حملت حقيبتي وانطلقت إلى معبر
رفح بعد شهرين من الإعداد والترتيب لهذا السفر، كنت متوجهاً إلى لبنان للمشاركة في المرحلة الأخيرة لإحدى المسابقات على مستوى الوطن العربي، وقد كانت فرصتي بالفوز كبيرة لولا أن ضابط المخابرات
المصرية قال لي: "رَوّح"
أظهرت له التأشيرة وتذكرة الطائرة ودعوة الحضور وورقة المشاركة في المسابقة حتى حجزي في الفندق في لبنان أظهرته له، لكنه أصر على قراره: "روّح ممنوع تدخل مصر". أجبته بسرعة وقتها: "أنا مش عايز أعدي مصر، أنا عايز أطلع من مطار القاهرة بس، وما عندي مشكلة في الترحيل". كانت إجابته أسرع: "قلت لك روّح يعني روّح، مفيش ترحيل"، والترحيل هو أن تقوم السلطات المصرية بإدخال عدد من المسافرين من قطاع
غزة في باص، تتقدمه سيارة شرطة حيث يسير الباص أكثر من 450 كيلو متراً مباشرة من معبر رفح إلى مطار القاهرة، وتكون جوازات السفر في حوزة الشرطة المصرية، وهو إجراء لمنع الفلسطيني من دخول مصر. كما تقوم السلطات المصرية بهذا الإجراء على الفلسطينيين الذين يهبطون في مطار القاهرة للعودة إلى قطاع غزة.
عدت إلى بيتي يومها وقد خسرت المسابقة، ولكن أحد العائدين معي كان قد خسر فرصته في العلاج إذ كان مصاباً بالسرطان ويحتاج لعلاج فوري عاجل.
نص قانون الأمم المتحدة في المادة 13من الإعلان العالمي لحقوق الانسان على أنه: "يحق لكل فرد أن يغادر أي بلاد بما في ذلك بلاده، كما يحق له العودة إليها"، ولم يذكر القانون مبررات لهذا الحق، لكن الإنسان في غزة لا يستطيع السفر إلا بحجة؛ كعلاج الأمراض المستعصية، أو الحج، أو منحة تعليم، أو حالة إنسانية صعبة، ودون حجة مقنعة فإنه لن يتمكن من السفر إلا في الأحلام.
تبدأ معاناة المسافر من قطاع غزة قبل موعد السفر بأشهر؛ إذا لا بد له من تسجيل اسمه لدى وزارة الداخلية كي يحجز مقعداً للخروج في حال فتح المعبر، كما يجب عليه أن يحضر كل الأوراق الثبوتية التي تدلل على صدق حجته؛ فإن كان مريضاً مثلا، فعليه أن يحضر عدة أوراق من وزارة الصحة ومن طبيبه الخاص وورقة موقعة من وزارة الخارجية، تثبت بأنه بحاجة للعلاج وتقارير طبية تبين أن حالته صعبة، وصوراً وملفات. هذا بالإضافة إلى تأشيرة دخول وعدم ممانعة وغيرها من الأوراق الكثيرة.
تعقيدات السفر هذه ليست هي المشكلة الأكبر، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن هذا المعبر (أي معبر رفح) لا يفتح إلا قليلاً، وهو في معظم أيامه مغلق، وإن تم فتحه فلساعات يدخل فيها العشرات أو المئات كحد أقصى، فحسب الهيئة الوطنية لكسر الحصار، فإنه منذ عام 2006 حتى عام 2012 تم فتح معبر رفح 322 يوماً فقط، وفي عام 2013 تم فتح المعبر 88 يوماً حسب إحصائيات الإدارةالعامة للمعابر بوزارة الداخلية. وفي عام 2014 تم فتح المعبر 48 يوماً فقط، بينما بقي مغلقاً طوال العام تقريباً، حتى في أثناء العدوان الأخير على غزة كانت السلطات المصرية تغلق المعبر في وجوه الجرحى والمصابين والحالات الإنسانية.
في سجون العالم يحصل السجين على استراحة يومية تسمى بالعامية "فورة"، وهي ساعة يخرج فيها السجين من زنزانته إلى ساحة خارجية ليمارس فيها حياته بشيء من الحرية، لكن الغريب أن سجناء أكبر
سجن في العالم (قطاع غزة) لا يحصلون على هذه الفورة إلا قليلاً!
تسبب إغلاق معبر رفح بوفاة الكثير من المرضى الذين كانوا بحاجة إلى السفر للعلاج، بينهم أطفال ونساء. كما أن إغلاق المعبر أدى لفقدان الكثير من الطلبة لمنحهم الدراسية في الجامعات، وأدى لضياع مستقبل البعض بفقدان إقاماتهم في الدول التي عاشوا فيها وأصبح من الصعب بل من المستحيل تجديدها، وهم بذلك محرومون من لقاء عائلاتهم والعودة إلى وظائفهم.
كثيرة هي المبررات التي تسوقها السلطات المصرية عند إغلاق المعبر؛ بداية بتعطل الحواسيب والشبكة، مرواً بمنع مرور الإرهابيين، وانتهاء بالحفاظ على الأمن القومي المصري. لماذا لا تتعطل الحواسيب في معبر طابا (بين مصر والاحتلال)؟ لماذا لا تسقط الشبكة في مطار القاهرة مثلاً؟ هل تريد مصر أن تحافظ على أمنها القومي بمنع مريضة سرطان عمرها فاق السبعين؟ أو طالب يريد أن يمر بمصر إلى دولة أخرى؟ أو امرأة أتت لتزور أهلها في غزة وترغب بالعودة إلى عائلتها وأولادها قبل أن تنتهي إقامتها؟ هل قضت مصر على الإرهاب عندما تركت الطفل أحمد (ذو السنتين) يموت في غزة وهو بحاجة للعلاج خارج غزة؟
في الوقت نفسه الذي تغلق فيه السلطات المصرية معبر رفح، تفتح معبر طابا لدخول السياح الصهاينة على مدار الساعة، وعلى هذا الحال علق أحدهم: "بعد مقارنة الوضع في معبر طابا بالوضع في معبر رفح، أقول للقيادة المصرية: انسوا التاريخ وانسوا الجغرافيا وانسوا الجيرة وانسوا أننا مسلمون وانسوا العروبة، واعتبرونا يهوداً".