احتل الانشغال بالهم
الإصلاحي حيزا كبيرا في
الفكر العربي المعاصر، بين من يدعو إلى تقليد التجربة الغربية تقليدا تاما، حتى في انفكاكها عن الأصول الدينية، وبين من يدعو إلى أخذ النافع منها باعتباره مشتركا إنسانيا، مع المحافظة على الجذور الفكرية، والأصالة الدينية.
يأتي
كتاب المفكر المغربي امحمد جبرون "مع الإصلاحية العربية في تمحلاتها.. مراجعات
نقدية" والصادر عن مركز نماء للبحوث والدراسات سنة 2015، ليمثل "مقاربة معرفية مندمجة، يتضافر فيها التاريخ، مع التحليل، مع النقد، لبناء محتوى معرفي علمي، يؤمن بإمكانية قيام إصلاح أصيل، لا يصطدم بالضرورة مع الإسلام، إصلاح يشق طريق الصعب بالإبداع، ويسهم في أنسنة العالم".
تتبع المؤلف في الفصل الأول من كتابه والذي جاء بعنوان: "نشأة التجربة الإصلاحية العربية.. الظروف والسياق المحلي والدولي" جذور ونشأة الإصلاحية العربية المعاصرة، سواء أكان في المشرق العربي أو المغرب العربي، ومدى تأثرها وصدمتها بالتجربة الغربية، كتجربة محمد علي بمصر، ومحمد بن عبد الوهاب بالحجاز، ومحمد أحمد المهدي، ومحمد بن علي السنوسي.
وبيانا للعوامل الحاملة للنخب العربية على الاشتغال بالهم الإصلاحي، أوضح المؤلف "أن التدخل الغربي بالعالم العربي مشرقا ومغربا، والهزائم المتكررة التي ألحقتها جيوشه بالكيانات العربية في أوقات مختلفة، ولَّدَت في النفوس إحساسا بالعجز عن المواجهة، وتصديقا عميقا بحقيقة أفول الشرق، وبزوغ شمس الغرب الحارقة، وعن هذا الإحساس صدرت زفرة الإصلاح التي آلمت النخب العربية، وخاصة في سُرَّة بلدانه (مصر)".
وعن الأجوبة الإصلاحية التي ظهرت بالعالم العربي، رصد جبرون تطورها بأنه جاء تبعا لشكل ومستوى إدراك النخب العربية للغرب وأسرار قوته، وخلافا للمغرب، الذي اعتمد في إدراكه الأولي للغرب على التقارير الدبلوماسية والرحلات السفارية، فإن المشرق أتيح له التعرف على الغرب مباشرة وبدون وسائط، وذلك من خلال الحملة النابليونية (1798م)، وما رافقها من إنزال ثقافي وتقني بهر الشرق النائم، أو المستيقظ توا على أصوات المدافع والبارود، وبالتالي كانت معرفته بأسرار قوته أصدق وأعمق، وهو ما عكسته ردود الفعل الإصلاحية على هذه الحملة وغيرها من الانكسارات والهزائم، والتي تمثلت في عدد من نصوص القرن 19م".
وحول طبيعة الخطاب الإصلاحي الذي تولد من رحم تلك الظروف، أشار المؤلف إلى أنه "إذا كان تاريخ الخطاب الإصلاحي العربي يمتد من أواخر ق 19م إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن البداية كانت عبارة عن دعوة سلفية منفتحة على الآخر، وتحاول الاستفادة منه، وهو ما ظهر في نصوص عدد من الإصلاحيين الأوائل أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي.. الذين أدرجهم البعض تحت مسمى "الإصلاحية الإسلامية".
ووفقا للكتاب فإنه "مع تقدم الزمان، وتطور الأحداث، ظهرت إصلاحية أخرى أكثر تحررا من "إصلاحية" الأفغاني، وعبده.. أطلق عليها البعض "الإصلاحية العلمانية/ أو التغريبية"، والتي مثلها سعد زغلول، ولطفي السيد، وطه حسين، وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وفرح أنطون..".
