كتاب عربي 21

مصر تونس سوريا.. وتوحيد المنوالات الانقلابية

محمد هنيد
1300x600
1300x600
ثورة 25 يناير المصرية هي امتداد طبيعي لثورة 17 ديسمبر كانون الأول التونسية التي فجّرت موجة الربيع العربي وأنهت حقبة طويلة من تأبّد المنوالات الاستبدادية العربية في نسختها الكلاسيكية و كذلك هي ثورة سوريا وثورة ليبيا. نجحت ثورة يناير في إسقاط رأس النظام وكانت مدفوعة بقوة النجاح الذي حققته الثورة التونسية في إرغام زعيم العصابة " بن علي" على الهرب. الانقلاب الناعم الذي أحدثه "المال الخليجي الفاسد" و منصات " إعلام العار" خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة في تونس هو كذلك امتداد طبيعي للانقلاب المصري الذي أطاح بالسلطة الشرعية هناك. فقد نجح المال السياسي في إحداث انقلاب ناعم من داخل الصناديق على الثورة الحرية وتمكن رجال العصابات المتحكمين في موارد الدولة وفي ثرواتها في الإطاحة بالمنجز الذي حققه الفقراء والمساكين في الريف التونسي الفقير.

اليوم يحل بتونس رئيس الوزراء المصري وتحل معه بالصدفة رئيسة صندوق النقد الدولي السيدة " كريستين لاغارد " من أجل " دعم المسار الانتقالي في تونس" ومن أجل غيرها من الأكاذيب الدبلوماسية التي لم تعد تنطلي على أكثر المحللين سذاجة.  الوفد المصري وقّع عددا من الاتفاقيات وفعّل لجانا للعمل والتنسيق وهي لجان ودوائر بقيت معطلة طوال ما يزيد عن خمس سنوات هي عمر الثورات العربية وهو ما يسمح بالاستنتاج أن الثورات المضادة بصدد استعادة المجال الذي اكتسحته الثورة خلال السنوات الأخيرة. هذا الاستنتاج يدفع إلى رصد المعطيات الاستقرائية والاستدلالية التالية :

أن النظام الاستبدادي العربي قد أتم امتصاص الموجة الثورية الأولى للربيع العربي وهو بصدد إعادة النسيج القمعي والاستبدادي سياسيا ودبلوماسيا بعد أن حافظ على النواة الصلبة للهيكل القمعي ممثلة في الجهاز الأمني والعسكري. هذا الجهاز دافع عن وجود النظام إلى آخر رمق ونجح في إعادته إلى المشهد مستعينا بالإمدادات الضخمة التي حصل عليها من الدوائر المالية المحلية والإقليمية والدولية باعتبارها المتحكم الفعلي في ثروات الشعوب وفي ثوراتها أيضا. 

النسيج الاستبدادي الجديد قد يُستنسخ بخاصيات جديدة لا تغير كثيرا من جوهر النظام القمعي المؤسَّس على العنف والقتل والتعذيب. أي أنّ من الخصائص ما يعجز النظام القمعي العربي حتى في نسخته الجديدة عن التخلص منه لأنها تمثل شرط وجود بالنسبة إليه وهي شروط مؤسِّسة يختفي هو ويكفّ عن الوجود بمجرد التخلص منها. لحظنا ذلك في مصر من خلال قمع المظاهرات السلمية في " ميدان رابعة " وفي ميادين كثيرة ولحظنا عودة القمع مؤخرا في تونس من خلال العنف الذي وُوجهت به الاحتجاجات السلمية التي يكفلها الدستور.

الثورات المضادة نجحت منذ البداية في التنسيق فيما بينها والاستفادة من أخطاء الثورات التي كانت شديدة الاندفاع والحماس لكنها بقيت قليلةَ النضج وساذجةَ التأطير وغاب عنها الإدراك بوحشية دولة العمق وقدرتها على الانبعاث من جديد. التنسيق التونسي المصري يدخل في هذا الإطار وهو توحيد المنوالات الانقلابية والتنسيق العميق من أجل استكمال المشهد الانقلابي وتصفية ما تبقى من الموجات الثورية ومنع تجدد شروط الثورات التي قد تعصف بالمُنجز الانقلابي من أساسه. 

