضة خروجا آمنا من مستنقع التحالف مع النداء. إن المنطقة المحايدة نسبيا بين الرجلين (اللقاء الإسلامي العلماني) لم يعمرها أحد بعد وستظل شاغرة. لتتسع دوائر الاستقطاب السياسي ويذهب اجتهاد الإسلاميين ورغبتهم المعلنة في الاندماج أدراج الرياح. 

يعسكر اليسار على مواقف ثابتة ويقف العلمانيون معلمين فيما يعود الإسلاميون إلى موقف الضحية المنبوذة. وتتسرب المنظومات القديمة بهدوء إلى مفاصل الأجهزة وتعيد إنتاج نفسها بسلاسة.

يخوض الغنوشي الآن معركة تنظيف مجار قذرة ويعرف أن يديه تتسخان لكنه سيخرج من وضع الضحية التي تتلقى دروسا من المتعففين. وأميل إلى الاعتقاد أن النهضة (إذا لم يصطنع سيسي تونسي من لا مكان) ستنتهي حزبا غير عقائدي يتملك جزءا مؤثرا من السلطة السياسية لكنه سيجد نفسه بلا حلفاء ولن يفلح في الحكم وحده ولن يفلح بدون شركاء وطنيين. بما يبقي النظام السياسي التونسي في وضع الهشاشة لفترة طويلة. وهو الأمر الذي تحبذه دوائر التدخل الخارجي ودوائر الفساد الداخلي.
التعليقات (1)
عماد
الأربعاء، 01-06-2016 06:15 م
تقول : " لكن الإسلام السياسي غير العربي بنى دولتين قويتين هما إيران وتركيا والتجربتان هناك لا تبدوان في وارد الأفول فالنتائج المادية لهاتين التجربتين تجعل الناس تعيدهما إلى سدة الحكم بالصندوق. " هناك فرق بين الرؤية السنية والشيعيه للسياسة وليس للسياسي العربي وغيره، حسب رأيي. الشيعة جعلوا من مبادء الإسلام السياسة، بل اصبحت هدفهم في الحياة، بخلاف ألسنة التي تمثلهم السياسة وسيلة لها قوادها طبعا. ويمكننا أن نجزم أن ايران قامت بثورة دمويه. صفت ايران كل معارضها بعد أن اعتلت سدة الحكم. فاستطاعت بذلك أن تبني دولتها دون معارضة مهمة. أما تركيا السنية فلها تجربة أكثر أصالة في الثورة بعد محو الخلافة، منذ النورسي الى فتح الله غول واردغان. تغلب على ثورتها التغيير الفكري مثل الإخوان (راجع أيام من حياتي لزينب الغزالي مثلا ). في ما يخص الاطار العام التونسي والعربي عامة لم يسمح بتكوين احزاب للتداول في ممارستها للسلطة. مما أفرز بعد سقوط المخلوع بن علي، على تكوين حكومات مبتدأة باشد الحاجة لبقايا المخلوع. فالمرزوقي واضف اليه بن جعفر مثلا لم يكونا احزابا بأتم معنى الكلمة. لن معارضتهما لبن علي تمحورت في أمور تكاد تكون انسانية بحته لا سياسه. في انتخابات 2011 صوت الشعب لاول مرة في حياته متصورا حنكة المتقدمين لقيادته فأصيب بخيبة أمل من مردود من أنتخبهم حتى من النهضة ! ولا ننسى حتى هذه الأخيرة خسرت أصوات مهمه في الإنتخابات الثانية. فالكل بدى ذو تجربة جنينيه في السياسة. الوحيد الذي فهم الدرس من هزيمته على ما يبدو، هو عبد الفتاح مورو، الذي كان يتصور أن بامكانيه ترأس حزب ثاني قوي ففشل. الملاحظة التي قدمها ابن خلدون حول العرب الذي اهتموا بالسياسة وتركوا العلم للمسلمين غير العرب لا تنتطبق على حال العرب الآن. لان النهضة كبلت نفسها الآن أكثر. فعليها الآن أن تؤطر كوادرها اسلاميا تأطيرا كفؤا أولا ثم سياسيا. أما المرزوقي فعليه أن يوطن نفسه أولا، ولست بالمدافع عن النهضة، وقواعده اذ لا تكفي المناداة بالعروبة والبكاء على الأطلال.