وبين جبرون أن "الدينامية الفكرية للإصلاحية العربية لم تتوقف عند هذا الحد، حيث طوحت بها الأحداث والتطورات العنيفة التي مرت بها الجماعة العربية إلى ساحة القومية، وخرج من عباءتها تيار قومي فاعل ومؤثر، بالتزامن مع الصحوة القومية، التي عرفها العالم العربي مع منتصف القرن الماضي، وقد اشتهر في الأدبيات الإصلاحية العربية في القرن الماضي بالتيار القومي، ومن أبرز فقهائهه المفكران العربيان قسطنطين زريق وساطع الحصري".
قراءة في أطاريح الخطاب الإصلاحي
خصص المؤلف الفصل الثاني من كتابه لقراءة أطاريح الخطاب الإصلاحي العربي المعاصر، والتي بدأها بالحديث عن "السلفية الإصلاحية" على حد وصفه، تناول فيها أطروحة كل من رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، والحجوي، وعلال الفاسي، عارضا ومناقشا لأبرز الأفكار والرؤى التي طرحها أولئك المفكرون ونادوا بها ودعوا إليها، كالحديث عن الدولة المدنية عند السلفية الإصلاحية، والعلم والعقل، وقضية الحرية، والنظام الاجتماعي، وقضية المرأة.
ثم تحدث عن الإصلاحية
الليبرالية الغربية، والإصلاحية القومية، وبعد سرده لأفكار ورؤى تلك الإصلاحيات، لفت المؤلف إلى أنه مما يكاد يجمع عليه الدارسون "أن انطلاق الحركة الإصلاحية بالعالم العربي كان مع رفاعة رافع الطهطاوي (1801 – 1873م)، ومع صدور مؤلفه "مباهج الألباب المصرية في مباهج الاداب العصرية" سنة 1869م، الذي يعتبر من المتون الإصلاحية الأولى".
وفي سياق تتبعه لمسارات الحركة الإصلاحية العربية، لاحظ جبرون أن تلك الحركة استغرقت في طورها الأول قرابة قرن من الزمان، كان حافلا بالعطاء والعمل، وعاشت في ظله الثقافة العربية أياما زاهرة، وظهر ذلك بوضوح في الكثير من المعارك الفكرية والأدبية، التي سجلت تفاصيلها وأطوارها الصحف والمجلات العربية، وخاصة تلك التي كانت تصدر في البلاد المشرقية، لكن مع بداية الثلاثينيات من القرن الماضي أخذت أمارات الضعف تبدو على محيا الإصلاحي العربي، وظهر هذا الضعف في بداية الأمر بالمشرق قبل انتقاله إلى المغرب".
وعن المعوقات التي أعاقت سير الحركة النهضوية العربية، بيّن المؤلف أن "العدو اللدود لتلك الحركة.. هو التقليد والتخلف وأنصاره، حيث استفرغت جهدها، وبذلت طاقاتها في تفكيك بناه، وإلحاق الهزيمة بقواه، وانتقدت في هذا السياق بحدة التخلف الثقافي، والتدهور التعليمي، ونادت ملء فاهها بنشر التعليم، والاحتفاء بالعلماء، وتطوير برامج التعليم لتشمل العلوم الحديثة (العلوم الدنيوية)، وانتقدت أيضا الوضع الاجتماعي، وحثت في هذا الصدد المجتمع على تفعيل دور المرأة، وإشراكها في النهضة والإصلاح..".