وفي إطار نفس التنسيق الانقلابي تدخل زيارة فيلق من كتائب " إعلام العار التونسي" إلى دمشق مؤخرا من أجل تبييض نظام الموت الطائفي هناك في الوقت الذي تعج فيه الشاشات والمواقع الافتراضية بصور المجازر والمذابح وبآلام النازحين ومآسيهم بسبب جرائم الوكيل الإقليمي لنظام ولاية الفقيه الإيراني ولأحلام التوسع الإمبراطوري الفارسي. 

غرفة الثورات المضادة لا تشتغل على غير أخطاء الثورة نفسها لأنها ـ الغرفة ذات المقر الخليجي ـ لا تملك زمام المبادرة إلا من خلال آليتين الإرهاب من ناحية أولى ونظرية المؤامرة من ناحية ثانية. حيث تتيح الآلية الأولى هامشا كبيرا من المناورة من أجل شيطنة المعارضة والمقاومة وكل نفس يختلف عن الرواية الرسمية للخطاب الاستبدادي أو يشذ عنها. بل هي الآلية التي تنخرط في الحرب العالمية على " الإرهاب الإسلامي " ـ طبعا ـ وتمكّن النظام العائد من استعمال كل الوسائل المحرمة دولية بحجة محاربة الإرهاب مثلما يفعل النظام السوري في " دوما " مثلا أو سلسلة الإعدامات التي يمارسها النظام الانقلابي في مصر. أما نظرية المؤامرة فهي الآلية النظرية التي تسمح للنظام الاستبدادي العربي بتقمص دور الضحية مستفيدا من الزخم التاريخي لخطاب التنويم الإيديولوجي ومجموع الشعارات والأحلام الزائفة المرتبطة به كالمقاومة والممانعة والتقدمية وهي أوهام أثبت التاريخ أنها أقنعة تخفي وراءها أشرس الأنظمة القمعية في التاريخ كما هو الحال في مصر وليبيا وسوريا والعراق. 

الثورات العربية لم تنسق فيما بينها وهو خطأ قاتل خاصة عندما أفرز المشهد الثوري جديد عودة غير متوقعة لأنماط الأيديولوجيا السياسية في شكلها الحزبي القديم بسبب الفراغ الكبير الذي كان يملأ الساحة السياسية والفكرية العربية. إن الصحراء التي تركها النظام الاستبدادي العربي على المستوى الفكري هي أعظم جرائمه على الإطلاق حيث منع كل أنواع البدائل على الأرض وفعّل إجرائيا شعاره الصامت " الاستبداد أو القضاء على العباد " وهو شعار سار به النظام الطائفي إلى أقصاه " الأسد أو لا أحد " أو " الأسد أو نحرق البلد" وقد حرقوها فعلا. لكن هذا لا ينفي المسؤولية التاريخية الكبيرة للنخب السياسية التي تسلمت السلطة والمعارضة بعد الثورة عندما منحت الدولة العميقة كل الفرص من أجل القضاء على المولود الثوري من خلال عجزها عن إدارة المسار الانتقالي وهو أخطر مسارات الثورات .   

اليوم تعيد الأنظمة العربية ـالوكيل الرسمي للقوى الاستعمارية العالميةـ استنساخ شروط لا تختلف كثيرا عن الشروط التي فجرت الريف التونسي بالأمس القريب وانفجرت معه كل العواصم العربية تقريبا. فما دام القمع والعنف وكبت الحريات والظلم هي الجوهر الذي لا يمكن للنظام الاستبدادي العيش بدونه فإن تجدد الثورات واندلاع الموجات الثورية الكاسحة ليس إلا مسألة وقت... وقت قصير جدا هذه المرة.
التعليقات (0)