نشرت صحيفة لوموند الفرنسية تقريرا حول التجاوزات التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في
غزة، إبان دخوله للقطاع في إطار ما سُمي بعملية "الجرف الصامد"، نقلت فيه شهادات عن ضحايا هذا العدوان، واصفة سلوك الجنود الإسرائيليين "بالانحطاط الأخلاقي".
وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي اطلعت عليه "
عربي21"، إن قطاع غزة شهد في صيف 2014
جرائم عديدة.. وذكرت منها قصة رجل طاعن في السن، كان يسير غير بعيد من نقطة تمركز للجيش الإسرائيلي، ودون أي دافع، ودون إصدار أي تحذير؛ قرر الجندي الإسرائيلي استهدافه، فألحق به إصابة بليغة بقدمه، تركته ملقى على الأرض غير قادر على الحركة، فتساءل الجنود: "هل ما زال حيا؟ هل مات؟"، وفجأة قرر أحدهم إنهاء الجدال عبر توجيه رصاصة أخرى كانت كافية لقتل الرجل المسن.
واعتبرت الصحيفة أن هذه الحادثة، التي رواها عدة جنود كانوا شهود عيان عليها، تندرج ضمن الفضيحة الأكثر خطورة التي تعصف بالجيش الإسرائيلي منذ نهاية تلك
الحرب.
وأشارت إلى أن جمعية غير حكومية تدعى "كسر الصمت" (Breaking The Silence)، تضم عدة مقاتلين سابقين ضمن صفوف الجيش الإسرائيلي، نشرت يوم الاثنين 4 أيار/ مايو مجموعة من الشهادات، التي أدلى بها حوالي 60 مجندا إسرائيليا شاركوا في عملية "الجرف الصامد"، دون أن تكشف هوياتهم الحقيقية.
وأضافت الصحيفة أن هذه العملية العسكرية التي امتدت من 8 تموز/ يوليو إلى 26 آب/ أغسطس 2014 أدت إلى وقوع ألفين و100 قتيل
فلسطيني و66 جنديا إسرائيليا. وأعلنت "إسرائيل" عقبها عن نجاحها في تدمير 32 نفقا كانت تستعملها المقاومة للتسلل وشن الهجمات. وقد أدى ذلك العدوان إلى إيقاع خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة في القطاع، ما طرح تساؤلات عديدة حول أخلاقيات الجيش الإسرائيلي.
ولاحظت الصحيفة أن منظمة "كسر الصمت" تتفادى استعمال مصطلح "جرائم حرب"، ولكن الأدلة التي جمعتها هذه المنظمة، وقامت بتنظيمها وربطها ببعضها، ثم عرضها على الرقابة العسكرية، كما يفرض القانون الإسرائيلي في المسائل المتعلقة بالأمن القومي؛ تعد هامة، حيث إنها تكشف عدة حقائق خطيرة لم تظهر من قبل للرأي العام.
ونقلت في هذا السياق عن المحامي ميخائيل صفار، الذي يعمل مستشارا لدى هذه الجمعية منذ 10 سنوات، قوله: "هذا العمل يزيد من الشكوك حيال ارتكاب الجنود لانتهاكات القوانين والمعايير الإنسانية، أتمنى أن تكون هذه مجرد بداية لكشف الحقائق، ولكن أخشى من الحملة التي سيتم شنها ضد نشطاء المنظمة وضد مصادر معلوماتهم؛ لأن الإسرائيليين لا يهتمون إلا بمصالحهم القومية، ويوما بعد يوم يصبحون أكثر تعصبا ورفضا لأي انتقادات".
وأوردت الصحيفة أن حوالي ربع الشهود المستجوبين كانوا من الجنود، وهم يمثلون مختلف فروع الجيش الإسرائيلي، وبعضهم يحملون السلاح، والبعض الآخر يشغل مناصب قيادية في الجيش. وتؤكد منظمة "كسر الصمت" أن هذا التنوع في المصادر مكنها من رسم صورة واضحة عن السياسات العامة للجيش، التي يتم تحديدها في أعلى هرم القيادة، سواء عند القيام بالقصف، أم عند التدخل البري.