وأشار المؤلف إلى أبرز الانتقالات والتحولات التي كانت تقف وراءها الإصلاحية العربية، منوها بما حققته في حفز إرادة الساسة العرب للعمل والإصلاح، الذي اتجه في البداية إلى بناء الدولة الوطنية القطرية، التي عوضت أشكال السلطنة والحكم التقليدي القروسطوي، الذي ساد بالمشرق والمغرب، حيث ظهرت في البلاد العربية قبيل تعرضها للاحتلال وبعد رحيله، عدد من المؤسسات السياسية المحاكية شكلا للدولة الغربية (الدستور، والوزارة، والإدارة، والجيش والاقتصاد والمالية..)، وقد كانت البداية مع محمد علي بمصر، ثم انتشرت في باقي الإقليم العربي في أوقات وظروف مختلفة.
وطبقا للكتاب، فإن "مما تداعى عن هذا الإصلاح والتحول، الذي كانت وراءه الحركة الإصلاحية، رفض كل أشكال احتكار السلطة، وظهور إرهاصات الدعوة الديمقراطية المناهضة للاستبداد والاستئثار بالسلطة مهما كانت العلل والشرعيات، حيث اعتبر جل الإصلاحيين العرب في هذا الطور أن غياب الشورى أو الديمقراطية باصطلاح البعض أم الشرور التي أهلكت الحرث والنسل بالعالم العربي، وأسلمت الدولة والمجتمع إلى عدوها من نفسها ومن خارجها، ومن ثم وجب العمل ببعض الشورى، إن لم يتم العمل بها كلها".
وفي رصده وتتبعه لمسار الحركة النهضوية العربية، أطال المؤلف النفس في بحث ومناقشة رؤى وأفكار الاتجاهات الفكرية المختلفة، كالليبرالية والاشتراكية والحركة الإسلامية السياسية، أو ما أسماه بعضهم بحركات "الإسلام السياسي"، مركزا في نقده على "أن سقوط القناع الأخلاقي عن المشروع الاشتراكي والأزمات العويصة التي تسبب فيها للمجتمعات التي آمنت به، وفي مقدمتها أزمة الحرية، ومصادمته للفطرة، وشرعنة الاستبداد، سيعيد الروح من جديد إلى الفكرة الليبرالية.. لكنها لن تكون استعادة للتاريخية الليبرالية، بل هي استعادة لليبرالية جديدة، ليبرالية معدلة.
الإصلاحات النيولبرالية
"الإصلاحات النيولبرالية" هو عنوان الفصل الثالث من الكتاب، وقد شرح المؤلف ما آلت إليه الليبرالية في العالم العربي في طورها الأول إلى حالة من الضعف والمسكنة، لم تعشها من قبل، وذلك بسبب إخفاقها الأخلاقي، وانقلابها العملي على قيمها المرجعية، الشيء الذي جعل من الانتساب إلى الليبرالية في العالم العربي طيلة العقود القليلة الماضية ضربا من ضروب الخيانة والخذلان، وهو ما دفع من تبقى من المؤمنين بها إلى إخفاء إيمانهم، والاختباء وراء دعاوى ولبوس متعددة، على حد قول المؤلف.
غير أن تطور الأوضاع التاريخية والفكرية في الربع الأخير من القرن العشرين من جهة، والنقد الذاتي الذي مارسته الليبرالية على نفسها في عقر دارها من جهة ثانية، سيعيد الليبرالية مرة أخرى إلى الواجهة، وسيضفي عليها بعض الشرعية، وقد عرفت تلك اليقظة الليبرالية في الأدبيات الفكرية والسياسية المعاصرة بالنيوليبرالية، وقد كرست على مستوى الوعي القناعة أنها المرجعية الفلسفية والفكرية الأصوب بين المرجعيات القادرة على تأطير الفعالية التاريخية للإنسان، بحسب الكتاب.
وقد لاحظ المؤلف أن كثيرا من الدول العربية بحكم الواقع وقسرا، دول نيوليبرالية، تنتهج سياسة اقتصادية تحريرية، لكنها من الناحية السياسية حافظت على طابعها الشمولي/ الاستبدادي، حيث استمرت كل أشكال ومظاهر احتكار السلطة، وقمع الحريات المدنية، والاستخفاف بحقوق الإنسان.. الشيء الذي انعكس سلبا على مناخ الأعمال، وزاد من جهة تفشي الفساد الاقتصادي، وأفرغ – من جهة ثانية – الإصلاحات الاقتصادية من محتواها التنموي والاجتماعي من ناحية ثانية، ذلك أن الحرية الاقتصادية ناقصة وغير ذات جدوى في غياب الحريات السياسية، وتكافؤ الفرص، ودولة القانون.
عدد المؤلف أبرز ما ارتكزت عليه الدعوى النيوليبرالية في العالم العربي، فكان من أهمها: الدعوة إلى محاربة الإرهاب الديني والقومي والسياسي.. واعتبار الأحكام الشرعية أحكاما وضعت لزمانها ومكانها؛ واعتبار الموقف العدائي للدين من المخالفين موقفا ظرفيا سياسيا واجتماعيا، وعدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتورية العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، والإيمان بالتطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء، والاعتراف بالواقعية السياسية وما يجري على أرض الواقع العربي السياسي للوقوف إلى جانب العولمة وتأييدها...
حاجة الإصلاحية العربية إلى المراجعة
خصص المؤلف الفصل الرابع والأخير لمراجعة التجربة الإصلاحية العربية، والتي عانت، بحسب جبرون، "جملة من الأعطاب، كانت وراء محدودية مردودها التاريخي والنهضوي.."، مشددا على أن "العرب لا زالوا بحاجة ماسة إلى فقه أعطاب الإصلاح، والاستفادة منه في المستقبل".
توزع نقد المؤلف للإصلاحية العربية على لونين من النقد، أولهما بنيوي، والثاني تاريخي، لافتا إلى أن الحركة الإصلاحية في العالم العربي، سواء في بداياتها أو في لحظات نضجها، تستند في جوهرها إلى تمثلين متقابلين: تمثل لتجربة التحديث الغربية، وصورة عنها؛ وتمثل للواقع العربي، وأسباب تخلفه، وعجزه التاريخي، ومن ثم فجانب من الخلل والضعف الذي عانى منه الخطاب الإصلاحي العربي يكمن في هذين التمثلين.
أما فيما يخص النقد التاريخي الذي وجهه المؤلف للإصلاحية العربية، فيتعلق بتقييم دورها التاريخي، والنظر فيما إذا كانت قد عززت استقلال العرب، ورفعت مكانتهم بين الأمم، أم إنها ساهمت في إلحاقهم بالنماذج الحضارية الناجحة، وهو ما سيلصق بها وصف التبعية والتغريب. وقد تولى المؤلف الجواب عن هذا السؤال "بالنظر في ميكانيزمات التقدم بالمجال العربي في علاقتها الجدلية بالفكرة الليبرالية الغربية".
خلاصة ما أراد المؤلف قوله في هذا الكتاب: "إن المهمة المؤجلة منذ عقود في الفكر العربي المعاصر، هي مهمة "النقد المزدوج" للذات من جهة، ولليبرالية الغربية باعتبارها فكرة بَرّانية، من جهة ثانية، والتي من شأنها بناء "تقليد عاقل وناقد" للمبدأ الإصلاحي، يخفف من الكثير من التوترات الثقافية والسياسية التي جرها علينا التقليد الأعمى، وضعف حاسة النقد، وعلى رأسها التوتر الناجم عن العلاقة بين الدين والسياسة".
وطبقا للكتاب "فإن مآلات الإصلاحية العربية بأبعادها المختلفة، والتي لا يختلف اثنان حول ضعفها ومحدودية آثارها تفسرها الأعطاب البنيوية والتاريخية وحالة الاغتراب التي عاشتها، ولا يمكن لأي تيار إصلاحي اليوم وغدا أن يحقق مبتغاه في المجال العربي إذا لم يفقه هذه الأعطاب، ويعمل على تجاوزها".