واعتبرت أن هذه الصورة التي كشفها هذا التحقيق تدحض "كذبة انضباط جيش الدفاع الإسرائيلي، وتقيده بمعايير أخلاقية مشددة، مثل تحذير المدنيين قبل شن أي هجوم في أماكن تواجدهم، وإعطائهم فرصة للهرب إلى مكان آمن".
وذكرت أن روايات الشهود تكشف حقائق مفزعة، إذ إنه تحت ذريعة خفض نسبة الخطر المحيط بالجندي الإسرائيلي؛ يتم إطلاق أيادي الجنود لإطلاق النار على أي هدف، دون الحاجة لتبريرات، ويتم التغاضي عن قواعد الاشتباك المتمثلة في التفريق بين المسلحين والمدنيين، واستعمال القوة بطريقة تتناسب مع حجم الهدف.
ونقلت عن أحد جنود المشاة قوله: "لقد تلقى الجنود أوامر واضحة من قادتهم بإطلاق النار على أي شخص يظهر في مناطق القتال، ما يعني ببساطة أن كل إنسان يوجد في تلك المنطقة هو هدف مشروع". ونقلت عن جندي آخر قوله: "لقد شرحوا لنا أنه لا يفترض وجود مدنيين في هذه المناطق، وبالتالي فإنه ما إن تقع أعيننا على أي شخص حتى نطلق النار مباشرة وبدون تردد".
واستنتجت الصحيفة من هذه الشهادات؛ أن التعليمات التي أصدرها القادة العسكريون لمجنديهم كانت واضحة، وهي تهدف لإقناعهم بأن الشك أو التردد يعني المخاطرة، ولذلك يجب إطلاق النار على كل شيء يتحرك، سواء كان شخصا يطل برأسه من نافذة بيته، أم يسير في الطريق على بعد 200 متر من مكان تمركز الجيش. وحتى عند عدم وجود هدف واضح في مجال الرؤية؛ فإنه يجب إطلاق بعض القذائف والصواريخ بشكل عشوائي بهدف "تعقيم المكان" بحسب تعبير عناصر الجيش، كما أنه يجب إرسال الجرافات المدرعة لتسوية كل المباني بالأرض قبل التقدم، وذلك لضمان رؤية واضحة.
وأشارت "لوموند" إلى حادثة أخرى تم خلالها إرسال طائرة بدون طيار لمراقبة امرأتين كانتا تسيران على بعد 800 متر من القوات الإسرائيلية، وقد اشتبه الجنود بكونهما تجمعان المعلومات لعناصر المقاومة الفلسطينية، فتم إرداؤهما على الفور دون التثبت من شيء.
وذكرت أن القيادة "تركت المجال للجنود لتقدير الأمور بأنفسهم في الميدان، ومع مرور الأيام، فقد اختلطت لديهم مفاهيم الخير والشر، حتى أصبحت الحرب كأنها لعبة فيديو، لا قيمة لأرواح الناس فيها".
وتساءلت الصحيفة حول إمكانية مراقبة الجيش، حيث إن القضاء العسكري الإسرائيلي فتح 13 تحقيقا جنائيا، منها تحقيقان للاشتباه بارتكاب عملية نهب، ثم تم غلق ملفيهما لعدم حضور المتضررين، أما القضايا الأخرى فتتعلق ببعض الأحداث الأليمة التي شهدتها عملية "الجرف الصامد"، مثل مقتل الأطفال الأربعة على شاطئ غزة في 16 تموز/ يوليو 2014.
ولكنها اعتبرت أن هذه التحقيقات الصورية لا تبعث على الثقة، فقد أعلنت جمعيتان حقوقيتان إسرائيليتان، هما "بيت سالم" و"ياش دين"، إيقاف التعاون مع القضاء، بعد أن اقتنعتا بعدم جدوى مسار العدالة في "إسرائيل". فـ"في حرب 2008- 2009 تم فتح تحقيق بعد سقوط 1400 فلسطيني، وانتهى الأمر إلى إصدار أحكام كان أقصاها السجن لمدة 15 شهرا ضد جندي بتهمة سرقة بطاقة بنكية. ثم على أثر حرب سنة 2012، التي ذهب ضحيتها 167 فسطينيا، تم تشكيل لجنة تحقيق عسكرية؛ خلصت إلى أن سلوك الجنود في تلك الحرب كان في غاية المهنية".